طريق النبع : قصةٌ قصـــــــيرةٌ ـ لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة
ــ 1 ــ
يتذكر جزيرة «النبي صالح» وهي محاطة بغلالة من الضوء الأخضر. كأن غابة النخيل الكثيفة، المُندغمة بالسماء الزرقاء والرمل الأبيض، شريط من السحر ورؤيا الجنة الأزلية
مان أبوه يجدِّف في عمق الماء المتصاعد الأزرق، ذي القمم المُضيئة المزبدة المترنحة على الخشب الصلد السائر بقوة في هذا الخضم. وهو يجثم شاعراً بألم ما، ورأسه الحليقة مخبأة بكوفية رقيقة.
حين اقترب القارب من الشاطئ، وترجرج في الماء الضحل، نزل أبوه وقد شمَّر ثوبه، وجر الكتلة الخشبية بقوة، ثم ساعده في النزول. وشعر هو ببرودة الماء اللذيذة ونظافته، وتلؤلؤ الرمل الأبيض تحته.
جاء حفيف النخل وتفريد الطيور وعبق الأشجار ليبدد الألم اللائب في جسده النحيف المضنى، وترامت حولهما البساتين دائرةً من العناقيد والنسمات، وتناهت أصوات الفلاحين وزوجاتهم وأطفالهم وكأنهم في رحلة، أو لحظة عرس.
بيوت قليلة ملونة جميلة متناثرة، وثمة قطعان من الماعز تلهو، ومسجد صغير يوزع الشرائط الخضراء والأدعية والأحلام. ولم يكن الرطب الناضج الذي أهداه فلاح، الشهي في فم أبيه، لذيذاً وحلواً.
كان النبع يتدفق من تحت الصخور والتراب، زلالياً، مضيئاً، ذا أصوات ناعمة، يكوِّن غرفة واسعة، ثم يتدفق في مجرى عريض واسع، تحف به نخلات باسقات، شديدات الطول والجمال، ذوات أقراط مذهبة، وحشائش كثيفة كأنها روائح امرأة فاتنة وليل مفعم بالنشوة.
يتذكر طعم الماء، الذي أحتضن ساقيه الواهنتين، المرتعشتين، وكيف كان الرمل الأبيض المترجرج صلداً، وناعماً. وجاءت فضاءت النبع وارتعاشاته السرية، الداخلية، وحكيه الثرثار، وأحاطت بجسده المفتوح لأسياخ الحديد المحماة، والنذور، والابتهالات الغامضة، وأحتضنه كصديق عريق وفتح مسامه للنور والهواء والجذور غاص في التلؤلؤ الكامل للضياء ورأى بقبقة المنبع ولثم تدفقاته المريحة وأنفاسه المخلصة.
وكان أبوه يحمل السكين والدمن والشريط الأخضر وورقة الأدعية الرقيقة الملفوفة في ذلك المربع اليابس الصلب، الأسود، وكان يهمهم بكلمات غريبة، كما لو كان سيذبح شاةً، لكنه أبعد يده، وأحس بنشوة تغسله، وكأن تلك الرياح الساخنة المؤلمة التي تدور في أزمة جسده، تلاشت وتوحدت مع الماء والنخل الضاحك المرتجف.
يتذكر إن الليل حل فجأة، وتناثرت أشلاء الشمس فوق رؤوس النخل، وفُتحت نوافذ السماء للعفاريت والأشباح، التي راحت تهمس للسعف ولأعماق البساتين والطين والبرك. وتوجه أبوه إلى درب ما، وسمع كلاماً ونهيق حمار، ثم ظهر أبوه ورجل غامض الملامح في جوف المساء.
سار الرجل وهو يقود الحمار المحمل بكل عطايا الحقول، أبيض كأنه غيمة، أو حليب وكان نهيقة ناعماً، فأحب أن يلمسه لكن الحمار أجفل خائفاً.
أعطاهما الرجل حجرته، وسمعاه يتحدث مع زوجته في الحوش.
يتذكر، يتذكر بألم ومرارة، كما لو أنه يود أن يتجمد مجرى الزمن هنا، أو أن ثمة كشافاً هائلاً مسلطاً على تلك اللحظات. أبوه يغرق في نومه، وهو يكتشف ذلك الصندوق، والذهب المخبأ.
أبوه يصرخ في نومه وصمته "لا تستطيع أن تعبر بحر الجزيرة إذا سرقت حبة تمر"، وكأن القارب ينقلب فجأة في الخضم، ويصطدم رأسه بمرساته، لكنه يتشبث بقطع الصلب المضيء تلك، ويخبأها بين ضلوعه، وينام، ويحلم. كان دائماً يسرق الصبية الآخرين، ومعلم القرآن، وادخارات أبيه الصغيرة، ويضعها في كنزه المتنامي، ويعض على حديد العملاق متذوقاً صلابتها، ويطالعها في جلساته السرية الطقوسية، مغمغماً بأدعية لتتكاثر وتتناسل.
وفي الصباح، قادهما الفلاح الشاب القوي، وكأنه نخلة متحركة، إلى قاربهما، ودفعهما، وقد وضع سلة خوص مليئة بالرطب واللوز والليمون. وراح أبوه يجدف، وهو يتطلع إلى الرجل المتضائل، الذي يأكله الموج.
ــ 2 ــ
كانت هذه الجزيرة دائماً معه، تشخب دماً بين ضلوعه، مختبئة كمسمار صدئ تحت جلده، وحين يتحرك كان سنها الحاد ينغرز ويطلع أشباحاً واكواخا.
معه كانت دائماً، وهو يدفن اباه ويستولي على ميراثه، ويحمل بقاياه وصوره وخرافاته ويدفنها معه، ثم يشيد ذلك المعمل الصغير، المدفون وسط الحقول والتلال، وهو يتزوج حصة لتحترق فجأة وهو حادث مرعب، وتعود ثروتها اليه.
كان هذا المسمار الكالح، الذي يشرسر صدأً ودماً، يغفو في لحمه، على هدهدات الصدمَات الصغيرة، والاندساس بين الكتل في الحجم، وفي صراخ الذبائح الموزعة على الفقراء والرمال. لكنه لم يختف أبداً. تقلقل، وتراءت نخيله الباسقات كنساء مقطوعات الرؤوس، وجاء ينبوعه الفوار المتلألئ يحمل آذاناً مقطوعة، ويضيء في عتمة نومه، فلا يجد سوى زوجته الجديدة الوارفة الجمال والظلال، عشبأً يُندس فيه، عن هذا الصراخ المترامي، وتلك الزجاجات الذهبية التي تعدمُ عفاريت الليل واسئلة الجندب اللحوحة.
لم يختف تماماً، رغم ذلك النمو للمعمل فوق أشلاء النخيل وعلى هامات التلال وزرائب الماشية والبشر. رغم ذلك الجسر الكبير الممتد، بعشرات المصابيح، مثل هذا الجسر الذي يأخذه لجزيرة النبي صالح، ثانيةً، والتي كان يهرب منها، ويلوذ بالفرار من شواطئها، ويقلب صفحة القرآن حين يأتي ذكر النبي صالح، وناقته، وصرخته..
لم يعطه الويسكي شيئا. هناك منطقة ميتة ملعونة في ذاته، تصرخ دائماً وتطلب أضاحيِّ ومواعيد. والآن سيواجه هذا الدغل. سوف يسير في زقاق مرضه، ولتندلع الصرخات واللعنات، ولتتقافز العفاريتُ والأشرطةُ الخضراء والتمائم!
لكن الجسر مزحوم. ثمة شريط لامع من السيارات والزجاج. ويصطف البحرُ على الجانبين مفجوعاً، مقسماً بين الصخور وأسنان الحديد، والرمال والحصى تزحف فوقه..
انفتح الطريق، وجاءت الجزيرة صغيرة وشاحبة، يحرسها مخفران كبيران ابتلعا وجهها.
حالما دخلت السيارة طريق الجزيرة حتى جاء عزاءٌ حسيني هادر. شلال من الرجال المفتوحي الصدور، والممزقين، المنهمرين من ينبوع خفي.
ترنحت السيارة، وأندفعت في أرض موحلة ذات أعواد وجذوع وأشواك. غاصت عجلاتها وراحت تئن. كتل الرجال ملاصقة لزجاجة البراق، والسلاسل التي أكلت الظهور، أهدته خيوطاً رفيعة من دماء.
صراخ، واهتزازات خفية عميقة في باطن الأرض، وجذوع النخيل المقطوعة الرؤوس، ترقص كأشباح. وحالما خرج العزاءُ الحسينيُ من فم الجزيرة فائضاً في الدروب، تحت الشموس المتكسرة، حتى أستعاد الهدوء ورأى عروق الجزيرة الغريبة.
كأنها ليست هي. أين غارت البساتين والينابيع وغابات العصافير، ولماذا هذه الأغنام الكالحة الجرباء تحدق فيه؟ والبيوت الصغيرة الملونة استمالت إلى أقزام مشوهة متراكبة.
لن يعرفه أحد، وكل شيء مات.. وهو الذي ظل عقوداً طويلة خائفاٍ من هيكل عظمي، اهترأ في التراب، وجثمت عيون الرجل النخلة ترافقة وهو يوزع الصدقات، ويسافر إلى الجزر البعيدة الخضراء، وهو يدشن مشروعاته ويقيم عمارات من النقود والعظام.
هذا هو طريق النبع. لم تبق فيه سوى عشر نخلات متناثرات، كأنهن أصابع عملاق مختفٍ، ولم يبق سوى حشرجاته، تدفعها الموجات وبقايا النسمات.
خلف النخلات، جثمت فِلل الغرباء، أسوار وقرميد أحمر وهوائيات تلفزيون وصحون للفضاء وحراس عند البوابة.
هذا هو طريق النبع. هنا قاده أبوه لذلك التجلي الفضي للطهاره. كان هنا دغلٌ أخضر وأحمر، ترتجف جذوره وعناقيده بالهواء النقي. الآن أرض قاحلة وموحلة، تقود إلى تلك البقعة المنحدرة، كأنها منخفض لمومس عجوز.
لم تبق سوى الحشائش وخيط صغير من الماء. ثمة ارتعاشه صامدة للأرض، وضوء خافت يطلع من الأعماق. لكن دائرة من الوحل والقذارة تتجمع حوله.
انتبه إلى وجود هيكلين عظميين عند النبع.
جَثَمَ، ولم يسعفه جسمه الضخم، وكرشه المتهدل، أن ينحني ويلتقط حفنة من ماء.
أحد الهيكلين العظميين تحرك، وغرف بكأسه ماءً وتقدم إليه.
شعر بالفرح. لم يعد ثمة خوف يربطه بالمكان. تناول الكأس المعدني المهترئ وشرب ماءً عذباً عميقاً.
فجأة تطلع إلى الرجل الآخر. وجهه يعرفه. نظرته.. سقط الكاس من يده.
إنه هو الرجل النخلة الطيب الذي دفع قاربه المحمَّل بالهدايا والذهب.
هو خط دقيق واحد من عظم فوقه جلد متغضن. يد شاحبة هي عرق أخير للحياة. رأسه صلعاء ذات شعر نادر بلون الطحين. ثمة ماعزٍ ضار التهم عشبه.
جامد، متصلد في ذاته، انقطع عن اللغة والماء والأصوات. حدق فيه عساه أن يعرفه ويقتله. حرك يديه أمام وجهه لكنه بلا روح. تمنى أن يبصره فقط..
تعكز العجوزان على جسده، ساروا ببطء في طريق الجذوع والأشباح.
قال العجوز:
ـــ خرج من السجن تواً. قتل زوجته التي سرقت ذهبه وأعطته لرجل من القرية.
لم يستطع أن يحمل جثثهم. فر مذعوراً إلى سياته.
ــــــــــــــــــــــــ
5 - دهشة الساحر «قصص»، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، 1997.
❃❁✾❈✤
✗ القصص القصيرة:
1 - لحن الشتاء «قصص»، دار الغد، المنامة_ البحرين، 1975.
❖ «القصص: الغرباء - الملك - هكذا تكلم عبد المولى - الكلاب - اغتيال - حامل البرق - الملاذ - السندباد - لحن الشتاء - الوحل - نجمة الخليج - الطائر - القبر الكبير - الصدى - العين».
2 - الرمل والياسمين «قصص»، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1982.
❖ «القصص: الفتاة والأمير - علي بابا واللصوص - شجرة الياسمين - العوسج – الوجه - الأرض والسماء - المصباح - نزهة - الصورة - اللقاء - لعبة الرمل- الأحجار - العرائس - الماء والدخان».
3 - يوم قائظ «قصص»، دار الفارابي، بيروت، 1984.
❖ «القصص: الدرب - أماه... أين أنت - الخروج - الجد - الجزيرة».
4 - سهرة «قصص»، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1994.
❖ «القصص: السفر - سهرة - قبضة تراب - الطوفان - الأضواء - ليلة رأس السنة - خميس - هذا الجسد لك - هذا الجسد لي - أنا وأمي - الرمل والحجر».
5 - دهشة الساحر «قصص»، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، 1997.
❖ «القصص: طريق النبع - الأصنام - الليل والنهار - الأميرة والصعلوك - الترانيم - دهشة
الساحر - الصحراء - الجبل البعيد- الأحفاد - نجمة الصباح».
6 - جنون النخيل «قصص»، دار شرقيات، القاهرة 1998.
❖ «القصص: بعد الانفجار - الموت لأكثر من مرة واحدة! - الأخوان - شهوة الدم - ياقوت - جنون النخيل - النوارس تغادر المدينة - رجب
وأمينة - عند التلال - الأم والموت - النفق - ميلاد».
7 - سيد الضريح «قصص»، وكالة الصحافة العربية، القاهرة، 2003.
❖ «القصص: طائران فوق عرش النار -
وراء الجبال - ثنائية القتل المتخفي - البركان -
سيد
الضريح – وتر
في الليل المقطوع – أطياف
– رؤيا
– محاكمة
على بابا – الحارس».
8 - الكسيحُ ينهض «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.
❖ «القصص: الشاهدُ.. على اليمين - الكسيحُ
ينهض - جزيرة الموتى - مكي الجني - عرضٌ في الظلام - حفار القبور - شراء روح - كابوس - ليلة صوفية - الخنفساء - بائع الموسيقى- الجنة - الطائر الأصفر - موت سعاد - زينب والعصافير - شريفة والأشباح - موزة والزيت -
حمامات فوق سطح قلبي - سقوط اللون - الطريق إلى الحج - حادثة تحت المطر - قمرٌ ولصوص وشحاذون - مقامة التلفزيون - موتٌ في سوق مزدحمٍ - نهاياتُ أغسطس - المغني والأميرة».
9 - أنطولوجيا الحمير «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.
❖ «القصص: انطولوجيا الحمير - عمران - على أجنحة الرماد - خيمةٌ في الجوار - ناشرٌ
ومنشورٌ- شهوة الأرض - إغلاقُ المتحفِ لدواعي الإصلاح - طائرٌ في الدخان - الحيُّ والميت - الأعزلُ في الشركِ - الرادود - تحقيقٌ - المطرُ يموتُ متسولاً - بدون ساقين - عودة الشيخ لرباه - بيت الرماد - صلاةُ الجائع - في غابات الريف - الحية - العـَلـَم - دموعُ البقرة - في الثلاجة - مقامات الشيخ معيوف».
10 - إنهم يهزون الأرض! «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.
❖ «القصص: رسالةٌ من بـينِ الأظافر - الأسود - عاليةٌ - جلسةٌ سادسةٌ للألمِ - غيابٌ - عودةٌ للمهاجرِ - دائرةُ السعفِ - الضمير - المحارب الذي لم يحارب - الموتُ حُبـَأً - إنهم يهزون الأرض! - حـُلمٌ في الغسق - رحلة الرماد - أعلامٌ على الماء - گبگب الخليج الأخير - المنتمي إلى جبريل - البق - رغيفُ العسلِ والجمر - عوليس أو إدريس - المفازة - قضايا هاشم المختار - أنشودة الصقر - غليانُ المياه».
11 - ضوء المعتزلة «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.
❖ «القصص: ضوء المعتزلة - جزرُ الأقمار السوداء - سيرة شهاب - معصومة
وجلنار- سارق الأطفال - شظايا - الترابيون».
12 - باب البحر «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2020.
❖ «القصص: وراء البحر.. - كل شيء ليس على ما يرام - قمرٌ فوق دمشق - الحب هو الحب - شجرة في بيت الجيران - المذبحة - إجازة نصف يوم - حادث - البائع والكلب - ماذا تبغين ايتها الكآبة؟ - إمرأة – الربان - إذا
أردتَ
أن
تكونَ
حماراً - اللوحة الأخيرة - شاعرُ الصراف الآلي - البيت - حوت - أطروحةٌ - ملكة الشاشة - الغولة - وسواسٌ - مقامة المسرح - إعدام مؤلف - يقظة غريبة».
تعليقات