السـفــــــر : قصةٌ قصـــــــيرةٌ ـ لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

الحي القديم يتفتحُ بدروبهِ الضيقة الملتوية ، كالأيام والأنام ، أحجارهُ تآكلت وتساقطت قشرتها ، وتحولت غيرانها ملاجئ للهوام .

بيوتٌ متراكمة فوق بعضها ، تتشاجرُ ضلوعها وأبوابها ، قميئة ، كالحشائش الفطرية الذابلة ، قماماتها حدائقٌ للذباب ، ومسامُ دروبها تنزف هياكل وفئرانٌ وأشباحٌ ومجانين وغرباء .

في أيامهِ ، كان هذا الحيُ بهيجاً ، صلداً ، لا يدخلهُ أغرابٌ ، مزدحماً بأبنائه الضاحكين ، المثرثرين ، وفي كلِ ركنٍ جماعة تلعبُ الورقَ ، أو تغزلُ حكايات السفر . بيوتٌ فارغة ومهدمة ، عششٌ مليئة بلغات عجيبة ، والكلُ صامت ، وغريب ومريب ، والبردُ يعشعشُ في الدروب مع الخفافيش ، والمقهى القريب مليءٌ بقوالب الرجال الذائبين ،  ويتصاعدُ غناءٌ من البلاستك اللزج .

خمسة عشر عاماً في السجن ، لم تبق شيئاً على حاله ، تاهت دروبُ الحارات من قدميه ، وسألته العصافيرُ عن جنسيته ، بين الجدران ، في برميل الزيت المغلي ، كان يحلمُ بالتوغل هنا ، بالإصغاء إلى أصوات الأحجار القديمة ، والمطر ، وشرب ماء عيون البنات .

أيضاً كان حلمه أن يطير ، كالنوارس ، بعيداً بعيداً، يخترق جدران البلدان ، ينام في مدريد، ويصيد الطيور في ادغال أفريقيا، يجري وراء الكنغر في استراليا، يرى الجليد في سيبيريا . . . آه كم حلم بالسفر ، بالطيران، بالذبان في عيون المضيفات، بزبدة البيرة في باريس، بالتماثيل المنحنية حباً وحتراماً، بصبايا الشرق الذهبيات الطازجات كالأسماك، بمياه النيل وشقق الدفء والصحو إلى الفجر، بتماسيح الكونغو الكسولة ، بشقراوات الشمال بحيراتهن الساخنة.

خمسة عشر عاماً بين الجدران . لو كان جلده من الإسمنت لانفجر!

خمسة عشر ألف مليون شجار وغناء نازف للحنجرة وليل صامت طويل تئن فيه الوسائد ، وبصقات وصفعات من شرطي صخري يفخر طوال الليل بغزواته للنساء، واليدان ذابتا من الفؤوس والصخور والقيود والأبواب الحديد، وتصير الأحلام  مسامير، وتسأل النار: هل من مزيد ؟ 

حلم دائماً أن يأتي إلى هنا، يسير في هذا الزقاق ، ويتجه إلى البيت العتيق، يفتح الباب، ويدخل الغرفة المقدسة، طوبى لقدميه وهما تطآن تلك البقعة، ويداه تتوجهان إلى الجدار، تحطمان طوبة وأخرى وتنتزعان حقيبة صغيرة مخبأة، تكسران القفل وتطلان في كومة النقود المتظرة. 

جبل من الأثداء، ومدن الهند الصاخبة، وبارات آسيا الواسعة، ويداك تلمسان الأعالي، ونساء يحترقن حباً . . وأنت ترقص في كهوف مضيئة ، وتحرق رزنامة الأيام الحجرية. تشرب وتشرب حتى تصير نهراً للحب قطراته دواء للسنين.

خمسة عشر عاماً وهذا الكنز مخبأ هنا، ينتظر حنانه، وأوراقه النقدية يئست من البطالة، والظلمة، الآن ستتحول إلى غابات من الأطفال ، وطيور مهاجرة أبداً.

منذ أن خرج كان الجوع الضاري نزيل جسده. كل أهله ماتوا أو اغتربوا، جاء هنا وسكن غرفة رخيصة شاركته فيها فئران سمينة ومومس عجوز.

ثم رأى بيت كنزه، أنه شامخ بأطلاله.

في السجن كان يسكن معه في فراشه. يسأل القادمين بخبث لص عريق «ماذا جرى للحي؟ إنني أحبه . . أريد أن أعرف ماذا حدث لبيوته وطرقه وبشره؟ هل لا زال مقهاه موجوداً؟ والسكة التي بقربه . . ماذا جر لها »؟

ومرة أعطاه أحدهم سماً وقال أن الحي كله سيهدم، فوصل رأسه إلى السقف، وعاف وجبة سمك نادرة، ورأى فينسيا تغرق، وهو في الصحراء الكبرى جذع يابس يؤشر للنجوم.

تظاهر بالمرض وأرسل إلى المستشفى وطالع صحيفة سمع أخباراً وعاد بحلمه سليماً.

سيخرج! حتماً سيخرج، في ذلك اليوم من تلك السنة سيطلع، ويقابل الشمس والشوارع، ويضع السماء مظلة فوق رأسه، ويعطي الدروب البكر لقدميه، والصبايا لدفئه، ويجدف في النيل، ويغرف التربة الحمراء في الأوراس، ويصعد إلى الألب بكرة من الثياب، وقلب من الشباب.

وها هو الآن يقترب من بيت المرأة الشهية، حيث كتريه هناك. فور أن خرج تمترس في هذا الزقاق بائعاً مرة، مصلحاً لدرجات الصبيان مرة، وهكذا صادق ولدها الأكبر. عرف أن أباه مسافر، وأمه، مع أخيه الآخر، وحدهما في البيت العتيق. فغازل أمه وتمنى لأبيه سفراً جميلاً. 

وقد فوجئ بقامة المرأة المديدة، وصدرها الواسع، كمرفأ ذي منارتين عاليتين. فمتى يلقي بمرساته ويتلو صلواته؟

تودد إليها كثيراً، وكانت تصده، وتتطلع إلى شكله الهرم، هيكله العظمي الطالع تواً من التشحيم، برثاء واستياء . وما كانت تدري، أن في هذا الهيكل الشائب كل مولدات الطاقة القادرة على ارسالها إلى المشترى، بل أبعد من ذلك إلى الجنة.

حين يضع رأسه على جدار غرفته، متأملاً انتفاضة مفاجئة لفأر، أو صناعة المومس العجوز لشايها الأسود الكريه، يصرخ:

متى، متى؟ متى يطلع من هذا السجن الدائم، ومن هذا التحديق المستمر للجدران فيه. كرهت شكله، وعافت طلعته . . كأن كل جلده يصرخ معه، ويقفز إلى الماء، أو إلى جسد طائرة عابرة للحلم.

لكن المرأة الشهية طالعته مرة بود، وقالت «الصبيان صارا يحبانك! » فهتف «ومتى أنت؟» فضحكت وأغلقت الباب.

فكر مراراً أن يقفز الجدار المرتفع، ويتسلل كلص إلى البيت، يتوجه إلى الغرفة الأخرى، ويحطم الطوبتين بضربة واحدة، وينتزع الحقيبة ويلوذ بالفرار.

عندئذ تنبثق شلالات افريقيا وقطعانها البكر، يتألق وجه صبية إسبانية في ليل العسل، وتضج بالغناء والورد ساحة في بروكسل. وكأن كل البنايات العتيقة، الصلدة تطل عليه كقرون من النبيذ.

كم استغرق في استكشاف المحيط والطيران إلى القمر؟ ثلاث سنوات . . كان الدم يتفجر فيها من جباه المساجين وينفذ السكر والحشيش وتخنق قطط . وكم ساح في البرازيل بلا نقود وهو يقضي عقوبة في زنزانة صغيرة كأنها حقيبة سفر؟

الآن سيتحقق الحلم.

ها هي المرأة الشهية تدعوه للدخول في الليل البهيم . تضاريسها ناعمة وهو سلحفاة فوق كثبان رملية . جسد من الغيم ورغوة البيرة ولهب الشمس . قطارات تمضي ولا تأتي، غابات تمطر وتحترق، أم تحضنه وتناغيه، وتنزع كل ابر الأيام . كلمات رقيقة وزجاجة دافئة وقصيدة. حمام ساخن في  جزيرة الجبال والثلوج.

يصيح الديك، يخرج ناسياً الكنز حتى الليلة التالية، يرى نفسه عالقاً في أضراس الحي وآسيا في الحلم وهو دجاجة في شواية تدور طوال اليوم . . يصرخ: سأكسر الجدار وانتزع الحقيبة ولن أفكر بالمرأة والأولاد والحليب والحفاظات، وسأندفع في السماء صاروخاً موجهاً إلى الينابيع السعيدة!

وتدعوه المرأة الشهية، ويدهش لهذا التجدد في النار، وتحول الكثبان إلى رمان، وهو يسبح في مياه رقراقة تشتعل حيناً، وتتجمد في أحيان، ويرى البراري والجبال والتماثيل، والكركدن يتقافز في فضاء من القمح المشتعل.

إنه الآن زوج، والمرأة الشهية بها ثمرته، وفي كل صرخة على المشترين يرى قطاراً يقتحم نفقاً، وبالوناً يرحل فارغاً، وليس في اليد نقود، وكل فلس ينتزعه الأولاد والخبز وأكياس القمامة .

يأتي متأخراً فلا يبحث عن الجدار والحقيبة الصغيرة المختفية، وفي بعض الليالي ينهض مذعوراً، كأن شبحاً صديقاً يناديه، وذات يوم بحث في كل مكان عن قطعته الصلدة المفرغة فما وعت الجدران نداءاته، ولا استجاب الحجر لأمنياته .

وهو قريب من نبعه الليلي المتدفق حرارة معدنية، رأى صورة الزوج السابق، ملقاة على البساط ، قربه، ولأول مرة يرى شكله واضحاً . إنه يبتسم وكأنه يهنئه بامتطاء فرسه .

صعد ذلك السؤال الغريب المفاجئ النائم تحت قمامة أيامه، كيف لم يسألها أبداً عن ذلك الأب الغائب المسافر الذي لا يرجع؟

ضمته إليها وقالت «لا أعرف ماذا حدث له ؟ ذات يوم رأيته يعثر على شيء في الجدار المتساقط . صمت يوماً كاملاً . ثم زعم أنه سوف يسافر لزيارة قريب له . بعد أن أغلق الباب وراءه لم أره بعد ذلك أبداً . سمعت مراراً عنه. قيل إنه مرة في الشرق ومرة في الغرب .

لا أدري ماذا جرى له . . لماذا تسأل؟».

ــــــــــــــــــــــ

4 - سهرة «قصص»، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1994.

 

❃❁✾❈✤

القصص القصيرة:

1 - لحن الشتاء «قصص»، دار الغد، المنامة_ البحرين، 1975.

«القصص: الغرباء - الملك - هكذا تكلم عبد المولى - الكلاب - اغتيال - حامل البرق - الملاذ - السندباد - لحن الشتاء - الوحل - نجمة الخليج - الطائر - القبر الكبير - الصدى - العين».

2 - الرمل والياسمين «قصص»، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1982.

«القصص: الفتاة والأمير - علي بابا واللصوص - شجرة الياسمين - العوسجالوجه - الأرض والسماء - المصباح - نزهة - الصورة - اللقاء - لعبة الرمل- الأحجار - العرائس - الماء والدخان».

3 - يوم قائظ «قصص»، دار الفارابي، بيروت، 1984.

«القصص: الدرب - أماه... أين أنت - الخروج - الجد - الجزيرة».

4 - سهرة «قصص»، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1994.

«القصص: السفر - سهرة - قبضة تراب - الطوفان - الأضواء - ليلة رأس السنة - خميس - هذا الجسد لك - هذا الجسد لي - أنا وأمي - الرمل والحجر».

5 - دهشة الساحر «قصص»، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، 1997.

«القصص: طريق النبع - الأصنام - الليل والنهار - الأميرة والصعلوك - الترانيم - دهشة الساحر - الصحراء - الجبل البعيد- الأحفاد - نجمة الصباح».

6 - جنون النخيل «قصص»، دار شرقيات، القاهرة 1998.

«القصص: بعد الانفجار - الموت لأكثر من مرة واحدة! - الأخوان - شهوة الدم - ياقوت - جنون النخيل - النوارس تغادر المدينة - رجب وأمينة - عند التلال - الأم والموت - النفق - ميلاد».

7 - سيد الضريح   «قصص»، وكالة الصحافة العربية، القاهرة، 2003.

«القصص: طائران فوق عرش النار - وراء الجبال - ثنائية القتل المتخفي - البركان - سيد الضريح وتر في الليل المقطوعأطيافرؤيامحاكمة على باباالحارس».

8 - الكسيحُ ينهض «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: الشاهدُ.. على اليمين - الكسيحُ ينهض - جزيرة الموتى - مكي الجني - عرضٌ في الظلام - حفار القبور - شراء روح - كابوس - ليلة صوفية - الخنفساء - بائع الموسيقى- الجنة - الطائر الأصفر - موت سعاد - زينب والعصافير - شريفة والأشباح - موزة والزيت - حمامات فوق سطح قلبي - سقوط اللون - الطريق إلى الحج - حادثة تحت المطر - قمرٌ ولصوص وشحاذون - مقامة التلفزيون - موتٌ في سوق مزدحمٍ - نهاياتُ أغسطس - المغني والأميرة».

9 - أنطولوجيا الحمير «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: انطولوجيا الحمير - عمران - على أجنحة الرماد - خيمةٌ في الجوار - ناشرٌ ومنشورٌ- شهوة الأرض - إغلاقُ المتحفِ لدواعي الإصلاح - طائرٌ في الدخان - الحيُّ والميت - الأعزلُ في الشركِ - الرادود - تحقيقٌ - المطرُ يموتُ متسولاً - بدون ساقين - عودة الشيخ لرباه - بيت الرماد - صلاةُ الجائع - في غابات الريف - الحية - العـَلـَم - دموعُ البقرة - في الثلاجة - مقامات الشيخ معيوف».

10 - إنهم يهزون الأرض! «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: رسالةٌ من بـينِ الأظافر - الأسود - عاليةٌ - جلسةٌ سادسةٌ للألمِ - غيابٌ - عودةٌ للمهاجرِ - دائرةُ السعفِ - الضمير - المحارب الذي لم يحارب - الموتُ حُبـَأً - إنهم يهزون الأرض! - حـُلمٌ في الغسق - رحلة الرماد - أعلامٌ على الماء - گبگب الخليج الأخير - المنتمي إلى جبريل - البق - رغيفُ العسلِ والجمر - عوليس أو إدريس - المفازة - قضايا هاشم المختار - أنشودة الصقر - غليانُ المياه».

11 - ضوء المعتزلة «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: ضوء المعتزلة - جزرُ الأقمار السوداء - سيرة شهاب - معصومة وجلنار- سارق الأطفال - شظايا - الترابيون».

12 - باب البحر «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2020.

«القصص: وراء البحر.. - كل شيء ليس على ما يرام - قمرٌ فوق دمشق - الحب هو الحب - شجرة في بيت الجيران - المذبحة - إجازة نصف يوم - حادث - البائع والكلب - ماذا تبغين ايتها الكآبة؟ - إمرأة الربان - إذا أردتَ أن تكونَ حماراً - اللوحة الأخيرة - شاعرُ الصراف الآلي - البيت - حوت - أطروحةٌ - ملكة الشاشة - الغولة - وسواسٌ - مقامة المسرح - إعدام مؤلف - يقظة غريبة».


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من تقنيات القصة القصيرة عند القاص البحريني عبدالله خليفة (المكان في مجموعة سهرة أنموذجاً)

رواية «الأقلف» محاولة لتشكيل عالم مختلف