البركان : قصـــــــةٌ قصـــــــــيرةٌ ـــ لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة
المسحوق الرمادي ينتشر فوق المدينة. يده التي تمتلىء البثور تؤلمه. غلالة من الاشباح تحومُ مع النهار. لا يكاد يتنفس، يسحب الهواء من الفراغ والعدم.
الطرق على حالها دائماً، العمال المهاجرون يملؤون الدكاكين والأرصفة، والمراهقون يلعبون بالإبر والورق وأعضاءهم. النثار الرمادي كالمطر، ثمة امرأة عجوز تصرخ (بركاتك يا شيخ نصار)، سيارة تحاذيه ويطل وجه بغترة وعقال ويحدق فيه بكراهية مؤلمة.
يدخلُ الصيدلية الملأى بالزجاجات المُغّلفة. يضع أصبعه على الزجاج، يتمعنُ الصيدليُ فيها، يحضر زجاجة ويفتحها، يحاول أن يستخرج المسحوق الترابي وينثره على يده!
يخرج إلى الشارع الذي امتلأ بحشد من المجذومين والبرص والمعاقين، يهتزون رقصاً وغناءً وبكاءً، يلتقطون المسحوق البركاني، ويمسحونه على وجوههم وأرجلهم وملامحهم الباقية...
حينما تأخذه الفراشات المحترقة إلى روحه ويهبط الحزنُ مثل الأظافر وينسى إن الأشجار تنمو قوية بعد الحمم، وإن الجروح تشتعل نوراً، يغرق في حانة بائسة يمزق التاريخ والوجوه والحضور، فيُحذف بالسواعد القوية للحراس..
يمضي عند الضحى غلى عمله في (المؤسسة العامة للشيخ نصار)، الشمس وراء عباءة من الرماد، والطرق مرسومة بأنفاس النار، والموظفون غارقون في الكلمات المتقاطعة والأبراج والنجوم، وكلمات الصحف الكبيرة الحمراء تعلن عن أمطار ونقل غابات من أفريقيا وثلوج..يداه ملتهبتان، وبدأ جلدٌ كاوٍ في التساقط، تحدقُ فيه الموظفة الجميلة بألم وتخرج من حقيبتها ورقة لوز مربوطة، فيها ملح مخلوط بحصى بركاني:
ـــ سوف يشفيك..
ـــ ألا تخرجين معي؟
ـــ مستحيل.. إلا إذا وضعت هذا الدواء على يديك!
يخرج إلى الشارع المزدحم. إشارات ضوء، سيارات حاشدة، عادم أسود يلتصق بالرماد في طين لزج ملتهب، الجلود تنز ناراً وفحماً وأدعية. عباءات سوداء قاتمة وراقصات شبه عاريات. يحدق في الحشد المتقارب عند المقهى رؤوساً ولحى ونارجيلات. يقترب، العرقُ يتصبب منه، يطلب كأس شاي، مرت سحابة كبيرة من الرصاص، امتلأت الكؤوس بأنفاس الشيطان والبركان. تساقطت ذباباتٌ. رفعوا الكؤوس وشربوها بنشوة.
صاح شاب: بركاتك يا شيخ نصار!
لم يرفع كأسه ويشربه، حدقوا فيه غاضبين. نهض بهدوء، قال:
ـــ أود أن أعرف من هو هذا الشيخ نصار؟ ماذا فعل لكم؟ انتم تعيشون أسوأ من الحمير، انظروا إلى المدن التي حولكم: حدائقٌ غناءٌ وأنهار صناعية.. وأنتم تعيشون في زرائب..
لم يستطع أن يكمل خطبته التي بدت له إنها ستكون طويلة ومقنعة تماماً، جاءته لكماتٌ رهيبة ونعالٌ صلدة قاسية. ثم حضرت المليشيا الشعبية وقتادته إلى إحدى قلاعها.
حين خرج بعد سنوات كانت المرئيات مختلفة، كان الرذاذ البركانيُ لا يزال يغمر الوجوه، وبدا الناس المجذومون والمقعدون مختلفين.
في الليل المليء بالمعنى في القلعة رأى الشيخ نصار وثلته وهم يزحفون نحو البركان، الذي كانت تنبعث منه الشواظ والغازات السامة، ثلة غريبة تكونت من الروح، احترقت أيديها مهي تزحف، تساقط نفرٌ منها كأعواد مشتعلة، تستروا بحصى هائل، جاءت طيورٌ ومياهٌ من السماء، تساقطت تلالٌ من رمل والأسى، نزل الشيخ نصار سحابة من الأمطار في قعر البركان، وخمدت النار.
راح يكتب: إن كل الملاحم التي كُتبت عنه لم تصل لب المعجزة. كل هذه الجبال من الأوراق والأشرطة والأفلام لم تستطع أن ترى النور.
وهو في هيمنته وبخوره وصلواته كانت تأتيه أطياف شتى، الأزقة المكمتلئة بالروث والأناشيد، العباءات الكبرى من ثاني أكسيد الكربون، الأطفال الذين يلقون في الهوة عسى البركان أن يهدأ، وهو لا يهدأ، والأرض لا تزال تختض وتتقيأ، والرذاذ في شاي الصباح ووضوء المساء، وأشرطة الشيخ نصار لا تقتل ذبابة عن وجه طفل ضرير، والمدينة تغوص في الأرض، وتتشقق التربة وتظهر عروق من النار وأبخرة سامة، وحرائق غامضة في الأكواخ، وتتكسر الأشجار العملاقة بجلجلة عظيمة..
يهذي، يدهُ تمتلىء بالبثور ثانية، يتطلع إلى أشباح كثيرة تنسل منه، يصرخ: الشيخ نصار كذبة كبرى في حياة هذه المدينة. يكسر أسطوانة على راسه. أسكت، أسكت، الرجل ضحى بنفسه، ماذا فعلت انت غير أن ثرت قليلاً، غنه رجل مغمورٌ طلع من قمح الأرض وأسكت الوحش في الأعماق، والآن كل الحصالات تتغذى من تمائمه!
يمشي قرب نهر الصديد والرماد. سجادة صفراءٌ تنبعث منها الأدخنة والأبخرة. امهاتٌ يضعن أطفالهن المشوهين في مائه المشتعل، ويسحبن لحماً مشوياً صارخاً، هياكل عظمية تتبخر في فحيح البركان، فتيات يشتعلن في صديده الفسفوري الحامض، ويرى سحابات من الأشباح والتعاويذ والبكاء تطير فوق مسرحه الهائل!
وهو يأخذ صبية من المقطوعين، وأضلاعاً أخيرة باقية من الصبايا، ويسحب من بعض الشيوخ حكمة، ومن الأطفال حماساً، ومن الرياح صلابة، يصعدُ نحو البركان، الأرض تعوي متشققة، والحممُ تبقبق وتغلي صاعدة نحو الفوهة الهائلة، ولم يفعل الشيخ نصار شيئاً، فلم يكن في الهوة صخور، ولا تلال مقطوعةُ ملقاة بأجنحة النسور، ولا شيء سوى الهوة الهائلة الفاغرة أفواهها لابتلاع السماء والنجوم!
الأرض تتمزق، وأخاديد عظيمة تتفعى، والحمم تحتفل بالموت، وانهار النار تضم الشجر والقطعان، وهو يمضي مع حشده الصغير وصخوره ومياهه نحو الهوة الكبرى للجحيم!
ــــــــــــــــــــــــــ
7 - سيد الضريح «قصص»، وكالة الصحافة العربية، القاهرة، 2003.
❖ «القصص: طائران فوق عرش النار - وراء الجبال - ثنائية القتل المتخفي - البركان - سيد
الضريح – وتر
في الليل المقطوع – أطياف
– رؤيا
– محاكمة
على بابا – الحارس».
❃❁✾❈✤
✗ القصص القصيرة:
1 - لحن الشتاء «قصص»، دار الغد، المنامة_ البحرين، 1975.
❖ «القصص: الغرباء - الملك - هكذا تكلم عبد المولى - الكلاب - اغتيال - حامل البرق - الملاذ - السندباد - لحن الشتاء - الوحل - نجمة الخليج - الطائر - القبر الكبير - الصدى - العين».
2 - الرمل والياسمين «قصص»، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1982.
❖ «القصص: الفتاة والأمير - علي بابا واللصوص - شجرة الياسمين - العوسج – الوجه - الأرض والسماء - المصباح - نزهة - الصورة - اللقاء - لعبة الرمل- الأحجار - العرائس - الماء والدخان».
3 - يوم قائظ «قصص»، دار الفارابي، بيروت، 1984.
❖ «القصص: الدرب - أماه... أين أنت - الخروج - الجد - الجزيرة».
4 - سهرة «قصص»، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1994.
❖ «القصص: السفر - سهرة - قبضة تراب - الطوفان - الأضواء - ليلة رأس السنة - خميس - هذا الجسد لك - هذا الجسد لي - أنا وأمي - الرمل والحجر».
5 - دهشة الساحر «قصص»، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، 1997.
❖ «القصص: طريق النبع - الأصنام - الليل والنهار - الأميرة والصعلوك - الترانيم - دهشة
الساحر - الصحراء - الجبل البعيد- الأحفاد - نجمة الصباح».
6 - جنون النخيل «قصص»، دار شرقيات، القاهرة 1998.
❖ «القصص: بعد الانفجار - الموت لأكثر من مرة واحدة! - الأخوان - شهوة الدم - ياقوت - جنون النخيل - النوارس تغادر المدينة - رجب
وأمينة - عند التلال - الأم والموت - النفق - ميلاد».
7 - سيد الضريح «قصص»، وكالة الصحافة العربية، القاهرة، 2003.
❖ «القصص: طائران فوق عرش النار -
وراء الجبال - ثنائية القتل المتخفي - البركان -
سيد
الضريح – وتر
في الليل المقطوع – أطياف
– رؤيا
– محاكمة
على بابا – الحارس».
8 - الكسيحُ ينهض «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.
❖ «القصص: الشاهدُ.. على اليمين - الكسيحُ
ينهض - جزيرة الموتى - مكي الجني - عرضٌ في الظلام - حفار القبور - شراء روح - كابوس - ليلة صوفية - الخنفساء - بائع الموسيقى- الجنة - الطائر الأصفر - موت سعاد - زينب والعصافير - شريفة والأشباح - موزة والزيت -
حمامات فوق سطح قلبي - سقوط اللون - الطريق إلى الحج - حادثة تحت المطر - قمرٌ ولصوص وشحاذون - مقامة التلفزيون - موتٌ في سوق مزدحمٍ - نهاياتُ أغسطس - المغني والأميرة».
9 - أنطولوجيا الحمير «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.
❖ «القصص: انطولوجيا الحمير - عمران - على أجنحة الرماد - خيمةٌ في الجوار - ناشرٌ
ومنشورٌ- شهوة الأرض - إغلاقُ المتحفِ لدواعي الإصلاح - طائرٌ في الدخان - الحيُّ والميت - الأعزلُ في الشركِ - الرادود - تحقيقٌ - المطرُ يموتُ متسولاً - بدون ساقين - عودة الشيخ لرباه - بيت الرماد - صلاةُ الجائع - في غابات الريف - الحية - العـَلـَم - دموعُ البقرة - في الثلاجة - مقامات الشيخ معيوف».
10 - إنهم يهزون الأرض! «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.
❖ «القصص: رسالةٌ من بـينِ الأظافر - الأسود - عاليةٌ - جلسةٌ سادسةٌ للألمِ - غيابٌ - عودةٌ للمهاجرِ - دائرةُ السعفِ - الضمير - المحارب الذي لم يحارب - الموتُ حُبـَأً - إنهم يهزون الأرض! - حـُلمٌ في الغسق - رحلة الرماد - أعلامٌ على الماء - گبگب الخليج الأخير - المنتمي إلى جبريل - البق - رغيفُ العسلِ والجمر - عوليس أو إدريس - المفازة - قضايا هاشم المختار - أنشودة الصقر - غليانُ المياه».
11 - ضوء المعتزلة «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.
❖ «القصص: ضوء المعتزلة - جزرُ الأقمار السوداء - سيرة شهاب - معصومة
وجلنار- سارق الأطفال - شظايا - الترابيون».
12 - باب البحر «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2020.
❖ «القصص: وراء البحر.. - كل شيء ليس على ما يرام - قمرٌ فوق دمشق - الحب هو الحب - شجرة في بيت الجيران - المذبحة - إجازة نصف يوم - حادث - البائع والكلب - ماذا تبغين ايتها الكآبة؟ - إمرأة – الربان - إذا
أردتَ
أن
تكونَ
حماراً - اللوحة الأخيرة - شاعرُ الصراف الآلي - البيت - حوت - أطروحةٌ - ملكة الشاشة - الغولة - وسواسٌ - مقامة المسرح - إعدام مؤلف - يقظة غريبة».
تعليقات