دهشة الساحــــــــر : قصة قصيرة ــ لـ عبدالله خليفة

 


كانت ضجة عنيفة على الباب.

لملم العجوز أطرافه المبعثرة بين النوم والحلم، وتعكز على ظلالا الظهيرة، وفتح، وفوجئ بانهمار مطر بُني من المفتشين ورجال الشرطة.

وُضعت زجاجات الكافور والزعتر والورد، وارتجافات المواليد، وشظايا أماني العمر المديد وحبوب البصر، في الأكياس.

لم يكن هناك في الحي من يرمق المشهد.

الأغراب الذين سكنوا وصاروا رجال المليشيا، والجبليون المغمغمون بلغة رهيبة، لم يكونوا يدرون به.

كانت الشمس وحدها ساطعة مثل مليون قنبلة.

تعثر طويلاً ليركب [ الجيب ]. كانت أبعد مشاويره [ الخباز ] ودكان الأصحاب، وسطح بيته المهُاجم بدوي المكيفات.

في المكتب واجه وجهاً بارداً مغسولاً بغبار الكولونيا. تراءت وراءه الكتب والمناظر الأجنبية. ثمة نباتات غريبة تغمغم.

تأمل الطبيبُ المسئولُ المشعوذ، وهتف في نفسه: [ الآن وقع في قبضتي! يا لثارات تلك الأيام المرتجفة من خطواته المخيفة، ونظراته الميدوزية القاتلة !].

فكر كم مضت من سنوات وهو لم يزر الحي، منذ أن حمل والديه المنهكين من السنين فوق كتفيه وحط بهما في برية قاحلة، بمنزل واسع مريح لا يدنو منه القذرون.

في تلك الليالي البعيدة، حيث تلسعه عصي الأولاد الأشقياء، وألعابهم البذيئة، سمع بانتهاكات هذا الساحر للأجساد والأرواح. إنه المخيف الذي لديه أسرار الحي، وأعشابه تكّون دورة المواليد، وتهيئ الذكورة، وتُعطي القطط السوداء أرواحاً ثامنة.

قال الطبيبُ:

ــ يا سيد أنت متهم بالقضاء على حياة إنسان. دمرت جنيناً في بطن أمه. هذا إذا تغاضينا عن ممارستك للشعوذة والتطبيب بدون ترخيص.

لم يسمع صوتاً. كأن العجوز غرق في مقعده. تهدلت كوفيته على جبينه، وبانت يده المعروقة محفورة بأخاديد بيضاء وارتجافات زرقاء. ثمة يد كأنها ثعبان مسالم.

انتبه العجوز إلى دوي المكيف، ورأى النبات مذعوراً، وثمة سحابة من الكيمياء الخبيثة في جو الغرفة. الكتب ضخمة وعناوينها مثيرة. لم يستفد من عمره المديد ورحلاته للدخول فيها؟!

سأل الطبيب:

ــ أتسمعني أيها الرجل.. أنت في موقف خطير، ولا بد أن تدافع عن نفسك؟

وقع نظر العجوز على أسم الطبيب. دُهش. انطلقت به طائرة نفاثة في محيط من الصور والمشاعر، وبرزت أعمدة النور الأولى في غابة الأكواخ. ورأى خطواته تتبعثر مع قنديل في زقاق ضيق، ورجل مذعور يحاول أن يقوده إلى كوخه. كان أنين الأم يسبق الريح.

أعاد البصر على وجه الطبيب، فرأى قناعاً من البلاستك اللدن الموشى بالعظم. وبدا جمهور كثيف من الصغار يسن الرماح ويذوب في الزمن.

في زمن كان النخل وحده مسئولاً عن التراب، جاءته امرأة حزينة. لمتخطُ أبداً إلى منزله. كانت مذعورة، وعريشه كان مواجهاً للهواء والبحر والسفر. أدخل في جوفه الزجاجات والأعشاب والمخطوطات العتيقة. هناك كان يكلم أبن سينا والعيون المنتفخة وارتعاشات النسوة الغامضة.

وكانت الأكواخ وحدها تمتد متحدة ببرية معادية وسيول جارفة، وتمشي النخلة فوق الثرى مكونة الحياة.

أدنى المرأة، ولم يتحسس مبيضها، وغمرها بأسئلة داخلية عميقة، فاكتشف أنساغ الدم الوافرة، وضجيج الخصب ونداء الأنوثة الشاهق.

قال:

ــ ليأت زوجك إليّ.

ازداد ذعر المرأة. همست:

ــ زوجي لا يعرف إني جئت هنا، ولو عرف لذبحني..!

يتذكر الآن كيف شهق. وتذكر رحلاته المريرة فوق [ الأبوام ] الخشبية المقلبة في عباب المحيط الهندي، وتجار الذهب المهّرب والعبيد الذين نجوا بفضل أعشابه وإبره، وكيف ساح في الهند ملتقطاً حبوب وبذور المعرفة من أشداق الحيتان واللصوص والحكماء.

صار شوكة مرةً، وقمحاً وموقوفاً ومديوناً وهارباً مرات. كان يسأل الله والملائكة والنجوم أن يعود إلى أرضه. أعطته الهجرة جلد تمساح وقلب عصفور.أصبحت خرقه وجيوبه وتلافيف أعصابه مشحونة بمسحوق نوراني يجعله بين الأرض والسماء.

شعوذ واغتصب المال وحول النساء إلى شراب نبيذي يومي، وانشرخ بأسئلة مرعبة ليصحو في الظهيرة موزعاً الماء والخبز والمال، وليحضن الصبية والصبايا المجدورين، ويقلع عينيه في الكتب الصفراء ليعرف الأوبئة ومدافع الغزاة ترج المدن.

والآن بعد كل هذا الخضم الدموي، لا تزال الشكوك تطارده، والمرأة الأرض العطشى للخصب، تطالعه بخوف وتخشى أن تحدث زوجها!

كان لا بد أن يصرخ ويتهمها بالجهل والجبن، ويعطيها عشباً سرياً للكلام.

جاء الزوج بعد شهور، مرتبكاً منهاراً مسلماً جسده للغموض.

امتدت أصابعه إلى عروقه، وقرأ سائله الشاحب، المتكسر، وكان جسده متوحداً مع الآيات والصلوات، مًشّكلاً صَدفة كبيرةً من المحرمات والمخاوف، وكان يكره المشي في الليل وغناء البحر وألعاب الطفولة وبيض الطيور وارتجافات النهود.

سحبه إلى رقص الأخطبوط ذي اللحم الأبيض الفاتن في الأرز، ولاختباء السرطان في الرمل وفي سوائل البهار المشتعلة، وسّرب نسغاً من النبيذ الغائر بالرغوة والشهوة إلى أخاديده الشاحبة، وأعطاه أجنحة الطيور ليضع أعشاش الحب والإنسان.

بعد شهور جاءه صاخباً، ساحباً تيساً يضج باللحم والفحولة، وأعطاه إياه وهو يصرخ:

ــ حبلت امرأتي!

                                     *            *                 *

كان الطبيب يتأمل المشعوذ مستغرباً، فلم تبدُ على الرجل علامات الخوف. وبدا واثقاً، شامخاً، يجلس في قمة مضاءة بالهدوء والتعالي. كان يود لو ترنح، وصرخ، وطلب الغفران، مثلما يفعل كل المشعوذين والسحرة.

لقد أُعطي مهمة أن يسحق الدجل في المجتمع، ولم يبق الآن دجالون، صحيح أن بعضهم تحول إلى لصوص وقتلة، لكنهم تركوا الطب إلى الأبد.

كان يود أن يقول:

ــ أيها الرجل تستطيع أن تعترف وتتوب لنخفف عنك العقوبة!

لكنه توقف. أحس كأن عيني الرجل تتكلمان بقوة، وتلك الأخاديد العميقة المحفورة في الزمان والمكان، ترسل برقيات متلبثة إلى كائنات غير مرئية.

أهو ريش الطيور يتحرك خادعاً الغزاة أم موج البحر يهدي القواقع إلى الأطفال؟

أم هي أرجل الصغر المجلودة في الكتاتيب، والأسياخ المحمرة الداخلة في أجسادهم مانعة الأشباح والعيون؟!

كان زمناً يخنق شبح النخلة فيه هرولات الصغار، وتُلقى سبع نوى تمر في عين الشمس بديلاً عن حليب مفقود.

وهذه هي فزاعات ذلك الدهر؛ هياكل عظمية لا تزال تجرجر ذيولاً دامية على موائد الفطور.

الآن يتذكر الطبيب لماذا تملكه كل هذا الحق على النفاثات في العقد؟ في ذلك العريش امتدت له يد صلبة، قطعت جزءً حساساً زائداً من جسده.. الآن تنمو ألوان الإزار البشع، والوجه القميء ويقع في قبضة شبحها المطل. وراح ذلك الألم يكبر مع جزعه المتطاول، وغرفته البعيدة عن صوت الشارع، وتفاقم تلعثمه الدائم، وخجله الحزين، وكان يقذف حجراً دائماً فوق ذلك الوجه المتواري المراوغ، ألا يشبه هذا العجوز؟!

أدمن النيتروجين والأوكسجين وأنابيب الاختبار ولغة المناطيد المحلقة في السماء العذراء، وسبح مع الدلافين المحملة ديناميت لنسف مغارات الظلام، وجاء بجبال من المعادلات والأجهزة، وراحت قبضته تطارد الخفافيش في كل مكان.

الآن عليه أن يرتاح فقد أنجز مهماته، وكون خريطة من النور والرماد.

كان العجوز غارقاً في النوم والحلم.

كانت غابة من الوجوه والأزهار وراء سماده. سحابات تضحك وهي تحصد جداول الضرب. وهو غارق في مياه، يحاول أن يصعد ويتكلم، إلا أن بالونات الهواء تنفجر بعيداً عنه، ووجه ضخم ذو نظارة بحجم بارجة يحاصره في القاع.

1997

ـــــــــــــــــــــــــ

5 - دهشة الساحر «قصص»، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، 1997.

«القصص: طريق النبع - الأصنام - الليل والنهار - الأميرة والصعلوك - الترانيم - دهشة الساحر - الصحراء - الجبل البعيد- الأحفاد - نجمة الصباح».


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أعلامٌ على المـــــــــــاء : قصة قصيرة ــ لـ عبدالله خليفة

عبـــــــدالله خلـــــــيفة : أفق ــ فهرس العناوين لسنة 2014

الصورة : قصة قصيرة ــ لـ عبدالله خليفة