قمرٌ فوق دمشق : قصةٌ قصـــــــيرةٌ ـ لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

ـــ 1 ـــ

   كانت الغيمة تركضُ جنوباً. لن يطفئ هذا الطقس الربيعي النار الملتهبة تحت الخروف المتقلب. أشربْ واصغ إلى هذا الصوت المعبأ بالدعوة إلى الحب. أدفق الكأس وصفق.

ثلةٌ من الفتيات الجميلات يرقصن ويصفقن، وتشي اثوابهن الحريرية بنيران موقدة. لن تكون الليلة إلا مع هذه المغنية البيضاء المشرقة القادمة من مدينة تجثمُ قرب طلوع الفجر.

ورجالك وعبيدك يحملقن في الوجوه والسيقان المضيئة ويدفقون هذه السوائل النارية ويصطخبون.

ليس لك يا عمر سوى هذه السنوات الرائعات. تنامُ فوق سحائب بيضاء، وتحدق في المدن والغابات والجبال، وتسكر وتثرثر بما تنساه. لا تفكر في الغد ولا في الأمس.

ينهض ويكادون يقفون (يصمتون) لكن يدعهم مبتسماً محيياً، ويقتربُ من النار تم ألسنتها الحمراء إليه ماذا سيحدث لك؟ أتمضي الحياة هكذا كالمياه الهادئة الرقراقة، ثم تتبخر في السماء العريضة كأن شيئاً لم يكن، وتدخل جحيماً نارياً خالداً؟

ما أجمل هذه الجبال الشامخة نحو السماء! غابات تسكن أجفانها رفوف من الحجر والشجر متألقة، ومياهٌ صافيةٌ تتدفق مع لغو العصافير. فلاحٌ يقودُ حماراً هزيلاً مثقلاً بالحطب.. طيورٌ بيضاء صاخبة. ثمة فارس يتوغلُ في الطريق الحجري المتعرج. في مكان ما قد يشعلون حرباً، أو يغزون مدينة.

ابتعد عن طريق هذا الفارس، فخطواته دم، وحروفه منجنيق وسهام مشتعلة!

لأنه ذاب في الجبال والواحات، وأنس الى الغزلان والثعالب، دهشوا منه. كيف اعتزل الجاه والسلطان، وطاف بالقرى كمهرج يتسول الدعة واللذة ! وكيف انبثقت ايضاً من برميل الشهوة هذا صرخات غضب ورفض لما يقول الخليفة؟

اعتزلتَ بني امية، وهاجرت الى الآبار والينابيع الصافية، تقرأ وترقب النجم، وتتلذذ بالنبيذ، وتطير سعيداً بنقائك في الرمال النظيفة! ومنذ أن تقترب من ذلك القصر، حتى ترتجف ولا تستطيع الا ان تشير الى كل شيء بغضب.

ها هو الفارس المثقل بالأوامر والحديد، يعرج الى خيمة الاصحاب، يترجل. يسمعُ لفظاً عنيفاً. يشيرون اليه. كم يكره هذه اللحظات! لم لا يتركونه لوحده؟ سئم من حرابهم ودواوينهم وكلماتهم المراوغة اللاذعة!

لكن الفارس يتجه نحوه مصراً، حذاؤه يهرس الرمل الناعم، ونصل غمده يفتح الأرض بقسوة، يقترب، يلمع وجهه النحيف المنشرح. ثمة رسالة طيبة يحملها، والا ما كان بهذه الخفة والنشوة. يكاد يقبل الأرض. بين يديه، ويلثم أصابعه. يسحبها بسرعة وألم، لماذا يتطفل بهذا الشكل الفج ؟!

   ــ مولاي، يسعدني ان اخبرك انك عينت خليفة بعد مولاي الراحل!

   صُعق. لو أن الرجل طعنه لما تألم بهذا الشكل، وغاصت ركبتاه في الرمل، وطاح الأفق من السماء. أمات سليمان؟ وهو.. يُسحب الى النفق الناري؟ من المغفل أو الداهية الذي اختاره؟ انهم يكرهونه كما لو كان حية أو خارجياً شرساً!

   ــ ماذا تقول يا رجل؟ بم تهذي؟

   ــ انت الخليفة الآن يا مولاي، خلا كرسي الأرض، وكل شيء متوقف على خطواتك!

   ــ كيف حدث هذا ايها الملعون؟ هم أعدائي فكيف اختاروني؟ أهي خدعة ما؟!

   ــ لا، ولكن سليمان رحمه الله، كما تعرف، ترك كتاباً مغلقاً، جعلك فيه الخليفة!

   فليرحمه الله ! ما اقساه وأبغضه إليه الآن. ترك كل تلك الصقور والأفاعي وانتقاه. أكان يريد ان ينير ايامه الاخيرة أم يظلم سنواتي الباقية؟ اختار حمامة لتهدل في اوكار الذئاب. هل يريد أن يحول بردى الى ثعبان؟!

صرخ في الفضاء:

   ــ لماذا يا سليمان؟ لماذا؟ ماذا أذنبت حتى تقتلني هكذا؟!

عُهدةٌ مخيفة ألقيت في حضنك. حتى دمك ليس لك. انت مسؤول الآن عن اختفاء الحليب من أثداء النساء، والتهام النيران للأكواخ، وكثرة الثعابين وامتلاء السماء بالصقور!

   ــ لماذا، لماذا؟

   حدق فيه الفارس سالم مدهوشاً.

كنتُ اصحو وقتما أشاء، والهو، كنت اغني، واعانق الفاتنات، اتوغل، واهجوا، وأسكر الى الصباح، أدندن، ارقص، أقرأ أشعار الغزل والفضائح، أتمعن في خدود البدويات وآكلها، أذوب في ضجة الأسواق، أتمعن في بائع عجوز ثرثار. والآن علي أن اتحجر فوق ذاك الكرسي المرتفع، محاطاً بالصقور والنمور. لا اخرج الى شارع. عيني تبحلقُ في مقابض السيوف ودسائس الظلام. عليّ أن احرك بيادق الجنود لتلتهم المدن ويكثر الاسرى والجواري والعبيد. أن أرسل العيون واثقب الجماجم بالسهام المشتعلة. أي لعنة مرسلة!

وذلك الكتاب العظيم، ووصاياه بالناس والأهل، كيف أنفذه؟ ستشدني الخيول في كل اتجاه، ويغدو لحمي غذاءً للنسور والسابلة!

   ــ مولاي ..

   ــ اذهب عني يا غراب الشؤم!

   يتراجع سالم باضطراب، ويكاد يسقط، فتقدم منه حانياً:

   ــ اعذرني، لم اكن اقصد.

يدهش الفارس مرة اخرى. يذهب للخيمة فيسمع انفجار الزغاريد والصيحات، ويهل الجميع عليه مضطرباً فرحاً.

يستغرب: من هؤلاء ؟! النساء الراقصات العاريات يمددن ايديهن الناعمة البيضاء اليه. ستكون خليفة الانس والفرح الدائم. خذ اشرب احتفالا بهذه اللحظة المقدسة الرائعة. احكم الأرض من هذه الخيمة المترعة بالخمرة واللذة، دع ينابيع الشهوة والنشوة تتفجر في كل القصور، وليعلن الانس مولده!

من هؤلاء ؟! كان دائماً مع هذه الثلة من السكارى، رواة الأشعار والقصص، كتب مفتوحة تحصد الساعات بالضحك والمتعة. تلتقط الشوارد والشواهد، وتضيع في طرقات الصحاري المفتوحة على السراب. حرسٌ خاصٌ ادمن اليقظة من أجل رجلٍ لاهٍ لا أهمية له. ما الذي جعله أحق بهذا اللحم الوفير والماء الكثير ودنان النبيذ والجاريات المتغيرات كنهر دائم للشبق المحموم ؟ اين كان ولماذا هو هنا ومع هؤلاء الداعرات وأمام الرمل الكئيب ورائحة الشواء البغيضة؟!

يقولون:

   ــ غدا أوان ذهابك لعاصمة الملك!

   ــ لا، لا، ينبغي أن يسرع بعضنا ليعد احتفالا كبيراً بمقدمه..

   ــ تحتشد فيه كل المدينة ووفود من كل أنحاء الخلافة..

   ــ وماذا ستفعل بموت الخليفة السابق؟

   ــ لقد انتفخ من الأكل، مات وشبع من التهام الذبائح والنساء!

اشياء غريبة تحتشد حولك. صدور عارية وعيون حمراء منتفخة من الإدمان والسهر والعهر. كروش متدلية، وانت نفسك شيء غريب: جسد منتفخ هائل، حصد كل متع الدنيا وتجمد. لم ترفعْ فأساً ذات يوم!

   ــ هيا، هيا، اتركوني وارحلوا!

يتطلعون فيك باستغراب، ويغرق بعضهم في الضحك.

   ــ خذوا ما تريدون، كل تلك القِرب والدنان والبراميل والذبائح والخيول. اتركوا لي فقط فرساً هزيلة او حتى ذلك الحمار.

يتعثر الجمع، تضطرب الوجوه. أخافتهم الحرية المفاجئة، وسقطت بعض الجواري على الرمل.

   ــ ماذا حدث؟ ماذا حدث لعمر؟!

   ــ ماذا يجري، ماذا سنفعل؟!

   ــ هيا، هيا اتركوني، لا استطيع أن أتحمل عبء وجودكم معي.

يتراجعون مضطربين خائفين مستغربين، يحملون الدنان وتنهار الخيمة الكبيرة فجأة، وينتفض التراب ويتفحم الشواء. تهز حوافر الخيول الجبال، ويلتفت الفرسان والنساء الى الرجل الوحيد الواقف في البرية، لعل كلمة او ضحكة طفولية تنفجر منه في آخر لحظة.

يجد ان الفارس ذا البشارة الملعونة لم يزل منتظراً. يجد ان الحمار أليق به، رغم الثقل الكبير الذي سوف ينزل عليه. الفارس يتبعه ولم يزل في شكوكه واسئلته التي راحت تنهمر وتقلقه.

انه، وهو الجندي الفقير، كان دائماً يقف وراء الأبواب منتظراً رسالة او امراً. منتظراً لفته تدخله الى ممرات الأمراء والخلفاء. لديه عائلة تسكن كوخاً، وكل يوم يرجو ان يتغير حاله. وحينما قيل له ما في الرسالة، أيقن أن بوابة القدر فتحت له، ولكن ها هو الخليفة المنتظر، يتحول الى ابله او مجنون.

كاد يسقط أكثر من مرة في الطريق. كان يعانق الهواء الصاخب الذي يثقب رئتيه. وهو يصرخ: حانت اللحظة، حانت اللحظة ! وما اغربها من لحظة، انفتح الحلم فيها باتساع الدنيا ونفجر!

أيمكن لرجل عاقل يصير في غمضة عين خليفة فيتهالك على التراب خائفاً مذعوراً؟! إنه ولاشك لم يتصور قط أنه سيغدو خليفة، وهو الآن مضطرب خائف، وما أن يدفئ الكرسي كتلته الممتلئة شحماً ولحما، حتى تصحو شراسته وملذاته فتلتهم المدن والنساء !

ينحدر الحمار بعمر الى أرض مزروعة. ظهور الرجال محنية، واقدامهم تغوص في التراب، لا يتطلعون إليه. يدهش من هذه الأجساد النحيلة الصلبة. يرى غابة من الأكواخ والأولاد العراة. ثمة مستنقع كبير تلهو فوقه أسراب الحشرات. بين الاكواخ نسوة يطحن شيئاً، ثم صغار يبكون امامهن.

ما هذا؟ هل رأيت ذلك من قبل ؟ أين كنت ؟ لماذا يتعارك الاطفال من اجل عصفور نافق؟ لماذا هذا الدخان الكريه ينبعث من الزرائب ؟!

ابتعد، واسرع، دع الطرق البعيدة تحتويك، دعها تصهرك، تذيبك، لا نفس في صدرك، الهواء النقي يهرب الى الصحراء. تستقبلك الازقة بجيوش الذباب وجموع الحفاة. يغوص الحمار في مستنقعات تتشبث ببيوت متهالكة. وجوه مرعبة تحدق من بين الدخان والنار.

 ـــ 2 ـــ

الصقور تدخل البيت. كل رجال بني أمية وامرائها يقتحمون خلوتك، عاصفةً من الثياب والأسلحة والعيون المستشيطة غضباً، كقاسيون القاسي وراء النافذة يطل متجهماً على المدينة المزروعة تحته اكواخاً وقصوراً.

كم من خليفة اغتيل بهذه الطريقة، زوبعة الأهل تخنقه، والعرش يتألق ثانية بمخمور يغيب وعيه كل يوم. لكن انت محمي بذلك السيل من البشر، ينابيع الحارات تدفقت وامتلأت الساحة بالرجال والنساء، بالعصي والسكاكين والصراخ. اية رياح غريبة أطلقت كل هذه الوجوه؟!

ما كان ينبغي أن تدعهم ينقلبون سيلا من طمع ينهب القصور، يتوغل نحو الخزائن والذهب والثياب وينثرها في الساحة، ويصعد فوقها راقصاً مزغرداً، والكلُ ينهبُ. سيحولون المدن الى اطلال وحرائق وأنهار من دم. أهذا هو العدل الذي جئت به؟ هل ستكون رايتك الموت والدخان وتمزيق الكتاب والأهل؟ اية لعنة ستكون أيامك يا عمر؟ قلبت الناموس واطلقت الوحوش وراحت المطامع والبطون تصير ديناً جديداً!

هذا هشام يتقدم، وكأنه ينبثق من ذاتك، ويعطيك كلماتك:

   ــ ماذا فعلت بنا يا عمر، ماذا فعلت..؟

لا تستطيع أن تتكلم. العامة اقتحمت بعض القصور، ولم تتمزق الستائر وتتحطم الابواب فحسب بل قتلت نسوة واطفال ايضاً. لا تستطيع إلا أن تتألم. لو ان هذا السيل الوحشي اندفع من هذه المدينة ناراً  وكرات من حديد مصهور لعجن الأجساد بالتراب.

   ــ لقد اطلقت هؤلاء ليدمروا  كل شيء. ليغتصبوا نساء من اهلك. ليسرقوا بساتينهم وحقولهم. ليسكروا ويقامروا، كل ما بناه الاجداد سينهار فجأة، على رؤوسنا وعلى رأسك!

  ــ اسكت ! لا تحدثني عن الأجداد! تاريخ كله اغتصاب ودماء واحلام مرعبة. اسكت لا تحدثني عن تلك الأمجاد. انني اعرف كيف صارت. كل حجر هنا يئن. كل قطعة من قماش وراءها قرية محروقة. كل لمعة في خد نساءكم من ضمور آلاف الاثداء. كل لحمكم هذا، وارديتكم المزركشة وسيوفكم المذهبة وجواريكم وفحيحكم هو من دخان ونار تلك الحارات والاقدام!

   ــ اذان انت تعلنها حرباً لا رحمة فيها؟!

ما كان ينبغي أن تكون في هذا المكان. كانت لك الفلوات والغزلان ورحيق الصبايا فجئت الى الدخان والحراب. مسلسل في حديد صدئ، مغمور بالمياه، مربوط الى صرخات الملايين وحقد الاهل..

   ــ .. انني لن أعلنها حرباً على أحد. ما جئت لأشعل الحروب، لا حبا فيكم ولكنه الناموس. ليس خوفاً ولكنه الكتاب الذي لن ابدل شيئاً فيه.

   ــ ماذا أبقيت من الكتاب وصلة القربى؟ حفرت خندقاً وامتلأ بالدم، نحن لسنا خائفين من أحد. من يحاول الاعتداء علينا فسوف نزيله ونجتثه من الأرض، أي اعتداء جديد يعني امتلاء دار الخلافة كلها بالحرائق وستطفو الجثث فوق الأنهار وتمتلئ الصحاري بالمشردين.

   ــ انني لا اريد أن اقتل احداً ايها الاحمق! لو أردت ذلك لما خرجتم من هنا أحياء. لن ألوث يدي بدمكم. يكفي أن أدع الناس تأخذ ثاراتها. يكفي أن ادع الجياع يبحثون عن المخازن السرية ويقتحمون البساتين المغلقة، كل شيء سيتحطم على رؤوسكم في غمضة عين. إنني لم أجئ  هنا لأعلن الفتنة!

تخرج قعقعة السلاح والثياب الجميلة والعباءات الفخمة، وتدخل الملابس الرثة والاقدام العارية. وجوه مستبشرة. غيلان يتقدم فرحاً، منتشياً بألق النار. ثلة اخرى تريد ان تغوص في اللحم البشري وتندفع نحو القصور والخمور والنساء. أليس ثمة هنا بشر حقاً؟ أطماع، أطماع!

   ــ خفنا عليك يا امير من عصابة الغيلان.

   ــ خرجوا بمزيد من الغضب!

   ــ انهم يدبرون شيئاً فأجهز عليهم قبل ان يقتلوك.

   ــ مرنا بأن نجتاح قصورهم فلن تقوم لهم قائمة بعدها ابداً!

جيش من الغضب والدمار مستعد لدحرجة كتلة الحديد المصهور. لاتهم الدماء والاشياء، فالكل يريد أن يتربع فوق صناديق الذهب والعروش، وبيدك انت يريدون أن تظهر الهوة السحيقة. تموت عصابة لتولد عصابة!

   ــ اصمتوا! كفوا عن هذا التحريض على القتل، لا تنطقوا أمامي بهذه اللغة الدموية. لست جزاراً، وانتم مجانين ليس في رؤوسكم سوى هوس الثروة والنساء والقصور. ابتعدوا عني، هذا طريقي!

يحدقون فيك مبهورين، كانوا ينتظرون شيئاً آخر. انهم قبيلة اخرى تريد ان تحتل المدينة وتحلب الأرض. لعنة جديدة ستتسلط على الأحياء لتتوالد الأفاعي.

يقول غيلان:

   ــ هل خفت من سيوفهم؟!

   ــ لا اخاف الا من الله.

لم يكن هناك سوى سالم يحدق فيك باستغرابه الذي لم ينقطع، أمامه كان الهلال يصعد فوق الجبل بوهن.

 ـــ 3 ـــ

 كان سالم يمشي في الزقاق الضيق المظلم بحذر، قطط تطالعه بعيونها المشتعلة يمسك الجدار ويسير ببطء. أبصر شبحاً على الجانب الآخر، ارتجف. اقتربت العباءة المعتمة وبرز منها رأس بلا ملامح. سلمه منديلاً.

   ــ ماذا تريدون مني؟

فح الشبح بهدوء:

   ــ سرب هذا السم إلى عظامه.

   ــ يا الهي! أأقتل هذا الانسان العظيم!؟

   ــ لأنه لا يصلح للملك.

   ــ انني لا يمكن أن افعل ذلك.

   ــ غدا او بعد غد يرحل عن الكرسي، فأما ان تعود جندياً أو الى ما لا تحلم به ابداً.

   ــ انني فقير ولكن لا اقبل أن اخونه. لم أر انساناً بهذه الطيبة، هذا ما كنت أسمعه عن الأولياء.

   ــ هل انت غبي؟ ألا ترى ما يحدث؟ كل شيء ينهار، الجنود يملأون المدن بلا وظيفة، يجتمعون في الشوارع ويقعقعون بالسلاح، والكنوز في السهول تنتظرهم. انقطعت سيول العبيد والجواري من الأسواق. ضاق العيش بالناس. البضائع اختفت. وكل شح الا العوز. ولا توجد دولة. ثمة رجل أشبه بالشحاذ يسير في الشوارع ويثرثر مع الحدادين والنجارين. الى متى سيكون الحال هكذا ؟!

   ــ نعم، هناك فوضى. ولكن ان نقدم على جريمة قتل هذا الإنسان المحبوب الذي رفس أطايب الطعام والأسرة المريحة فذلك أمر رهيب.

   ــ لا توجد جريمة. ثمة رجل عاجز عن ادارة الدولة. ضيع كل شيء. لا نعرف مع من هو. معنا ام مع غيرنا. أموي ام خارجي؟ حيرنا وضيع ما بناه السلف. الجنود يتحرقون شوقاً للحروب. التجار ضاق بهم الصبر وهم يرون سيل البضائع ينقطع. مفاتيح الأشياء كلها بيدك انت !

نحن نعرف عنك الكثير. انت تعيش مع أسرتك في كوخ. لا تستطيع أن تتزوج. أم وأب واخوة كثيرون. كنت دائم التذمر من هذه المعيشة الصعبة. ولكن الخليفة غير مستعد للإصغاء إلى هذا. حلمه مناه ان نعيش بهذا العوز. حلمه أن يبقى الناس على الكفاف لا يفكرون إلا في الآخرة. وأنت تريد أن تحيا في بيت جميل، فيه زوجة وخدم وجوار، كلما ذقت امرأة انتقلت الى اخرى. الخمر تملأ الرأس، والخيول والسفر وحكم ولاية مهمة تغدو فيها أشبه بسلطان .. أمانٍ كلها تجول في النفس ولا تتحقق.

   ــ كأنك شيطاني ايها الرجل!

   ــ أرهقتك حياة الخليفة الغريب، الذي ادمن الصيام وملابس العوام. يسأل عن كل شيء ويرهقك بالرسائل إلى الولاة العصاة والتنقيب في الأسواق. ومع هذا، فالعدل لا ينزل، الفقراء لا يأكلون والأغنياء لا يحكمون!

   ــ ....

   ــ ها قد صمت دون ان تقرر شيئاً. السم سهل، ولن يعرف أحد به، اعجنه بالتمر. وقليلاً قليلاً تتسرب الحياة منه. انه جلد على عظم الآن، ولن يتحمل طويلاً، خذ امسك !

   ــ انني لا اعرف ماذا افعل؟! لا، لا، لن اخون حبيبي، انه حبي، لا اعرف ماذا افعل؟! لا، لا، لم احب أحداً كما احببته. انت لا تعرف هذا الرجل. صُنع من الرحمة والحب. ولكنني ايضاً لا استطيع أن اعيش هكذا، ادفن عمري في الأكواخ والمستنقعات. امي تقشر وجهي كل يوم. كيف تكون مع الخليفة ولا تستطيع أن تشتري بيتاً؟ اصرخ فيها: الامور تغيرت منذ أن جاء هذا الرجل. فتصرخ بدورها: لا اراها تغيرت!

اين العدل؟ ما هو؟ هل تنتظر الآخرة فقط؟! والحياة والأنس والفرح والخمرة والسفر والنساء والمنازل الجميلة والحدائق والنور .. متى تأتي؟ انصال بني أمية تحدق بالرجل وإذا لم يمت فسوف يُقتل حتماً. الأشياء لا يمكن أن تبقى هكذا. وانا لن .. اكون مع المقتولين. هات السم!

ـــ 4 ـــ

 لا شيء في الامتداد الأزرق الباهت. ماذا أرادوا منك؟ ان تكون عادلا، لا شيء سوى هذه الصحراء الزرقاء الممتدة الى الافق، وانت تزحف فوق الرمل والزبد. القمر مهشم متناثر في السماء، انه ليل، وانت مريض، وتهذي، ما هذا البرد والعرق والقلق؟ وهذه زوجتك؟ وهؤلاء عيالك، ماذا يريدون؟ أن أغير الخلافة لهم، أن أكتب بأسمائهم القصور والبساتين والمدن؟ لو سمعت كلمة لقطعت اللسان الذي نطق بها. وهم خائفون من موتي القريب. يريدون ضمانة للدنيا، والسيوف مشرعة فوق رؤوسهم. لا املك شيئاً اعطيه. أعطيت عمري لكم. وهذا جسدي يتمزق. كرهت السيوف وحامليها. لماذا لا تستطيع هذه المدن أن تحيا بغير القتل؟! في هذا المكان تحلق ضحكات يزيد وتأوهاته، تلتف صرخاته حول عنقي وتخنقني. ينبثق وجهه من الجدران مشتعلا بالنار.

المرأة الساحرة اطلت علي. وجهها جميل. الامتداد الازرق الباهت وراء يديها وعيونها الكثيرة تتألق بالجمر، تلقي الاحجار على الرمل فتكون سيفاً. تصرخ. احمله. تنفتح الحصاة عن ثعبان هائل يلتهمك وتغوص في ممر نتن. يأتي وجهها ثانية وتلقي بالأحجار فتكون سهماً وتصرخ: احمله! تنفلق الحصاة عن قصر ورياح شديدة تطير فيها وتصطدم بأعمدة لكنك لا تتألم، ويظهر الثعبان ثانية وترى ممره المظلم لكنك تخرج منه، وترى الساحرة تبتسم وتلقي الاحجار فتكون ناراً وتصرخ: ادخل فيها، ستكون برداً وسلاماً عليك! فتدخل..

ترى امرأة تركض نحوك. انها هيكل عظمي تأخذك من يدك وتبحثان عن ولدها الضائع. تجريان في الشوارع، يتساقط المطر والثلج فوقكما. تريانه عند السور متجمدا وميتاً. خلف السور كانت الأصوات البهيجة وأضواء القصور وصهيل الخيول. تلتفت الى المرأة فتجد انها الساحرة وقد راحت تضحك ثم غرزت في قلبك خنجراً!

ضجة مخيفة في الطريق. الوجوه التي تحيط به مترجرجة كأنها وراء ماء. انطفأت المصابيح في جسده. لكن اصابعه كانت تهتز، لم تزل نار الحياة تُرى من تحت اكداس الرماد والوهن. يشعر بسعادة أخيرة وخافتة. انه استطاع ان يفعل اشياء كثيرة. الغنم والذئاب تآلفت في حياته. الآن سيرحل ويغوص في الابدية.

تشتد الضجة في الطريق. ثمة صهيل خيول وخيوط نار تتألق في الظلمات. ألا يريدون أن يمر موتك بهدوء. إنها صرخات اهل المدينة، ثمة صياح وبكاء عنيف. الخيول تحمحم وتندفع وتهرس الحصى.

يريد ان ينهض لكنه لا يستطيع. تحمله اكتاف عديدة الى النافذة، ويطل على الطريق، جموع وشموع وقناديل في الحارات وصياح وبكاء. صرخات تتعالى «مات الخليفة ونحن عدنا، هيا اختفوا في جحوركم!».

تتداخل الخيول والبيوت والشموع، يصارع المرئيات والاشياء ليرى بوضوح، ها هي السيوف تظهر مرة اخرى. والجنود يقتحمون المنازل، والرؤوس تتدحرج على الأرض. نار تتوقد فيها، ودم غزير يغسل الطريق المرصوف بالأحجار.

ومن هذا؟ يصارع تداخل الظلمة بالنور، الدم بالتراب، ليعثر في التفاصيل المشوشة على قامة يعرفها، انه سالم يجثم فوق حصان ورمحه يُسدد إلى الصدور النازفة.

يتخشب فوق الاكتاف وتنطفئ المرئيات ويسود الظلام. 

2009

ـــــــــــــــــــــ

12 - باب البحر «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2020.

«القصص: وراء البحر.. - كل شيء ليس على ما يرام - قمرٌ فوق دمشق - الحب هو الحب - شجرة في بيت الجيران - المذبحة - إجازة نصف يوم - حادث - البائع والكلب - ماذا تبغين ايتها الكآبة؟ - إمرأة الربان - إذا أردتَ أن تكونَ حماراً - اللوحة الأخيرة - شاعرُ الصراف الآلي - البيت - حوت - أطروحةٌ - ملكة الشاشة - الغولة - وسواسٌ - مقامة المسرح - إعدام مؤلف - يقظة غريبة».

 

❃❁✾❈✤

القصص القصيرة:

1 - لحن الشتاء «قصص»، دار الغد، المنامة_ البحرين، 1975.

«القصص: الغرباء - الملك - هكذا تكلم عبد المولى - الكلاب - اغتيال - حامل البرق - الملاذ - السندباد - لحن الشتاء - الوحل - نجمة الخليج - الطائر - القبر الكبير - الصدى - العين».

2 - الرمل والياسمين «قصص»، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1982.

«القصص: الفتاة والأمير - علي بابا واللصوص - شجرة الياسمين - العوسجالوجه - الأرض والسماء - المصباح - نزهة - الصورة - اللقاء - لعبة الرمل- الأحجار - العرائس - الماء والدخان».

3 - يوم قائظ «قصص»، دار الفارابي، بيروت، 1984.

«القصص: الدرب - أماه... أين أنت - الخروج - الجد - الجزيرة».

4 - سهرة «قصص»، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1994.

«القصص: السفر - سهرة - قبضة تراب - الطوفان - الأضواء - ليلة رأس السنة - خميس - هذا الجسد لك - هذا الجسد لي - أنا وأمي - الرمل والحجر».

5 - دهشة الساحر «قصص»، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، 1997.

«القصص: طريق النبع - الأصنام - الليل والنهار - الأميرة والصعلوك - الترانيم - دهشة الساحر - الصحراء - الجبل البعيد- الأحفاد - نجمة الصباح».

6 - جنون النخيل «قصص»، دار شرقيات، القاهرة 1998.

«القصص: بعد الانفجار - الموت لأكثر من مرة واحدة! - الأخوان - شهوة الدم - ياقوت - جنون النخيل - النوارس تغادر المدينة - رجب وأمينة - عند التلال - الأم والموت - النفق - ميلاد».

7 - سيد الضريح   «قصص»، وكالة الصحافة العربية، القاهرة، 2003.

«القصص: طائران فوق عرش النار - وراء الجبال - ثنائية القتل المتخفي - البركان - سيد الضريح وتر في الليل المقطوعأطيافرؤيامحاكمة على باباالحارس».

8 - الكسيحُ ينهض «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: الشاهدُ.. على اليمين - الكسيحُ ينهض - جزيرة الموتى - مكي الجني - عرضٌ في الظلام - حفار القبور - شراء روح - كابوس - ليلة صوفية - الخنفساء - بائع الموسيقى- الجنة - الطائر الأصفر - موت سعاد - زينب والعصافير - شريفة والأشباح - موزة والزيت - حمامات فوق سطح قلبي - سقوط اللون - الطريق إلى الحج - حادثة تحت المطر - قمرٌ ولصوص وشحاذون - مقامة التلفزيون - موتٌ في سوق مزدحمٍ - نهاياتُ أغسطس - المغني والأميرة».

9 - أنطولوجيا الحمير «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: انطولوجيا الحمير - عمران - على أجنحة الرماد - خيمةٌ في الجوار - ناشرٌ ومنشورٌ- شهوة الأرض - إغلاقُ المتحفِ لدواعي الإصلاح - طائرٌ في الدخان - الحيُّ والميت - الأعزلُ في الشركِ - الرادود - تحقيقٌ - المطرُ يموتُ متسولاً - بدون ساقين - عودة الشيخ لرباه - بيت الرماد - صلاةُ الجائع - في غابات الريف - الحية - العـَلـَم - دموعُ البقرة - في الثلاجة - مقامات الشيخ معيوف».

10 - إنهم يهزون الأرض! «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: رسالةٌ من بـينِ الأظافر - الأسود - عاليةٌ - جلسةٌ سادسةٌ للألمِ - غيابٌ - عودةٌ للمهاجرِ - دائرةُ السعفِ - الضمير - المحارب الذي لم يحارب - الموتُ حُبـَأً - إنهم يهزون الأرض! - حـُلمٌ في الغسق - رحلة الرماد - أعلامٌ على الماء - گبگب الخليج الأخير - المنتمي إلى جبريل - البق - رغيفُ العسلِ والجمر - عوليس أو إدريس - المفازة - قضايا هاشم المختار - أنشودة الصقر - غليانُ المياه».

11 - ضوء المعتزلة «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: ضوء المعتزلة - جزرُ الأقمار السوداء - سيرة شهاب - معصومة وجلنار- سارق الأطفال - شظايا - الترابيون».

12 - باب البحر «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2020.

«القصص: وراء البحر.. - كل شيء ليس على ما يرام - قمرٌ فوق دمشق - الحب هو الحب - شجرة في بيت الجيران - المذبحة - إجازة نصف يوم - حادث - البائع والكلب - ماذا تبغين ايتها الكآبة؟ - إمرأة الربان - إذا أردتَ أن تكونَ حماراً - اللوحة الأخيرة - شاعرُ الصراف الآلي - البيت - حوت - أطروحةٌ - ملكة الشاشة - الغولة - وسواسٌ - مقامة المسرح - إعدام مؤلف - يقظة غريبة».


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من تقنيات القصة القصيرة عند القاص البحريني عبدالله خليفة (المكان في مجموعة سهرة أنموذجاً)

رواية «الأقلف» محاولة لتشكيل عالم مختلف