الأصنــــــــــــــــام : قصةٌ قصـــــــيرةٌ ـ لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

 اصطدمت جبهة الحاج مهدي وهو يصلي بشيء صلب .
كان حقلهُ الصغير قد توارى بزحف الظلام ، ولم تظهر في السماء حتى شرايين أخيرة للشمس ، ولجأت الطيور إلى البيات ، ولم يرتعش في الحقل سوى قنديل في عريش مفتوح لكل الجهات .
تغلغلت يده في التراب . ثمة شيء ثقيل يرفض دغدغة الأصابع .
تسلط ضوء القنديل على الحفرة ، فتدفقت أحجارٌ غريبةٌ ؛ أطباقٌ وجرات وبشر مشوهون حولهم حيات وأغصان.
فكر: إنها أشياءٌ واضحة ومخيفة، إنها أصنامٌ!
روعته الأحجار والثيران التي تبول على يده . تجمد على حائط شجرة، والقمر المكتمل المشتعل بدماء القرابين يصعد من الشرق ، متعالياً فوق الحقول وهوائيات البيوت .
نظر إلى الحقل الميت في العتمة .
لماذا لم يعطه بكل روحه ، لماذا عجز عن إنقاذ ولديه وألقاه كوخاً هزيلاً في أقصى القرية ، صديقاً لمقبرة ؟ لماذا تكسر فأسه وعمره فوق برسيمه المنتشر الرخيص وطماطمه المتكاثرة البائرة فجأة ؟
قرأ الآيات وعلق الاحجبة وبكي للحسين ووزع بقايا الأرغفة على العصافير غير أنه بقى ذلك السطر الموحش بين البرسيم والتراب . الآن انكشف السر، وفاحت أعماق الأرض بمكنوناتها الخبيثة .
طالما حذره أبوه من جوف التربة وطوابقها الداخلية قائلاً : لا تضرب الفأس بحدة. باسم الله الرحمن الرحيم . علق الأشرطة الخضراء على الأشجار . لا تعمل في الليل والوفيات وأعط السادة حقوقهم !
بعد كل هذا ، بعد ثلاثين سنة من دوران الثور حول الساقية ، تظهرُ الشياطينُ من الأعماق ساخرة ، مقدمة أغصانها وملابسها ، مطلقة القهقهات في العتمة !
أطفأ النارجيلة بيده شعاع القمر ليسير به في جنبات الحقول والبساتين النائمة، حيث لا توجد سوى الجنادب تصرصر في كل مكان ، مؤنسة وحشته الضارية.
تقلب على فراشه ، وتخشب وسط ضجة البيت وبين روائح بيضه وشايه وحقائب الأولاد ، وتعكز على ما بقي من قلب ليقلب التربة ، ويطارد الأبالسة في عقر دارهم .
لكن السطر الأخضر الترابي لم يعدله . كان مدججاً بالسلاح والوجوه والملابس الغريبة . أناسٌ يحيطون بالأرض وآخرون تغلغلوا فيها ، وآخرون يسيجون الحقل بأسلاك شائكة .
لم يفهم أحدٌ لغته، وتركوه خارج البرسيم والحمام ملقىً قرب نخلة عجفاء .
نقلوا الجرات والأصنام والكؤوس والسهام . تشوهت التربة وانهار عريشه المفتوح على الجهات ، ورُميت النارجيلة ، واختفت الفأس ، وصمت البئر والعصافير، وتساقطت اللافتات الخضراء ، وكادت أسنان الأسلاك الشائكة أن تأكل لحمه وهو يحضنها ليطالع فعل الشياطين في روحه .
مرميٌ وراء الحقل، يرى خضرواته تصّفر ، ووجه جديدٌ ينقبُ بهدوء في أحشاء التراب .
لمسةُ سكينه هادئة ، كأنه يوشوش الأرض ، يناغيها بود ، ويحفر تحت الشمس الساخنة، وفي هوجة الريح والغبار ، وفي اقتراب المساء البارد .
أيامٌ وذنيك الجسدان يتواجهان بين ضفتي السور.
كان الأثريُ يرى مهدياً كإحدى المأثورات التي قذفتها التربةُ .
والفلاحُ يشاهد الرجل كحشرة دائبة التنقيب في جلده .
يتصور مهدي إن كل ذلك المهرجان قد تم لإنقاذ أرضه ، واستخراج الأرواح الشريرة من باطنها ، وجعل النخلات مزهرة ، وإطلاق سراح الينابيع الصافية ، وإلقاء الأصنام في محرقة .
وأخذ ينتظر .
كان الأثريُ يتطلع إلى الرجل الجالس تحت النخلة ، فيراه كجذع لها ، ويراها كقمة له.
اعتاد أن تشق المعاولُ أجساد الحقول ، وأن تنثر أمعاءها وأيديها عبر الفراغ الشاحب للزمن ، وأن تحمل صناديق خاصة تلك الكنوز إلى ما وراء المدن والبحر ، صانعة جنات ورافة لمن يحملونها ويبيعونها بعيداً وسراً .
اعتاد على ركض الرجال القرويين وتفتت أقدامهم قرب تلاله الدموية ، وكم من مرة نزف وكتب ورقة ليستبدل أحدهم أرضه بقطعة ترابية ضائعة وسط البرية ، أو ليحصل على ثمن لكفنه وجنازته .
ويبدو الشبحُ الجاثم أمامه كشكل مروِّع للصدمة والغياب .
جلس معه . أعطاه بقايا الأرض التي لم تدهسها أنصال المعاول ، وأسند عريشه معه ، وجثما تحت الظل وقرب النارجيلة الفائرة بالحرارة والألم ، يتحدثان .
كان مهدي لا يكاد يفهمُ ما يقوله الرجل . إنه يزعم إن هذه البقايا الآثمة المروعة تــُُـنظفُ وتبجلُ وتــُوضع في علب زجاجية مضاءة ، وإن قوماً غرباء يأتون وينحنون لها، يدفعون أموالاً ويقعدون قربها مأخوذين خائفين !
أرتعد ، والأثري يصور أدغالها تحت الأرض ، حيث تمتد إلى ما وراء سوره، وسوف تقلع بئره ، وتمضي شرقاً ناثرة شظايا الحقول والأكواخ والصدور .
ضرب على رأسه وصاح [ يا ويلي ! ]
لم تبق أية مدخرات في صرة زوجته ، والأكل سينفد كله بعد أيام ، والرسالة التي حملها دائراً بها على الوزارات والأقسام، تذوبُ من العرق والأختام ، وهو حائر ، متخثر الأعصاب ، زائغ النظرات ، في شوارع المدينة ، يحضنه مصران قهوة ويلفظه باصٌ مع الغازات والدخان .
تتآكل قدماه قرب حقله المهدم السور الآن ، الذي تعالت فوقه تلالٌ وتغلغلت فيه وديان ، وتكومت نخيله وأشجاره وعصافيره وأخيلة مآتاته فوق بعضها منتظرة شاحنة .
يعزمهُ الأثري على غداء . يقوده في سيارته بعيداً عن الكآبة. يعطيه معولاً وأجراً لنشر كومات التراب والأحجار والرموز.
يزيح الرمل ويرى بقايا جذور نخله ، وأبنية تتفتح عن معبد وجماجم وخواتم .
يتجول بين شواهد حريق ، وأيد مرفوعة للقمر ، وألسنة نارية مهولة تأتي من الفضاء وتنصب فوق الرؤوس ، وتتعالى الصرخات وتتصادم الأجساد ، وكرات الحمم تنقضُ فوق اللحم ويتصاعد البخور البشر .
الثيران تسير نحو بقعة ضوء ضائعة في السماء ، والأبدانُ تنحلُ محروقة الجلد والروح ، تصرخُ عبر الزمان، وصياحها يتخثر في الفخار .
مهدي يحملق في الأثري وهو ينزل به إلى جوف المحرقة ، وكأن الصياح يتعالى والجمهور يرفع أيديه ، ثم يزول ولا تبقى سوى كومة العظام المتفحمة تضع إشارات أخيرة على الجدار .
من قلب القمر ، ومن الضوء الساطع على قرن ثور يكدح في الأرض ، ويصير شعاعاً معلقاً وآهة ؛ يرى قريته بسنابلها وأيديها المرفوعة إلى السماء ، علّ رحمة تنقض، ولا شيء سوى الرماد والخطوط السهام المتوغلة في الجلود، والبشر سمادٌ مغذيٌ للحياة.
في حلمهما المشترك، مد الأثريُ جرةً ثقيلة عليها نقوش وعلامات تجارية حديثة . طل فيها وكانت كالبئر الواسعة ، رأى قطعاً ذهبية على شكل حيات.
لم يعد ثمة موطئ قدم لبرسيمه، وعريشه المفتوح صار جريداً ملقىً . وأبناؤه سحبهم من المدارس وغلغلهم في الأسواق والمحاجر والطقوس .
وبدأ يهوم على أسنة الشمس المسنونة في المدينة .
ـــــــــــــــــــــــ

5 - دهشة الساحر «قصص»، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، 1997.

 

❃❁✾❈✤

القصص القصيرة:

1 - لحن الشتاء «قصص»، دار الغد، المنامة_ البحرين، 1975.

«القصص: الغرباء - الملك - هكذا تكلم عبد المولى - الكلاب - اغتيال - حامل البرق - الملاذ - السندباد - لحن الشتاء - الوحل - نجمة الخليج - الطائر - القبر الكبير - الصدى - العين».

2 - الرمل والياسمين «قصص»، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1982.

«القصص: الفتاة والأمير - علي بابا واللصوص - شجرة الياسمين - العوسجالوجه - الأرض والسماء - المصباح - نزهة - الصورة - اللقاء - لعبة الرمل- الأحجار - العرائس - الماء والدخان».

3 - يوم قائظ «قصص»، دار الفارابي، بيروت، 1984.

«القصص: الدرب - أماه... أين أنت - الخروج - الجد - الجزيرة».

4 - سهرة «قصص»، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1994.

«القصص: السفر - سهرة - قبضة تراب - الطوفان - الأضواء - ليلة رأس السنة - خميس - هذا الجسد لك - هذا الجسد لي - أنا وأمي - الرمل والحجر».

5 - دهشة الساحر «قصص»، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، 1997.

«القصص: طريق النبع - الأصنام - الليل والنهار - الأميرة والصعلوك - الترانيم - دهشة الساحر - الصحراء - الجبل البعيد- الأحفاد - نجمة الصباح».

6 - جنون النخيل «قصص»، دار شرقيات، القاهرة 1998.

«القصص: بعد الانفجار - الموت لأكثر من مرة واحدة! - الأخوان - شهوة الدم - ياقوت - جنون النخيل - النوارس تغادر المدينة - رجب وأمينة - عند التلال - الأم والموت - النفق - ميلاد».

7 - سيد الضريح   «قصص»، وكالة الصحافة العربية، القاهرة، 2003.

«القصص: طائران فوق عرش النار - وراء الجبال - ثنائية القتل المتخفي - البركان - سيد الضريح وتر في الليل المقطوعأطيافرؤيامحاكمة على باباالحارس».

8 - الكسيحُ ينهض «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: الشاهدُ.. على اليمين - الكسيحُ ينهض - جزيرة الموتى - مكي الجني - عرضٌ في الظلام - حفار القبور - شراء روح - كابوس - ليلة صوفية - الخنفساء - بائع الموسيقى- الجنة - الطائر الأصفر - موت سعاد - زينب والعصافير - شريفة والأشباح - موزة والزيت - حمامات فوق سطح قلبي - سقوط اللون - الطريق إلى الحج - حادثة تحت المطر - قمرٌ ولصوص وشحاذون - مقامة التلفزيون - موتٌ في سوق مزدحمٍ - نهاياتُ أغسطس - المغني والأميرة».

9 - أنطولوجيا الحمير «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: انطولوجيا الحمير - عمران - على أجنحة الرماد - خيمةٌ في الجوار - ناشرٌ ومنشورٌ- شهوة الأرض - إغلاقُ المتحفِ لدواعي الإصلاح - طائرٌ في الدخان - الحيُّ والميت - الأعزلُ في الشركِ - الرادود - تحقيقٌ - المطرُ يموتُ متسولاً - بدون ساقين - عودة الشيخ لرباه - بيت الرماد - صلاةُ الجائع - في غابات الريف - الحية - العـَلـَم - دموعُ البقرة - في الثلاجة - مقامات الشيخ معيوف».

10 - إنهم يهزون الأرض! «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: رسالةٌ من بـينِ الأظافر - الأسود - عاليةٌ - جلسةٌ سادسةٌ للألمِ - غيابٌ - عودةٌ للمهاجرِ - دائرةُ السعفِ - الضمير - المحارب الذي لم يحارب - الموتُ حُبـَأً - إنهم يهزون الأرض! - حـُلمٌ في الغسق - رحلة الرماد - أعلامٌ على الماء - گبگب الخليج الأخير - المنتمي إلى جبريل - البق - رغيفُ العسلِ والجمر - عوليس أو إدريس - المفازة - قضايا هاشم المختار - أنشودة الصقر - غليانُ المياه».

11 - ضوء المعتزلة «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: ضوء المعتزلة - جزرُ الأقمار السوداء - سيرة شهاب - معصومة وجلنار- سارق الأطفال - شظايا - الترابيون».

12 - باب البحر «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2020.

«القصص: وراء البحر.. - كل شيء ليس على ما يرام - قمرٌ فوق دمشق - الحب هو الحب - شجرة في بيت الجيران - المذبحة - إجازة نصف يوم - حادث - البائع والكلب - ماذا تبغين ايتها الكآبة؟ - إمرأة الربان - إذا أردتَ أن تكونَ حماراً - اللوحة الأخيرة - شاعرُ الصراف الآلي - البيت - حوت - أطروحةٌ - ملكة الشاشة - الغولة - وسواسٌ - مقامة المسرح - إعدام مؤلف - يقظة غريبة».


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من تقنيات القصة القصيرة عند القاص البحريني عبدالله خليفة (المكان في مجموعة سهرة أنموذجاً)

رواية «الأقلف» محاولة لتشكيل عالم مختلف