تحقيــــقٌ : قصة قصيرة ــ لـ عبدالله خليفة
سارتْ المحققةُ في الممرِ الطويل المعتم ، كان ثمة مصابيح صغيرة تومضُ لسيرِ الأقدام ، الصمتُ الرهيبُ يغلفُ المكانَ ، رسوماتٌ لوجوهِ رجالٍ ذوي أزياء خاصةٍ غريبةٍ تتطلعُ في الممرِ وتحدقُ في كلِ الاتجاهات.
إنفتحَ ممرٌ آخر أقلُّ طولاً وأضيق ، الجداران يقتربان من الكتفين السائرين بهدوء ، والوجوهُ تحدقُ مباشرةً في العينين.
إنفتح بابٌ آخر وكان ثمة حارسةٌ مسلحةٌ تقفُ عند باب.
كانت فتاة جميلة منبطحة على السرير . حالما دخلتْ المحققةُ إعتدلتْ قليلاً وطوتْ ساقيها ، وإرتفعتْ قامتُها.
- مرةً أخرى أريدُ حقيقةَ هذا الطفل الذي في بطنك؟
- ليس لدي جواب آخر ، إنه من الروح ، من إله.
- جوابٌ خطيرٌ وغيرُ مقنع يُعرضكِ لعقابٍ أشد فيما لو كان الطفلُ ابنَ زنى.
العتمةُ تنقشعُ قليلاً في الزنزانة ، السريرُ يصيرُ مسرحاً ، الفتاةُ بين حشدٍ من العاملاتِ في المشغل ، سجاجيدٌ ملونةٌ ناقصةٌ بين أيديهن ، عليها رسوماتٌ لوجوهٍ نضرةٍ ملائكيةٍ تكتملُ عبر أصابعهن الرقيقة الذائبة بين الخيوط والدموع.
الأجسادُ نحيفةٌ ، يغطيها سوادٌ محكم ، الأحجبةُ تسحبُ الشَعرَ للداخل ، الدموعُ الكثيفةُ تصيرُ خيوطَ ضوءٍ رهيفةٍ تنزلُ على السجاجيد ، تتحركُ الوجوهُ المنسوجةُ من ألوانٍ وأنوارٍ وتعانقُ الشابات في ضبابٍ من الحلم.
تقتربُ الفتاةُ من قضبانِ المحكمة:
- لم أرَ رجلاً منذ أن عشتُ في المشغل ، كلهن نساء ، جُلبتُ من أغوارٍ بعيدةٍ وحُبست هنا ، لم أقرأ القصصَ الرديئة ، لم أشاهد أفلاماً أو عروضاً ، في الحجرةِ الصغيرةِ مع زميلاتي عشتُ معهن ، نعملُ نطبخُ نحكي ننام . كيف إذن أحملُ من رجل؟
الفتياتُ منحنياتٌ يشتغلن بهدوءٍ وصبر . النورُ الكثيفُ في الخارج يخفت . تنسدلُ الأستار ، تعمُّ الظلمةُ ، يجثمن على أسرتهن ، تُضاءُ أنوارٌ خافتةٌ سرية ، تظهرُ الفتياتُ بفساتين آخاذة، تتنشر موسيقى جميلة ، يرقصن مع أشباح في قاعة وهمية واسعة ، تتفجر ضحكاتهن.
الفتاة وحدها على السرير الخشبي بين يدها كتاب.
تقول للمحققة:
- يشفُّ نظري فأرى الأرواحَ تطيرُ للسماء ، جميلة مشعة ، مثل القناديل والنجوم ، تحفُ بها الملائكة . ثمة روح لشابٍ جميل ، (خذيني أيتها البهية ، تعالْ يا ملاكي) ، ينزل ، يحضنني . يقول الشيخُ الرئيسُ في مناجاتهِ إن الآفاقَ إنفتحتْ له ، ورأى ما لا يُرى ، أشياء خلابة . لا أذنٌ سمعتْ ولا عينٌ رأت . في الصباح وجدتُ نفسي على السجادة المصنوعة المكتملة!
بابُ المهجعِ يُفتح ، تُنارُ الأضواء ، رئيسةُ المشغلِ تمرُ على الأسرَّة ، ثم تقفْ مبهورةً عند الفتاة الحامل النائمة على السجادة المذهلة الجمال.
تصعدُ المحققةُ للسطحِ الواسعِ للقلعة ، المدينةُ كلها بيوتٌ هاجعة ، المدافعُ القديمةُ صدئة ، وسراديبُ العذابِ والمراقبة كلها إمتلأت بالتراب والغبار ، تتطلعُ في كلِ حَجرٍ:
- ليس ثمة ثغرة ، كل شيء محكم ، من أين جاءَ الرجلُ إذن؟
تجثمُ أمام الشاشاتِ الصغيرةِ المتعددة ، تشاهدُ صورَ العاملاتِ وهن ينسجنَّ ، السجاجيدُ جامدةٌ ، والخيوطُ صعبةٌ ، والظهورُ محنيةٌ ، شاشاتٌ أخرى تُظهرُ العاملات وهن يغتسلن ، أجسادهنَّ نحيفةٌ ومخيفةٌ ، شاشات أخرى وهن يتحدثن بهمسٍ يَكادُ لا يُسمع ثم ينقطع الصوت ، تنحني المحققة ، تُشغلُ أجهزةً أخرى ، لكن حركات الشفاهِ مبتورة.
يُلقي الباصُ المحققةَ في الزقاق ، تحملُ بضعةَ أكياسٍ صغيرة ، تتعرجُ خطواتُها في رحمِ الزقاق ، نساءٌ كهلات على أبواب البيوت مثل الغسيل العتيق المنشور . تفتحُ البابَ ، الشقةُ خاليةٌ ، تشتغلُ في المطبخ وهي تفكرُ بالفتاة الجميلة.
كم أجهضتْ هي وبكتْ من أجلِ طفلٍ ، طفل ، طفل واحد لا أكثر ، تكاد تحترقُ وهي ترى الصغارَ ، ليس ثمة أحلامٌ تأتيها ، لا أرواحَ تناجيها ، ظلامٌ دامسٌ يملأُ نومَها ، جسمُ زوجِها يصيرُ جثةً ، تستعيرُ الكتبَ والقراطيسَ التي تقرأُهَا الفتاة ، تسهرُ على السطورِ ، ربما ، ربما تعطفُ عليها روحٌ ما.
أخذوا الطفلَ الجميلَ الذي خرجَ من بطنِ الفتاةِ الجميلة ، وهي في دمِها ودموعِها تصرخ ، وتمتدُ أيديها في إتجاهٍ واحد ، لكن كتلةَ اللحمِ الشفافةِ الضاجة بالبكاء تختفي.
تحلمُ المحققةُ بإستعارته أو خطفه ، تضجُ ضارعةً:
- أعترفي باسم الأب.
إنها كتلةٌ من الحطبِ والعروق ، لكن من أصابعِها تنسلُ السجاجيدُ التي تعجبُ المصلين والزوار والمشترين والسياح والسادة . مديرُ المشغلِ مسرورٌ من عملها.
تقول لها:
- سوف تُرجمين.
في كابوسِها اليومي رأتْ المحققةُ أسرةَ الأطفالِ غابةً من الرقةِ والفراشاتِ والأيدي المحتجةِ على الغياب ، لا تريدُ سوى واحدٍ منهم ، واحد فقط.
كلُ القلعةِ محصنة ، كلُ الأجهزةِ تشتغلُ ، كلُ العاملاتِ والحارساتِ إناث ، إذن كيف حملتْ الفتاة؟
فكرتْ : ربما تأتي الحيواناتُ المنويةُ من بين التفاح والخيوط والإبر ، تتوجه الشاشاتُ للأكياس ، تُعري الأجسادَ ، تدخلُ الثقوبَ ، تتحسُ الأثداءَ ، تتلمسُ الصفحات صفحةً صفحة.
ثمة أشياءٌ غريبةٌ في هذه الصورِ والوجوهِ والسورِ ، ثمة كلماتُ حبٍ تتسرب ، الوجوهُ الذكوريةُ الراقدةُ تبقى في الورق ، ثمة أصابع عاشقين مقطوعة.
هناك اللقاء الذي جرى . ذلك الحدث الوحيد الغريب . العاملات أُخذن في باصٍ كبيرٍ مُراقب . حينئذٍ تَعطفَ الرئيسُ عليهن بعظة.
ليس بإمكانها أن ترى التسجيلات هناك . العاملاتُ يعطين إجابات وامضة.
- ماذا جرى في اللقاء مع الرئيس؟
الفتاةُ ترفعُ رأسَها بدهشة.
- قلت لكِ . الشيخ الرئيس كانت كتبهُ في البدء غامضة . كانت مناجاتهُ بعيدة . حتى إنهلتْ عليه الأرواحُ من سماءِ الحب ، راحتْ ترفرفُ حوله ، صعدتُ إليه ، أخذني بين ذراعيه ، كان السريرُ بحجمِ السماء الأزلية.
- أتحدث عن الخطبة . .
- إنقطعت الأنوارُ الصناعية لحظات ، وإنفجر صراخٌ ، ونزلتْ الأنوارُ العلوية ، وخطبني من الروح القدسية ومضينا في الممرات . . لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعت.
تتقدم المحققة من المنصة:
- أطلبُ من عدالةِ المحكمةِ تسليمي الأشرطة المسجلة لوقائع الحفلة . ثمة فراغٌ وإنقطاعٌ في تسجيل التلفزيون ، كما أطلبُ عينةً من دمِ الرئيس.
- ليست حفلة!
- ما هذا؟
- عن أي رئيس تتكلمين؟
وجوهُ الفتياتِ تتلألأ ، لبسنَّ الفساتينَ الملونة ، إنفجرتْ الموسيقى من ينابيع شتى في الحَجر والشجر ، رأت الخدودَ والعيون تغدو فاكهةً ، نزلَ الرئيسُ وضباطُهُ وفقهاؤهُ إلى القاعة ، إحتضنوا الباقات ، ودارت القامات ، ونزلتْ الأرواحُ بأقنعتها ، وإنفجرتْ الزجاجاتُ بروائحِها وشياطينها.
تحدق المرأة في الفيلم برهبة.
تمضي إلى البيت.
تنام قرب زوجها.
المحققةُ تنتفضُ على سريرِها ، والرجلُ يطبقُ على عنقِها ، يخنقها ، تعضُ أصابعَهُ ، تخمشُ وجهه ، تلتقطُ الهواءَ ، والجسمُ الغريبُ يهربُ من الباب المكسور ، وزوجها ميت.
2010
ـــــــــــــــــــــ
9 - أنطولوجيا الحمير «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.
❖ «القصص: انطولوجيا الحمير - عمران - على أجنحة الرماد - خيمةٌ في الجوار - ناشرٌ ومنشورٌ- شهوة الأرض - إغلاقُ المتحفِ لدواعي الإصلاح - طائرٌ في الدخان - الحيُّ والميت - الأعزلُ في الشركِ - الرادود - تحقيقٌ - المطرُ يموتُ متسولاً - بدون ساقين - عودة الشيخ لرباه - بيت الرماد - صلاةُ الجائع - في غابات الريف - الحية - العـَلـَم - دموعُ البقرة - في الثلاجة - مقامات الشيخ معيوف».
تعليقات
إرسال تعليق