المذبحة : قصةٌ قصـــــــيرةٌ ــ لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة
أحسن عاشور بكل العالم بين يديه، وهو يصل إلى سطح خزان الماء. أحتضن الهواء، وأمتلك ببصره كل آفاق البحر الواسعة، الزرقاء، الشفافة، المترامية، وكأنه فوق صاري سفينة عملاقة منطلقة نحو الصيد. أشعل السيجارة وعب الهواء، ورمق الشاطئ اللامنظور بحزن ولهفة. ثم صعد إلى الخزان وأزاح الغطاء.
كاد يتقيأ. كانت هناك طبقة من العشب الدبق الأخضر القاتم، ورائحة شبيهة برائحة القبر المفتوح. أزاح الطبقة الآسنة، ورأى في عمق الخزان جثتين صغيرتين. بصق بحدة، وانتزع بمغرفته احدى الجثتين، فرأى قطاً متآكلاً، ذائباً، بملامح رأس مشوهة.
نزل وهو يحمله. ثم توقف رامقاً باحة السجن بغضب. صرح لكن صرخته انفجرت في حنجرته. ورأى الرجال كعربات من قطار مفكك بعيد عن خطه. صرخ مرة أخرى، وهبط إلى الساحة، التي انتبهت رويداً إلى تشنجه غير المثير.
وبدا السجناء الرابضون قرب زنزاناتهم اشبه بقطيع من الدمي، وهم يرفعون رؤوسهم ببطء، أو يدعون الورق يقع من ايديهم، مرتعشاً، فوق التراب، أو وهم ينقطعون عن تنظيف القدور السوداء الضخمة القذرة بقطع من القماش المهترئ المعجون بتراب، أو يخططون لهجمات مباغتة ضد بعضهم البعض، بالزجاجات الفارغة أو الاحزمة الجلدية المُطعمة بقطع الحديد البارزة. أو وهم ينهضون من إسرتهم المشتركة وترديد قصص جرائمهم التي لا تنتهي.
لم ينتبه الكثيرون إلى الراية، الجثة، الشوهاء، المرفوعة، وعادوا إلى ورقهم وقدورهم وزواياهم المعتمة، وحكاياتهم المكررة اللذيذة، وسعى إلى عاشور ثلة من الفضوليين وحكماء السجن، الذين ذهلوا من المضاجعة المخزية للقطين الميتين في خزانهم المائي الوحيد، وتساءلوا، وبعضهم كان يمضغ بنهم خبز يابسة، عن الكوارث الصحية القادمة. واتسعت الدائرة المحدقة بعاشور الذي انحنى مشمئزاً باصقاً، نازفاً مذاق الماء من جسده وكأن كل شربة ماء من الحب الابيض الكبير، الملفوف بقطع الخيش الكثيفة المبللة، تتراءى فيها الآن عيون قط ذائبة، أو ذيل مقطوع الجلد، مصهور.
وجاء شعبان متحمساً، وضربت قبضتيه الجمع بفظاظة وغلظة، وانهالت بصقاته على اكتافهم ورقابهم. وأتاح له جسده العملاق، وعضلاته البارزة، إزاحة كتل اللحم الضامر، والعظام الدقيقة الحادة، المحشورة، في الخرق الزرقاء الباهتة. وحين رمقت عيناه المحمرتان الضخمتان، من أثر الخمرة الرديئة التي يصنعها من أي مادة حية تصل إلى يديه، القط المتحلل، ابتسم هازئاً، ولم يجد غرابة في بقاياه الثمينة التي ضاعت منه. ولكن دمدمة الجمع الغاضب تسللت اليه, وبدت تساؤلاتهم الهازئة بشربهم، تثير فيه بقوة مشاعر الألم والحسرة والغضب.
وبرزت في ذهنه، بغتة، ذكرى انتزاعه من الأرض الصغيرة الزراعية التي عمل فيها طويلاً، والقائه مع سجناء التنظيف، الذين يتسكعون في الجزيرة، ملتقطين أوراق الشجر الذابلة، والثمار الميتة، وكل ما يتقيأة البحر. اندلعت آلام الأيام التي قضاها متلوياً في زنزانة العقاب الضيقة، وهو يسمع مواء القطط المزعج دون أن ينام، وشجاراتها الصاخبة قرب برميل القمامة، ورأسه.
أنتزع القط المشوه من رقدته الأبدية، وصرخ بقوة، فانهارت الدائرة البشرية المتصدعة، وذهلت شظاياها من هذه الوثبة العظيمة التي فجرها شعبان، وامساكه للقط بأصبعين من يده فحسب، وقفزه السريع إلى هدف بدا مباغتاً وغامضاً، وهيئيه التي تحولت إلى مارد مجنون.
تبعوه، فاذا هو يبرق امام الزنزانات، تتأمله وجوه أصحابها الهادئة الساخرة التعبة. يحرض باندفاع لغوي سريع ومرتبك وغامض، يجمع بين الماء الآسن ومواء القطط الليلي الكثيف الشهواني الداعر، وصعوبة مضغ الارز اليابس الحجري، ومزرعته التي أعطيت لصالح الذي يربي قطاً سميناً شرساً.
وأدى ركضه المضطرب، ليس إلى انتشار القواقع البحرية الصغيرة الجافة وراءه، كشريط فوضوي ساطع، وتبعثر بقايا الحيوان الميت، بل وإلى صخب ضاحك واستهزاء مثير بمجنون القطط، الذي لم يصل به ركضه المتشنج إلى أي باب.
لكن عند نهاية الشوط، وجد ان قلة من المساجين ركضت وراءه، صارخة مثله، لأشياء تمتد بين غياب النساء وحزن الشتاء. ووجد أيضاً، حسون الاعرج، وهو يداعب قطته «سمور»، ويضعها بين قميصه وصدره، سارداً لها حكاية قتله لزوجته خنقاً بعد أن وجد آثاراً لرجل غريب. امتدت يد شعبان إلى قلب حسون المشدوه، منتزعة سمور المتألمة الضاجة بصراخ انثوي حاد ومثير، ولم تنفعها خرمشاتها الباهتة فوق قبضة ازاحت نصف مرتفعات الجزيرة، ولم تجدِ تضرعات حسون وجريه وراءه وصياحه وبكاؤه الغريب الحاد الملتاع، وسرعان ما أنهار فوق الأرض، نافضاً الرمل بقدم واحدة، بينما عجزت الأخرى عن الاستجابة لانفعاله القوى.
ألقى شعبان القطة وراءه، فتلقفها مريدوه الذين أزدادوا عدداً، وراحوا هم انفسهم يبحثون عن القطط، بضراوة.
لكن كأن السجناء أصحاب القطط انتبهوا فجأة. فاختفت اللواتي كن يركضن، في الساحة، وراء خيط، أو الناعسات فوق الأسرة، أو الجالسات في الفناء، يتطلعن إلى الرجال بإغراء مؤدب.
لكن بعض الغافلات عند براميل القمامة وجدن احجاراً قاسية تنهال على رؤوسهن. وظهر مردة فوق الصخور يلاحقون القطط البرية الشرسة بالفؤوس. ونصبت مشانق في الساحة تدلت منها أجساد غضة. اندفع شعبان وعاشور إلى بستان صالح، كتفه احدهما، بينما خنق الآخر قطه وألقاه في البركة.
في الليل، تجولت اكواب الشاي تحمل سائلاً حامضاً منعشاً. تمدد شعبان وراح يقهقه. تعالت أصوات الرجال داخل القفص الكبير. لا تزال رائحة غريبة في يده. صابونة كاملة لم تستطع أن تزيل صيحات القطط ولا معركة سريعة عند المطبخ. يضحك بقوة، لكن الضحك لا يصل إلى قعر قلبه.
ــــــــــــــــــــ
12 - باب البحر «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2020.
❃❁✾❈✤
✗ القصص القصيرة:
1 - لحن الشتاء «قصص»، دار الغد، المنامة_ البحرين، 1975.
❖ «القصص: الغرباء - الملك - هكذا تكلم عبد المولى - الكلاب - اغتيال - حامل البرق - الملاذ - السندباد - لحن الشتاء - الوحل - نجمة الخليج - الطائر - القبر الكبير - الصدى - العين».
2 - الرمل والياسمين «قصص»، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1982.
❖ «القصص: الفتاة والأمير - علي بابا واللصوص - شجرة الياسمين - العوسج – الوجه - الأرض والسماء - المصباح - نزهة - الصورة - اللقاء - لعبة الرمل- الأحجار - العرائس - الماء والدخان».
3 - يوم قائظ «قصص»، دار الفارابي، بيروت، 1984.
❖ «القصص: الدرب - أماه... أين أنت - الخروج - الجد - الجزيرة».
4 - سهرة «قصص»، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1994.
❖ «القصص: السفر - سهرة - قبضة تراب - الطوفان - الأضواء - ليلة رأس السنة - خميس - هذا الجسد لك - هذا الجسد لي - أنا وأمي - الرمل والحجر».
5 - دهشة الساحر «قصص»، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، 1997.
❖ «القصص: طريق النبع - الأصنام - الليل والنهار - الأميرة والصعلوك - الترانيم - دهشة
الساحر - الصحراء - الجبل البعيد- الأحفاد - نجمة الصباح».
6 - جنون النخيل «قصص»، دار شرقيات، القاهرة 1998.
❖ «القصص: بعد الانفجار - الموت لأكثر من مرة واحدة! - الأخوان - شهوة الدم - ياقوت - جنون النخيل - النوارس تغادر المدينة - رجب
وأمينة - عند التلال - الأم والموت - النفق - ميلاد».
7 - سيد الضريح «قصص»، وكالة الصحافة العربية، القاهرة، 2003.
❖ «القصص: طائران فوق عرش النار -
وراء الجبال - ثنائية القتل المتخفي - البركان -
سيد
الضريح – وتر
في الليل المقطوع – أطياف
– رؤيا
– محاكمة
على بابا – الحارس».
8 - الكسيحُ ينهض «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.
❖ «القصص: الشاهدُ.. على اليمين - الكسيحُ
ينهض - جزيرة الموتى - مكي الجني - عرضٌ في الظلام - حفار القبور - شراء روح - كابوس - ليلة صوفية - الخنفساء - بائع الموسيقى- الجنة - الطائر الأصفر - موت سعاد - زينب والعصافير - شريفة والأشباح - موزة والزيت -
حمامات فوق سطح قلبي - سقوط اللون - الطريق إلى الحج - حادثة تحت المطر - قمرٌ ولصوص وشحاذون - مقامة التلفزيون - موتٌ في سوق مزدحمٍ - نهاياتُ أغسطس - المغني والأميرة».
9 - أنطولوجيا الحمير «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.
❖ «القصص: انطولوجيا الحمير - عمران - على أجنحة الرماد - خيمةٌ في الجوار - ناشرٌ
ومنشورٌ- شهوة الأرض - إغلاقُ المتحفِ لدواعي الإصلاح - طائرٌ في الدخان - الحيُّ والميت - الأعزلُ في الشركِ - الرادود - تحقيقٌ - المطرُ يموتُ متسولاً - بدون ساقين - عودة الشيخ لرباه - بيت الرماد - صلاةُ الجائع - في غابات الريف - الحية - العـَلـَم - دموعُ البقرة - في الثلاجة - مقامات الشيخ معيوف».
10 - إنهم يهزون الأرض! «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.
❖ «القصص: رسالةٌ من بـينِ الأظافر - الأسود - عاليةٌ - جلسةٌ سادسةٌ للألمِ - غيابٌ - عودةٌ للمهاجرِ - دائرةُ السعفِ - الضمير - المحارب الذي لم يحارب - الموتُ حُبـَأً - إنهم يهزون الأرض! - حـُلمٌ في الغسق - رحلة الرماد - أعلامٌ على الماء - گبگب الخليج الأخير - المنتمي إلى جبريل - البق - رغيفُ العسلِ والجمر - عوليس أو إدريس - المفازة - قضايا هاشم المختار - أنشودة الصقر - غليانُ المياه».
11 - ضوء المعتزلة «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.
❖ «القصص: ضوء المعتزلة - جزرُ الأقمار السوداء - سيرة شهاب - معصومة
وجلنار- سارق الأطفال - شظايا - الترابيون».
12 - باب البحر «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2020.
❖ «القصص: وراء البحر.. - كل شيء ليس على ما يرام - قمرٌ فوق دمشق - الحب هو الحب - شجرة في بيت الجيران - المذبحة - إجازة نصف يوم - حادث - البائع والكلب - ماذا تبغين ايتها الكآبة؟ - إمرأة – الربان - إذا
أردتَ
أن
تكونَ
حماراً - اللوحة الأخيرة - شاعرُ الصراف الآلي - البيت - حوت - أطروحةٌ - ملكة الشاشة - الغولة - وسواسٌ - مقامة المسرح - إعدام مؤلف - يقظة غريبة».
تعليقات