الصورة : قصة قصيرة ــ لـ عبدالله خليفة

 

صورة الشاعر الشهيد سعيد العويناتي

    وقفت الاشجار عارية في الميدان. كانت السماء زرقاء والريح الشمالية تصفر في الأعالي. سار تحت الاغصان العارية وتأمل السماء البعيدة. غاص في موج الاوراق الخريفية . سمع الريح تدندن كصبي تعلم التصفير توا. تأوهت الاوراق تحت حذائه فأصغى الى تأوهاتها بدهشة. تأمل الاشجار والسماء والأوراق وأشعل سيجارة فشكل خمس سحب من أجل الشتاء القادم. كان الميدان أمامه.

    ( هنا كان المغني. الصوت الناري يخاطب الاشياء. اليد تشعل الأوتار، تكوّن دوائر من الوهج، والصوت هادئ مرير، كحد السكين. يرفع يده ويصفع الصمت، الصوت خافت كوشوشة الجداول ورفرفة أجنحة العصافير، الصوت ينبعث من أعماق القلب.

    عيناه جمرتان، تشعلان الجمع، تطفئان الجمع، تتوحدان به.. اسمع الصوت كأنه الان، يحتدم في الميدان وفي السماء الزرقاء ويجمع الأوراق الخريفية. هذا التوتر في الضوء من خلقه؟ هذا التذمر في الاغصانمن يوقفه؟! اسمع الجمع صامتا، باردا، ثلجياً، نائماً، كئيباً، أسمع الجمع مدندناً، محروثاً، منشوراًعلى جبال الشمس.. اسمعه يوقع باقدامه على الارض، يغمغم بالكلمات، ويطفئ الآهات، روحه نبض، وعروقه لحن مرير متوتر.)

    رأى ثلة من الجنود تحدق في الجدران. تتحسس النتوءات وتتلمس الشقوق. اشاؤوا نحو شيء ما. انتزعوا ورقة صغيرة في حجم الكف. مزقوها بعدم اهتمام. أشار واحد منهم الى ورقة اخرى لكنهم ضحكوا باسغراب وساروا وهم يدندنون لحنا مزعجا..

    (هنا كان المغني. صوت خافت مفعم بالرغبة في الحب. نداء طفل الى امه الغائبة في مقبرة المدينة تعالوا ايها الاصدقاء، ولندع جانبا الآلام والرغبات المحبطة، لندع الظنون الملتفة كالافاعي، ولنغزوُ الحقول والبراري، حيث تزهر الحنطة وتزهو الينابيع واشجار الورد. اني وعدتكم بنخب النجوم، والنوم تحت عيون البنفسج، ننشر الهموم ونغني للعيون الواعدة. والجمع حوله. الصمت والأيدي العابثة بالأزرة وابتسامات المجاملة الرصينة وعبارات الثناء على الاحذية الجديدة وتذكر احلام ليلة الجمعة المخمورة. الجمع حوله والسماء الربيعية الزرقاء والغيوم البيضاء السائرة نحو الجنوب. الصوت خافت حزين، كأن الجمع جماعة من القتلة، الصوت مفعم بالرغبة في لقاء الحبيبة، كأن الجمع سور من الاعداء والحراب).

    تناهت اليه صيحة مزعجة. التفت فشاهده يقترب منه بمهل وثقة. حمل غدارته بيده وشعت عيونه بالتحدي والرغبة في العبث. رمانة حديدية كانت تتدلى من حزامة البني.

    ــــ اسمح لي يا سيدي بتفتيشك.

    ــــ انني أعمل موظفاً في حكومة المدينة.

    ــــ ومع ذلك فان الاوامر تحتم علينا تفتيش كل شخص  يتجاوز هذا الميدان.

    ادخل يده في جيوبه، اخرج محفظة. القى عليها نظرة سريعة وهو يبتسم ببلاهة. أعطاه اياها معتذراً.

    لم يقل له انها اغنية فاشلة، طفلة صغيرة مشوهة. طفلة خنقها بمنديل اسود وحملها في جيبه. اتجه الجندي الى رجل عجوز. كان يسير كملك. لم يدرك ان الورقة تعني لخ اشياء كبيرة، رغم انها صغيرة ومشوهة. كتبها تلك الليلة الصيفية الحارة. عندما خيم الليل على المدينة واطفئت الأنوار الا جمرة قلبه. أحس بالندي يلتف حول الجدران والأسلاك الشائكة والاشجار، يطبع على الأوراق قبلاته الوافرة. ويزقزق فوق الاسنان الحديدية بكآبة. توغل الندى في عينيه وقلبه، دعاه الى الابحار في نهر متجمد. رنا الى الأوراق المتساقطة. كانت تنهمر كالدموع وتتكوم تحت الجذوع، تترنح، تتأوه، ثم تصطدم بالرصيف فتستقر هناك متضرجة بالندى والدم. تندفع الكلمات من صدره. كخيول بدأت السباق. انها تصهل باالحياة، كالأطفال يضجون بالنشيد، مفعمة باخضرار حقول فتية، انها تندفع وتتلون كقوس قزح وتعوم في بحر لا متناه.

    واجهة المتجر الزجاجية الجميلة مشروخة. لقد مروا من هنا اذن. اية مشاعر حقد عميقة يحملونها تجاه هذا المتجر؟ صغيرة قذفت في هذه الزاوية فطرزت الواجهة بالخطوط المستقيمة. كأنها شمس تشع، أو أرض خططت في مشرحة. لفتت انتباهه ورقة لصقت بين الاعلانات المزدحمة. ورقة صغيرة في حجم الكف. 

    رأي المغني فيها صامتا. توغل هناك وجلس. صعد الى الافق واعتلى صهوة النجم. جلس صامتاهادئا، يشع وجهه ثقة، عَبَرَ المستنقعات والمستحيلات وسكن الأفق الأزرق. انه هنا. تخفى عن الجند بالموسقى والشعر والتصق  بجدران المدينة كالمسام كالاوراق الخريفية، كالسماء الزرقاء، كالحنجرة الصاخبة، كالجمع المجنون الغبي.. بل اخفوه، رسموا وجهه الهادئ المشع رقة وشبابا ودمغوا به المدينة. الحنجرة المزعجة، الضاجة، الحادة، فتحوا لها القنوات السريةواطلقوها تهذي في الليل والنهار. هذا وجهه في الامسيات والاحاديث الرقيقة ومناقشات الاصدقاء فوق الجسر فاين وجهه الغاضب، الفائر ثورة، الصارخ، النازف، فوق المنابر والميادين والبساتين؟ لم يلق نظرة اليه، قرأ كلماته وسمع ولكنه لم يشجعه. وجد سوراً طويلا يمنعهما من اللقاء. كم مرة تحفز للهجوم؟ كم مرة التقيا في الغضب والشوك واللهب؟ قرأ كلماته ولكنه لم يشجعه. طالع خاتمه الذهبي ثم رحل بعينيه الى السماء الزرقاء وحدق في شجرة بعيدة عرتها الريح من اوراقها.

    انتبه الى مجموعة من السياح واقفة وراءه. كانت انصاف بسمات النساء والرجال ترجوه ان يتزحزح من موقعه امام الباب. ابتعد معتذرا، وراقب أجساد النساء شبه العارية، واثارته روائح الياسمين والنرجس ولليلك.

    شاه ثلة من الجنود تمشط الشارع. كانوا يطلون في وجوه الباعة والمشترين، ويتمعنون بين الحين والحين في البضائع الجيدة والرخيصة، يحسبون نقودهم ثم يفتشون المارة بحثا عن أشياء مجهولة.

    دخل المتجر فرأى السياح يتلمسون التحف ويثرثرون مع المستخدم. وجد صاحبه خلف المكتب، يدقق في آنية فخارية ويدون في دفتره. حياه بحرارة ثم جلس في مقابلته. الآنية كانت قديمة، تفوح برائحة الماضي، كأنها قادمة تواً من مقبرة. ثمة نقوش من سهام تظللها، كلها تتجه برؤوسها الى الاعلى. كان التاجر مستقرقاً في الكتابة. يبدو عليه الانهاك ولألم. لكن تقطيبته الحادة تدل على الاصرار والثقة. سأله ما اذا كان يريد شاياً أم زجاجة باردة، فلم يرغب في شيء. حدق في ظهور النساء الناصعة البياض ودلف الى غابة العطور الظليلة.

    الصورة تستريح على الجدار، وتتطلع الى الشارع. عيناه هادئتان واثقتان. اختاروا صورة مدهشة، فكأنه يوصي بشيء لصبي مار بقربه، او يدلي برأيه في مناقشات الشارع.

    كان التاجر يرمق الزبائن من حين الى حين، ويبتسم اليه بوهن. وأخيراً ألقى القلم واعتدل في جلسته.

    ــــ انه صباح خريفي جميل.

    ــــ أجل، لولا التفتيش والاشاعات المفزعة.

    تطلع الى الواجهة. مشى في الشارع المكتظ في هذه اللحظة، زاحمته الخيول والجنود والمارة فأحس بالاختناق. تطلع الى السماء الزرقاء االبعيدة.. البعيدة فرأى سحابة من الدخان  تلقي ظلالا سوداء فوق وجهه. وجاء اللحن من الميدان خافتاً، هادئاً،كضحكة بريئة.. صمت لم يقل شيئاً واتجه الى قلب الدوامة. 

    قال التاجر:

    ــــ ان اصدقاءك يكرهونني ببشاعة. عندما مروا من هنا حاولوا تخريب المتجر. اعرف السبب. انه هو. ذاك المغني المجنون. ذاك اللعنة المسعورة. كان يرقص رقصة الموت في الميدان. كان يوجه اصبعه نحوي. اعرف السبب جيدا. 

    ــــ لقد احترقت زهرة المدينة على كل حال.

    ــــ هذا صحيح، ولكن نهر الشر لا يزال متدفقا. 

    كانت الصورة لا تفارقه، انهم يحرقون الأرض بسكاكين صدئة، ويزرعون العوسج.

    ــــ لقد نشروا صورته في المدينة، انهم يستغلون اسمه ووجهه. باسم الموسيقى يريدون الكنوز.

    ــــ وانتم أيضاً تنشرون اسمه، وبهذا تساهمون في الحريق.. 

    تصاعدت ثرثرة السياح مع المستخدم. وكان احدهم يعرب عن عدم ارتياحه للتحفة المعروضة. وكانت عيون النساء الزرقاء، كالسماء، تتلألأ كالمياه وتحدق في التحف بانبهار. وضحك السائح المعترض واشار الى قلائد فضية يتطاير منها الشرر.

    ــــ ان من الغباء قتل المغني لتدمير اغانيه.

    ــــ ان توجيه هذا الحديث لي شخصيا يضعني في موضع الاتهام!

    ــــ انني لا اقصد ذلك، بل ارمي الحجر في الجهة الاخرى.

    ــــ لم يؤكد احد انه قتل الا هم. تناثرت اشاعات كثيرة في المدينة حول مصيره. قيل ان مجموعة من     الكلاب المسعورة قتلته. وقيل ان عصابة من الاشباح خطفته. وبعضهم قال ان معركة نشبت بين الأصدقاء أنفسهم. لا أحد يعرف شيئاً. ولا أحد يعرف ماذا كانوا     يفعلون في البراري الموحشة.

    انني لا أصدق أبداً ذلك الزعم القائل بأنهم يزرعون حديقة. لو صدق زعمهم لعنى ذلك انهم جماعة من المجانين.  

    اقترب السياح من المكتب وهم يتفحصون القلائد المشكلة من نجوم فضية. بدا انهم اتفقوا على شرائها. لكن احدهم رمق الآنية باعجاب، وأشار الى النساء نحوها فحدقن فيها مذهولات.

    (...) نوم، مجذوب الى الجرة الكالحة،عطشان الى خمرة الزمن المعتق، امسكها بلا استئذان، بعصبية وخوف، لم يهتم بالمستغرقين في الحديث، بل خطفها بحقد كأنه له منذ زمن بعيد وهذين الرجلين يمنعانه. حضن الجرة وتحاوطته النساء وهن يحدقن فيها. وفجأة كان الرجل يمسك قطعا متحطمة من الطين، تساقطت واحدة بعد اخرى، بين دهشة الرجل وذهول النساء. تحجر التاجر وهو يرى الآنية تتحول الى تراب.

    اقترب الرجل منه. لم يبد حزينا متأسفا بل كان يبتسم بمرح.

    ــــ اعذرني يا سيدي على تحطيم هذا الاثر الثمين.

    ــــ لا فائدة من الاسف الآن.

    ــــ انني على استعداد لدفع الثمن.

    ــــ بكم تشتري حقبة موغلة في القدم يا سيدي؟ 

    صمت الرجل وتطلع اليه كأنه يستدر منه العون لاقناع التاجر. تسلل من تحت نظرته وعبر الى العيون الزرقاء. تذكر انه لا يجيد السباحة ويكره البحر والانهار ولا يجيد مراقصة النساء.

    ــــ هل لديكم تحفة ثمينة كهذه؟

    ــــ نعم، انها ثمينة جدا.

    نهض واتجه الى خزانة في الزاوية، فتحها واخرج شيئا يلمع. لم ينتبه لشدة ضيائه. قربه فاذا هو مفتاح من ذهب. كان غريب الشكل على هيئة منشار أو سيف من سيوف سمك القرش. شكل السياح دائرة من الانبهار. وتراكضت ايديهم نحو الضوء لكن التاجر ارجع المفتاح مبتسماً.

    ــــ انه مفتاح اثري هام.

    ــــ اهو نتاج حقبة موغلة في القدم ايضا؟

    ــــ ليس كثيرا. قبل خمسة قرون، يا سيدي، حاصر الغزاة البرابرة مدينتنا، وقد دافع السكان عن مدينتهم بكل شجاعة، لكن الغزاة كانوا يمتلكون أسلحة جديدة فلم تصمد الأسوار. دخلوها ومثلوا مشهدا مسرحيا في الميدان الذي يبعد بضع خطوات عن هذا     المحل. لقد احضروا الملك ومن بقي من السكان وطلبوا من الملك ان يسلمهم مفتاح المدينة، وطلبوا من الاهالي ان يهللوا لهذا التسليم. كان الملك يرتعد، واجم النفس، ممزق الثياب، كان يتقدم باكتئاب كممثل فقد دوره، بوده لو ينتحب ويقبل الاقدام الوحشية.     سلم المفتاح بوهن. واشتعلت السياط ي الجموع "هللوا ايها المهزومون!"، "هللوا ايها الجبناء الذين لم     تحسنوا الدفاع عن ارضكم!" وامتد الصمت كالسماء في الليل، لم تسمع سوى ضربات السياط وتأوهات الفتيات والاطفال. اشتد اللسع فامتد الصمت صحراء قاحلة بلا     طيور. سكن كل شيء وسقط الملك تحت الأحذية كان يطلب الرحمة. لكن عيون النساء والشيوخ والاطفال كانت ساكنة. سقط المفتاح الذهبي في الدم. انبعثت آهة من الجمع لكن العيون ظلت ساكنة. ابعدت الجثة من الميدان وبقى المفتاح في الدم وبقيت العيون ساكنة. اشتد لسع السياط وبدت الآهات تتلون، تتحول كائنات غريبة، واشتدت فورة الاعماق، نهض اللحن الجامع، ظهر بوجهه الغاضب، تجمعت الآهات المتفرقة، والتحم المشوهون والحزانى في الكلمة. صعد الهدير عاصفا، هاجت العيون الساكنة، ذابت لسعات السياط..     ولكن هذا المفتاح الثمين والقبيح بقى في الايدي الاجنبية.

    ــــ اعذروني ايها السادة اذا انفعلت قليلا مع الحكاية.

    كانت النساء يتطلعن في وجه التاجر بإعجاب، واقتربن برائحتهن السحرية منه. كن يقفن قربه كالأشجار عارية والثمار متناثرة فوق الارض. تخيل نفسه أحد افراد الكورس القديم. مشى في الازقة مغنيا مآثر المدينة المنكوبة. جمع الاسلحة المبعثرة والحكم الرائعة والصدقات، صهرها وشكل منها منزلا وراء تل بعيد عن عيون الرقابة وفضول الشحاذين.

    ــــ انني اشتري هذا المفتاح بأي ثمن.

    ازعجته كلمة الرجل، رأي التاجر يبتسم/ ثم يمد المفتاح ببطء، كأنه يحرص عليه كثيرا، كأنه تحول الى مفتاح حقيقي وعزيز، كما لو انه يبيع متجره وأسرته. مد المفتاح ببطء احتار في البيع. لكنه لم يتوقف. واقتربت يد السائح من الوهج وخيل اليه ان المكان سينفجر، ستتناثر اشلاؤهم في الشارع مع الزجاج والصورة، تحت احذية الجنود وفوقهم السماء السوداء. لم تتوقف يد التاجر وامسك السائح المفتاح. وأخذه بثقة وكأنه خاتم سرق منه، تطلع اليه بسرور والتم الجمع حوله. اخرج اوراقا رمادية اللون، ذات خطوط عرجاء غريبة، كما لو كانت بريشة مجنون. امتلأت الخزانة بها، صافح السائح التاجر، ووضع يده تحت خصر امرأة شقراء وسار معها وهو يضحك.

    رأى السياح يسيرون في الشارع واحدهم يشير الى بناية عملاقة تبنى حديثا. 

    ــــ نعم، يا عزيزي اين كنا؟

    ــــ انت تعرف رأيي ان ذاك العمل هو غباء مطلق.

    ــــ ان كلمة (ذاك العمل) تثير في ذهني اصداء متعددة. انني شخص عملي، وهذه الالغاز الادبية لا افهمها. ان الرجل مات بسبب حماقاته. لقد مات وانتهى الامر، ولن تستطيع الاشعار والصور والموسيقى تغيير العالم..

    نهض. كان ألماً غامضاً ممضاً يستعر في قلبه، انه لا يرى السنة النيران تتشكل من خطوط شرخ الواجهة، انه يرى الاصبع الممدودة في عيته فحسب.

    ــــ لا تزعل من صراحتي.

    أراد أن يفجر جملة في وجهه، وان يشير الى واجهة المتجر والاعلانات، لكنه ابتسم بحنق وألم. ثم حياه بضجر واسرع بفتح الباب. لم يلق ابتسامة الوداع في وجه التاجر، اندفع في الشارع بين المارة والضجيج والعربات والجنود والكناسين والسياح والضحكات الماجنة والتحيات العطنة وباعة الفاكهة المتجولين والانفاس والعرق والدخان الاسود واعمدة النور. شق طريقه في الزحام، احس بالجمع يخفف من سرعته، تحاصره، احاطت به الانفاس والمعاطف والاحذية والسجائر والدخان والكلمات البليدة، تشتمه، تضحك في وجهه.. ابعدها، ابعدها بحدة، لا يريد ان تبتلعه الدوامة، نظر الى الارض، الى الاسفلت فرأى الاوراق الخريفية واعقاب السجائر والتراب الغريب. اسرع في سيره، وبدأت الدندنة تسكنه، فلمس عروق الميدان الاولى.

    (هنا كان المغني. ربما كان الجمع ذاته، ربما كان جمعا آخر من باطن المدينة، لكن الأقدام بعيدة، وهو وحده، فوق منصته، يدلي بحديث خاص عن حبيبته، التقيا عند البحر، رسما قصتهما فوق الرمال سخر الموج منهما فمحى القصة. صوت خافت هادئ راقبته الاشجار وضحكت جذلى. وصوته واهن يشتد قليلا، ترمقه الضحكات الشريرة، تدع الايدي ازرتها. تعالوا ايها الاصدقاء سنرحل هذه الليلة الى الصحراء. ودعوا حبيباتكم، احضنوا امهاتكم، هيا لا يجب ان نتأخر. تنسى احلام ليلة الجمعة لمخمورة، وتنسل الشعل من المدينة المظلمة. تكون نهرا من الضوء. الاحذية تدق الارض، والصمت يذوب قليلا قليلا، العيون تتطلع الى الموت والقلعة والملك، الاحذية تعزف اللحن القديم، تتردد الشفاه قليلا ثم.. تنفجر يتلاشى الهمس، ترتجف القلوب، تمد الاشجار اغصانها، تمتد اليد المجنونة الى الغيتارة، تشكل دوائر من النار واللسع، يذوب الجمع في العيون الواعدة والشعل وللحن القديم. "هللوا ايها المهزومون! "، تتصاعد الصيحات ويندفع الموج الصاخب، يأتي اللسع وترتفع السياط الغاضبة. يخترق الموكب الظلام، تنيره الشعل والنجوم والآمال.) .

    يخرج من الصخب، يتجاوز الميدان مبتعدا عن الاشجار العارية، مصغياً الى صوت الريح الخريفية الباكية، يسمع نداءات الجنود وصخب الحواجز فيدلف الى المكتبة الهادئة. ولكنهم كانوا امامه ايضا. الروائح الجنونية والصدور النافرة المتحدية والعيون الزرقاء. واصطدمت به! فرس اشقر جامح يتوثب جمالا. طالعته مبتسمة معتذرة، تراجع الى الباب ودعاها للقفز بلا حرج. حملت كتابها وغاصت في الجمع.

    ورآه غارقا في زاويته، لابسا قناعه الزجاجي الثقيل محاولا فك رموز العالم المستعصية. قرع باب عزلته واقتحم الهدوء والسكون. ابتسم الآخر بود واغلق الكتاب.

    ــــ ما هذا الضجيج الذي اقتحم المدينة؟

    ــــ أصرت انت مثلهم ايضا؟

    اجاب الآخر:

    ــــ لست مثلهم. لكنني احب مدينتي.

    ــــ حتى مغنيها؟

    ــــ كان صديقا.

    ــــ لدودا!

    ــــ لقد ابتذل الغناء. نحن نبحث عن فن آخر. 

    استند على المقعد بارتياح وتمعن فيها. لقد وقفت مع السياح وراحت تتصفح كتابها. الاشجار تبدو من هنا ايضا، مزروعة فوق الرصيف الممتد الى البحر. كم سار وحده في ظلالها! كم ناجى الموج ورسم خطة شريرة امامه!

    ــــ انني اعتبره عقبة امام الفن، انظر انت مؤلف كبير فمن يعرفك؟ كأنك تكتب للقرن القادم هذه حصيلة الابتذال. انه صديقنا ولكنه. طمسنا.. قتلنا. نحن نشكل الكلمات بروح العصر لا بصخب الناس الزبدي. نحن ندين القتلة، لكننا لن نشارك في قتل الفن.

    ــــ ألم تكن بين الجمع ذاك اليوم؟

    رمى الميدان بنظرة حذرة، رأى جثث الاشجار منتصبة والأوراق الخريفية مكدسة تحتها، أنها تتكسر تحت أقدام الجنود والمارة والعربات. رمته المرأة الشقراء بنظرة خاصة، ثم راحت تتفحص الكتاب. كانت فارعة الطول، رشيقة، ذات عينين زرقاوين. جاءها السائح صاحب المفتاح وهمس في اذنها شيئا، طالعت المجلة التي في يده وضحكت ببراءة. اعترفت:

    ــــ نعم، كنت متفرجا تعبا.

    ــــ ابتسمت بسخرية.

    ــــ .....

    ــــ وثرثرت مع فتاة لا تعرفها.

    ــــ اذهلني اعجابها به.

    ــــ وصررتعلى اسنانك غضبا. اردت ان تمضي. لعنت السذاجة والسطحية وحدقت في الغيوم البيضاء المتشكلة على هيئة طيور تذوب في السماء شيئا فشيئا. سمعت الهمس يتردد والضحكات الغبية ففرحت..

    ــــ الا تكف عن هذا اللغو؟

    ــــ انتعش وجهك لانك رأيته بعيدا وحيدا، يمضي في صحرائه، يجاب÷ الاشباح وحيدا، يخط على الشاطئ كلمات الحب وحيدا، كنت فرحا لانه يدلي المشنقة في راسه، كنت فرحا لانه يجابه الموت وانت تأكل وتسمع، كنت فرحا لانه وحيد يمضي في صحرائه..

    طالع السياح وهو يتفحصون خريطة للمدينة، يشيرون الى المنطقة التجارية ثم الازقة والنهر والكورنيش والجسور. انهم مغتبطون  بالاسماء صعبة التهدي.

    ــــ وبدأ فرحك يخبو حين بدأ الجمع يتغير. يتحول، صرت مهتاجا، لكن النهر يجري الى الامام، الموج يندفع، العيون تتألق، الأنفاس تحترق، الهمس والضحكات البليدة والثرثرة الباردة تنزاح، ويصخب الموج، وتشعر بالعرق والقرف.. لا تستطيع الخروج ولا تستطيع البقاء. ووحدها كانت السماء تخط بالغيم كلماتها العابثة..

    قلت:

    ــــ انت صاحب خيال واسع.

    ــــ حقا؟

    ــــ انني لا أكرهه. بل انا ضد عالمه الشاحب. انه يقدم لنا قفصا ويعلمنا الابجدية.

    ــــ فحسب؟

    ــــ القتل الغبي كرس هذه الطريقة، هذه ماساتنا. 

    صمت الآخر وراح يفكر. المرأة تأخذ كتابا ىخر. وفي هذه اللحظة اقتحم صبي المكان. كان مفزوعا، يريد مخبأ يختفي فيه. تسرب بسرعة بين السياح، تطلعوا اليه باستغراب، كانت رائحته كريهة. فساروا هنا وهناك عنه. اختفى وراء واجهة عرض الكتب. دخل جندي والقى نظرة حادة على الحضور. توغل بين الزبائن. حدق في النساء دهشاً. شم العطور بلذة لا تخفى. واصل بحثه. تحرك الصبي وراءه متسللا. 

    اشار السائح الى الصبي. حدق الجندي في وجوه النساء مذهولا وغمغم بلهجة قروية ساخرة. أشار بالكتاب الى الصبي. تطلع الجندي الى المرأة الشقراء ووقف كتمثال امامها. اشارت الى الصبي. الذي وصل الباب، لكنه تمعن في عينيها الزرقاوين وتأوه متحسراً. رفعت الكتاب فسقطت صورة على البلاط. صورة بحجم الكف. انتبه الجندي!! استيقظ من نومه على نداء الواجب. دهشت المرأة أيضاً. انحنى الجندي وتناول الصورة. ابتسم عندما رآها. ثم القاها في حضن المرأة خجلا. ضحكت. تطلع السياح الى الصورة. ضحكوا جميعا. التفت الجندي وراءه فلم يجد احدا. سار مرفوع الرأس الى الباب وخرج كملك، كاله...

    ــــ ماذا ستفعل، انت في محنه!

    ــــ على الرغم من انه صديقنا فعلينا ان نحارب وجهه، صورته.

    ــــ يا للحرب!

    نهض واقترب من المرأة، لمح الصورة الفاضحة فمشى خجلا نحو الباب. رمق الآخر بود، ثم فتح الباب وانطلق في الشارع. ابتعد عن التجمهر والدخان، وعد اعقاب السجائر والبصقات على الاسفلت. رفع رأسه الى السماء فوجدها قاتمة، وسمع الريح تصفر في الاعالي.

    رآه ملتصقا بالجدار، أسند مكنسته على كتفه وانحنى اليها. رفعها بهدوء وتأن، أزال التراب عنها وألصقها.

    التفت امامه فرآه لم يضطرب. امسك مكنسته وصار ينظف الرصيف بلا مبالاة. اقترب منه. لم يعرف كيف يبدأ الحديث. مضى الآخر يكوم الاوراق الخريفية واعقاب السجائر. لم يرفع رأسه وظل مستمرا في عمله.

    ــــ ماذا كنت تفعل أيها الرجل؟

    ــــ عن أي شيء؟

    ــــ هذه الصورة التي ألصقتها؟

    ــــ أية صورة؟

    ــــ تلك الملصوقة على الجدار!

    ــــ دعني انظر جيدا. انني ضعيف البصر. آه، نعم! لقد كانت ساقطة على الارض فالصقتها.

    ــــ ولكن.. أتعرف هذا الرجل؟

    ــــ نعم، اعرفه.

    جمع كومة الاوراق ووضعها في البرميل.

    ــــ انه معلم الموسيقى في حينا، يأتي في بعض الامسيات ويجمع الأولاد والبنات ويعلمهم الموسيقى حتى ولدي ذهب معهم. هو صبي صغير وذكي. كانوا يتعلمون ويغنون.

    ــــ أمتاكد انه هو ذاته؟

    ــــ نعم. ولن يأخذ دفتره ويغيب ساعة أو ساعتين الا ويعود مدندنا راقصا كعصفور. الا انه من بضعة ليال توقفت  الدروس. لا اعرف ما هو السبب. لم نعد نسمع الضحكات والاغاني. بقي ولدي في البيت كئيبا. قال ان المدرس غاب عنهم. وها هي صورته هنا. ماذا حدث أيها السيد؟

    ــــ ان هذا المدرس شخص خطر. ولا شك أنه علم الصبية اشياء ممنوعة. راقب ولدك جيدا فقد يلقى بنفسه في النار.

    ــــ ربما كان ذلك صحيحا.

    ــــ والافضل ان تمزق هذه الصورة.

    ــــ أهو بهذه الخطورة؟

    ــــ فكر في الكارثة التي ستحل بابنك الصغير والذكي. 

    ــــ ولكنه كان هادئا لطيفا. يعلم الصبية بصبر. اختفىمنذ ليال فاختفت الالحان والضحكات والاناشيد. عندما كنت اقف عند الدكان رحت اصغي الى الغناء الطفولي وابتسم. اميز حينا صوت ابني لكنه يضيع في الحي. البارحة تجمع الاولاد والبنات لكن المدرس لم يحضر. انتظروه طويلا لكنه لم يحضر. ذهبت اليهم فرأيتهم متجمعين صامتين. من علمهم هذا الهدوء والصمت؟ من خلفهم بهذه الروح الغريبة؟ ابتعدت عن النافذة وتوكأت كهولتي وانا اسير. احسست باني هرم وبليد وبان هذه المدينة تخنقني. كانت السماء فوقي سوداء كالهم، اين الفرح ايها الصغار؟ واندفع صوت حاد، اندفع بقوة سهم من النار، ثم خبا كأنه غاص في البحر. الاصوات لا تزال مشتتة، تتسرب هنا وتتمطى هناد. احسست بالسماء تهبط فوقي كعباءة الملك. انني بحاجة الى هواء الحدائق. انني اختنق. وانفجرت غاضباً لكن صوتي ضاع في غمرة الغناء المندفع الى الاعالي. صوت شامل يفتح النوافذ والابواب ويحتضن الناس. 

    ابتعد عنه فيما ظل الآخر يتمتم ويكنس الارض بدأب. اراد ان يعبر الشارع فسمع احدا يناديه. التفت فرأى جنديا يتقدم نحوه. كان يمسك غدارة بيده، ويسير بهدوء وثقة، ويحمل في عينيه الرغبة في العبث.

    ــــ اسمح لي يا سيدي ينبغي ان افتشك.

    ــــ ولكن سبق لي ان..

    ــــ لا داعي للخوف ان كنت لا تحمل شيئا خطيرا.

    وتغلغلت يده في جيوبه. ثمة محفظة ملأى بالنقود. يطالعها بذهول ثم يعثر على ورقة. يتفحصها بتمعن. خطوط عرجاء تدب على السطور بوهن يبتسم. يرجعها اليه، يحدق في المحفظة بذهول.

    ــــ انكم تملكون الكثير من النقود يا سيدي. يضع الورقة في جيبه. انها طفلة صغيرة مشوهة، كتبها تلك الليلة الصيفية الحارة عندما تسرب الندى الى الجدران وجذوع الاشجار. لم يطالعها بتمعن ومضى.

    (ازهرت في نفسه الكلمات وعانق الاشجار العارية. سار  تحت مظلة الندى، تحت سنى النجوم ورسم زهرة أولى. كان الصمت يشتعل في المدينة. تثاءب العسس تحت نافذته لكنه مضى يحاور الصمت والظلام.)، سمع صيحات الجنود وضحكاتهم وقرقعة احذيتهم على اسفلت الشارع. كانت البنادق مرفوعة والقبعات ترمق المدينة بسخرية. (اراد ان يرسم زهرة اخرى. لكن صوتا ناداه من الاسفل. لم يهتم، واصل الكتابة وهو يحث نفسه على التحلق. سمع همسا ينمو تحت نافذته وفجأة رمي حجر على النافذة. سمع ضحكات عابثة تذوب في الظلام. تناثر الزجاج في الغرفة. أطل فلم ير احدا، بل تناهت اليه غمغمة الصمت وتأوهات الاوراق الخريفية. حدقت فيه السماء المظلمة. احس بسائل لزج فوق وجهه. لم ير أي ضوء في المدينة، نام كل شيء). كان الجنود يصيحون في الشارع. رفعوا قبعاتهم تحية للسياح. شكلوا ممرا عريضا ودعوهم للعبور سار السياح مسرورين. كانت النساء يتطلعن الى وجوه الجنود باعجاب. كانت عيونهم الزرقاء تتألق بالفرح. رمق الجنود الصدور والعيون بفضول شديد. كانت المرأة الشقراء تسير الهوينى في نهاية الموكب. تطلعت الى جندي ما ثم اسرعت بالسير. ابتعد السياح عن الجنود وهم يحيونهم باعجاب. حاول ان يعبر الشارع، من الممر الذي شكله الجنود، لكنهم تجمعوا ثانية وصاحوا في وجهه، اندفعوا امامه بقوة، تراجع بذعر، تعالت صيحاتهم مجددا، تعثر بقدم ما واندفع الى الوراء بذعر، ترنح فوق الرصيف، واصطدم رأسه بعمود النور. أحس بألم شديد. تناهت اليه ضحكاتهم المفاجئة واللاذعة. (عندما أطل من النافذة لم ير احدا، وتجمد القلم في يده. احس بسائل لزج فوق وجهه. عندما أشعل النور رأى خيوطاً حمراء تشرحه. الزجاج كان مبعثراً وبراقاً في الغرفة.) كان الألم حاداً في الرأس. لم يستطع أن ينهض. كان الكناس بعيدا. لم تزل المكنسة في يده، ربما لم ير ما حدث. رفع رأسه قليلا فرأى شجرة عارية بقربه، اغصانها فارغة، تتدلى بوهن فوق الرصيف. ابتعد الجنود والضحكات والمارةوالسياح والعربات والدخان والثرثرة.

    لم يزل الالم شديدا، واحس بسائل لزج يتسرب من رأسه، كحشرة تدب ببطء. رفع عينيه الى السماء فشاهد الاغصان تتدلى فوقه. السماء زرقاء عميقة وبعيدة. ترنحت ورقة، ربما كانت ورقة أخيرة، اصطدمت بغصن، هبطت نحوه، واستقرت فوق وجهه.

ـــــــــــــــــــــ

2 - الرمل والياسمين «قصص»، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1982.

«القصص: الفتاة والأمير - علي بابا واللصوص - شجرة الياسمين - العوسجالوجه - الأرض والسماء - المصباح - نزهة - الصورة - اللقاء - لعبة الرمل- الأحجار - العرائس - الماء والدخان».


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أعلامٌ على المـــــــــــاء : قصة قصيرة ــ لـ عبدالله خليفة

عبـــــــدالله خلـــــــيفة : أفق ــ فهرس العناوين لسنة 2014