ناشرٌ ومنشورٌ _ قصة قصيرة _ عبـــــــدالله خلــــــــيفة


نـــــاشـــــــــــــــــرٌ ومنــــــشــــــــــــــــــورٌ



تدثرَ بأوراق مضيئةٍ جميلة ذاتِ سطورٍ حارقة. رأسُهُ بدايةُ صفحةٍ وقدمهُ فهرسُ الكتاب، والسطورُ بحرٌ أخذه إلى الغياب.

جاثمٌ في مكتبةٍ واسعة، ذاتُ ممراتٍ ورفوف كثيرة، وُضعَ في زاويةٍ معتمة، وما أسرع ما إنهال عليه الغبار.

 يلاصقُ كتباً عديدة، ذاتَ أغلفة ملونة، تتجمعُ كأزهار أو كتيبة حرس الاستقبال المزركشة الثياب المتفجرة بالأبواق وضرباتِ الأحذية القاسية على وجه الأرض.

يتحرك ببطءٍ، تتلمسُهُ الأيدي، وتلقيه، يجثمُ بضع شهور لا يتصفحهُ أحدٌ، عاشَ جائعاً، سكنَ غرفاً صغيرة، دَخنَّ كثيراً لينزفَ سطوره، ركبَ الباصات المليئة، والدراجةُ الهوائيةُ تعلمَ إختراقَها للهواء ولظهورِ المارة الفقراء، وعاثَ في الحقول سجائراً وتصويراً وغناءً، لكن المنشارَ بدأ الدخولَ في لحمه.

رجلٌ عادي يلبسُ بنطلوناً، وقميصاً عادياً، وأصلع، يسلمُ عليه بكبرياء.

وعند ساقه الكثير من رفاق دربه عارون من الثياب يكادون يلقون بأنفسهم في بركة الماء الزرقاء، وثمة ورقٌ بعدُ لم يقفز بين أسنان الآلآت، لم تُسحب عصارته، لم يسح دمَهُ على قارعة الطريق، أو يُوضع في نهاية ممر معتم!

لم يقرأهُ، تسلمهُ عبر البريد، ومشى في الأسلاك والهواء والسحر والظنون حتى وصل جهازه.

عّددَ خلاياه، قاسَ الصليبَ الذي سوف يُعلقُ عليه، وتُضربُ مساميرهُ في كفه، ثم أرسلَ الفاتورة.

صححَ عظامَه بنفسه، إكتشفَ بعضَ الأعصاب المقطوعة، والرماد المتسرب إلى عيونه، ثم جلسَ في كهفه المعتم، وُضع في الكهف، قرب الشارع حيث السيارات المستمتعة بالدخان، ينتظر من يحضنه، هذه فتاة تلبسُ عباءةً، تقتربُ، تطالعهُ، تقول:

- أي عنوان وأي غلافٍ بشع هذا؟!

- إنتظري..!

فرد صفحاتَهُ، نشرَ سطورَهُ في بقعةٍ واسعة، رقصَ أمام عينيها، عطّرَ بنطلونه المهترئ، لكنها أزاحته، وتناولت كتاباً مليئاً بصفحاتٍ فارغةٍ وبسطورٍ قليلة وراحت تبتسم وتصرخ:

- أبتعدْ عني!

الموظفون الهنود قلّبوهُ بين أيديهم، قرأوا عنوانه بصعوبة، سحبوه وأقرانه من مسرحِ العرض المظلم، فرحَ لأنهم ربما وضعوه قرب الزجاج المضيء، قرب العيون المحدقة في الحلوى والفساتين الزاهية، ولكنهم أنزلوه في قعرٍ عميق.

إنتشرتْ الظلمةُ حوله، لم يعد يرى شيئاً.

يتحسسُّ المكانَ بلسانه، يداه مربوطتان، يهزهما دون فائدة.

أرهفَ لحركةٍ وضجة، الأيدي تنزلُ وتأخذُ أقرانه، كلاليبٌ تغوصُ وتسحب الورقَ، أقرانٌ جددٌ كثيرون تساقطوا فوق رأسه وعلى ساقه، طبقات من الورق والأغلفة والأجسام الثقيلة، وراح الحشد يصرخ، وسمع كلماتٍ وأصواتاً:

- أين كتابُ الفضيحة؟

- هذا ورقٌ هزَّ الناسَ والشوارع التي لا يهزها شيء!

- أليس ثمة نسخ أخيرة؟

- السعر لم يعد كما السابق!

- سوف أشتريه بأي ثمن، ومن تحت الطاولة يا سيدي إذا رغبت؟

يقول البائع:

- سأضطرُ لطبعةٍ جديدة.

- أرجوك، أرجوك يا سيدي ولو نسخة واحدة!

يشعرُ بجوع رهيب، أمعاؤهُ كلها صارت ورقة صفراء، أنحلَّ جسمهُ حتى لم يبق فيه شيء، غدا أقرب للطيف، حبس أنفاسه، أزاح الأجسادَ الضاغطة على روحه، تسلل من بين شفرات الأغلفة وحراب الورق المقطع، وبقايا الحبر السائل الذي هرب من سجن سطوره وبياضه متجهاً للهواء والحرية.

وجدَ نفسَهُ في الخلاء الواسع حيث يرتفع بيتُ الناشرِ على القمة، تحيطُ به غابةٌ وحقلٌ للغزلان، وحقلٌ للشوفان.

كان الناشرُ يسبحُ في بركة، يضربُ المياهَ بساعديه القويين، ثم يقتربُ من الحافة ليخرج الشمبانيا ويفجرُ فقاعاتِها قرب ساق بيضاء رهيفةٍ مضيئة.

طلَّ في وجهه وصرخ:

- أرجوك أعطني رشفةً من السائل السحري، رشفة واحدة لا غير وكسرةَ خبز!

بهتَ السابحُ في المياهِ المنعشة بالوجه الغريب شبه المتحلل ذي الكهوف والأخاديد، وبالملابس الرثة، والساقين الطويلتين النحيفتين قامتي نخلتين عجفاوين وصاح:

- أينكَ يا لوعةَ العمر، وانت يا خريفَ الأيام وأنت أيها الزقاق المسدود!

(يا إلهي إنه ينادي بأسماء كتبي!).

فوجئَ بالأجسام الصلدة الممتلئة لأقزامٍ صغار راحوا يقذفون بأنفسهم نحوه، كأنه لقاءٌ بعد طول فراق، وكأنه عتاب مر،  لا! بل هو هجومٌ حربي قاس.

الأقزامُ ضربوه في ساقيه وكادوا أن يصلوا إلى بطنه، أهتز ورفع ساقاً نزلت بقوة في البركة وأثارت هياجاً مائياً مروعاً صدم السابح المتمتع بحافة البركة، وسقطت الزجاجة وفاضت فراح يجري وراء سائلها الثمين.

وصاح الرجلُ مرة أخرى:

- يا أشباح!

طلعت من وراء البيت عمالقةٌ كبارٌ هزت الأرض وداستْ العشبَ فطالع هذه الكائنات بذهول، كيف إستطاعتْ أياديه أن تصنعَ هذه المخلوقات الجبارة، من أي عيون وخلايا ودماء وأمراض ومشاعر تكونت وأمتلأت بالروح، من أي ليال ونهارات قائظة وبرك عرق وملح صعدتْ إلى الغيوم وقطفتْ النجوم؟

لكنها هجمتْ عليه بقوةٍ وقسوة، وأمسكته من يديه وسحبته من البركة ومن جذور التراب التي غاصت فيها، وإستغلت الأقزامُ هذا الترنح والسقوط فراحتْ تضربه، وغمغمَ بلوعةٍ:

- ألا تعرفونني؟ ألم أسهر عليكم، ألم أرضعكم من حليب حبي وضميري؟

لكنها لم تعدْ تصدرُ أصواتاً واضحة، عيونُها تمتلئُ بشرر، وأفواهُها بلعابٍ ناري تقذفهُ وتضربُ كائناته الداخلية المزهرة، فتتفجر وتطير من جسدهِ على هيئةِ طيورٍ وفراشات وحباحب، حتى أُدخل في قبو طويل معتم.

جاء الرجلُ الناشرُ يحمحمُ ويتأوه ويصرخ، وفككَ أزرةَ بنطلونه فتساقطتْ قطعٌ معدنيةٌ رنانةٌ غطتْ وجهه ورأسه، ولم يعد الهواء يدخل إلا بصعوبة شديدة.

يسمع الأصوات ويرى من الثقوب والفُرج الصغيرة وجوهَ الجماعة وهي تشيرُ لشيءٍ ما، وسمعَ خرقَهُ تتقطعُ وتُرمى، ثم نزل منشارٌ طويل ذو أسنانٍ كثيرة.

بدأت الآلامُ تتفجر، نزلت الأسنانُ على الأصابع، راح يصرخ، وقُطعتْ الأصابعُ وجثمتْ قربه تبكي دماً.

تغلغلَ المنشارُ في لحم ساقه، إنكسر، صاحتْ الكائناتُ بلغةٍ غير مفهومة، وجيءَ بآلة راحت تهدر وتهز النفق، أخيراً قُطعتْ ساقاه، وزغردتا وصاحتا معاً:

- أتعبنا هذا المخلوقُ في المشي والجري في الحقول والحارات والبحر والسجون والصحارى، حتى صرنا ما ترون، هيا هيا!

وإندفعتا فرحتين من النفق وسُمعتْ ضحكاتهما في الهواء الطلق.

ــــــــــــــــــــــ

9 - أنطولوجيا الحمير «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

 

❃❁✾❈✤

القصص القصيرة:

1 - لحن الشتاء «قصص»، دار الغد، المنامة_ البحرين، 1975.

«القصص: الغرباء - الملك - هكذا تكلم عبد المولى - الكلاب - اغتيال - حامل البرق - الملاذ - السندباد - لحن الشتاء - الوحل - نجمة الخليج - الطائر - القبر الكبير - الصدى - العين».

2 - الرمل والياسمين «قصص»، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1982.

«القصص: الفتاة والأمير - علي بابا واللصوص - شجرة الياسمين - العوسجالوجه - الأرض والسماء - المصباح - نزهة - الصورة - اللقاء - لعبة الرمل- الأحجار - العرائس - الماء والدخان».

3 - يوم قائظ «قصص»، دار الفارابي، بيروت، 1984.

«القصص: الدرب - أماه... أين أنت - الخروج - الجد - الجزيرة».

4 - سهرة «قصص»، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1994.

«القصص: السفر - سهرة - قبضة تراب - الطوفان - الأضواء - ليلة رأس السنة - خميس - هذا الجسد لك - هذا الجسد لي - أنا وأمي - الرمل والحجر».

5 - دهشة الساحر «قصص»، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، 1997.

«القصص: طريق النبع - الأصنام - الليل والنهار - الأميرة والصعلوك - الترانيم - دهشة الساحر - الصحراء - الجبل البعيد- الأحفاد - نجمة الصباح».

6 - جنون النخيل «قصص»، دار شرقيات، القاهرة 1998.

«القصص: بعد الانفجار - الموت لأكثر من مرة واحدة! - الأخوان - شهوة الدم - ياقوت - جنون النخيل - النوارس تغادر المدينة - رجب وأمينة - عند التلال - الأم والموت - النفق - ميلاد».

7 - سيد الضريح   «قصص»، وكالة الصحافة العربية، القاهرة، 2003.

«القصص: طائران فوق عرش النار - وراء الجبال - ثنائية القتل المتخفي - البركان - سيد الضريح وتر في الليل المقطوعأطيافرؤيامحاكمة على باباالحارس».

8 - الكسيحُ ينهض «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: الشاهدُ.. على اليمين - الكسيحُ ينهض - جزيرة الموتى - مكي الجني - عرضٌ في الظلام - حفار القبور - شراء روح - كابوس - ليلة صوفية - الخنفساء - بائع الموسيقى- الجنة - الطائر الأصفر - موت سعاد - زينب والعصافير - شريفة والأشباح - موزة والزيت - حمامات فوق سطح قلبي - سقوط اللون - الطريق إلى الحج - حادثة تحت المطر - قمرٌ ولصوص وشحاذون - مقامة التلفزيون - موتٌ في سوق مزدحمٍ - نهاياتُ أغسطس - المغني والأميرة».

9 - أنطولوجيا الحمير «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: انطولوجيا الحمير - عمران - على أجنحة الرماد - خيمةٌ في الجوار - ناشرٌ ومنشورٌ- شهوة الأرض - إغلاقُ المتحفِ لدواعي الإصلاح - طائرٌ في الدخان - الحيُّ والميت - الأعزلُ في الشركِ - الرادود - تحقيقٌ - المطرُ يموتُ متسولاً - بدون ساقين - عودة الشيخ لرباه - بيت الرماد - صلاةُ الجائع - في غابات الريف - الحية - العـَلـَم - دموعُ البقرة - في الثلاجة - مقامات الشيخ معيوف».

10 - إنهم يهزون الأرض! «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: رسالةٌ من بـينِ الأظافر - الأسود - عاليةٌ - جلسةٌ سادسةٌ للألمِ - غيابٌ - عودةٌ للمهاجرِ - دائرةُ السعفِ - الضمير - المحارب الذي لم يحارب - الموتُ حُبـَأً - إنهم يهزون الأرض! - حـُلمٌ في الغسق - رحلة الرماد - أعلامٌ على الماء - گبگب الخليج الأخير - المنتمي إلى جبريل - البق - رغيفُ العسلِ والجمر - عوليس أو إدريس - المفازة - قضايا هاشم المختار - أنشودة الصقر - غليانُ المياه».

11 - ضوء المعتزلة «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: ضوء المعتزلة - جزرُ الأقمار السوداء - سيرة شهاب - معصومة وجلنار- سارق الأطفال - شظايا - الترابيون».

12 - باب البحر «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2020.

«القصص: وراء البحر.. - كل شيء ليس على ما يرام - قمرٌ فوق دمشق - الحب هو الحب - شجرة في بيت الجيران - المذبحة - إجازة نصف يوم - حادث - البائع والكلب - ماذا تبغين ايتها الكآبة؟ - إمرأة الربان - إذا أردتَ أن تكونَ حماراً - اللوحة الأخيرة - شاعرُ الصراف الآلي - البيت - حوت - أطروحةٌ - ملكة الشاشة - الغولة - وسواسٌ - مقامة المسرح - إعدام مؤلف - يقظة غريبة».



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من تقنيات القصة القصيرة عند القاص البحريني عبدالله خليفة (المكان في مجموعة سهرة أنموذجاً)

رواية «الأقلف» محاولة لتشكيل عالم مختلف