رؤيــــــــــــــا : قصةٌ قصـــــــيرةٌ ــ لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

 


أنا الكلب عنتر ، كما أسماني صاحبي ومكتشفي الأول: عطية المجنون، أتقدم بمحاضرة في هذه الجامعة العتيدة ، متشرفاً بالتحدث أمام نخبة من المفكرين والباحثين، متمنياً أن تكون مداخلتي المتواضعة فرصةً لإثراء الفكر في هذا البلد المعطاء.

لقد تغيرت مدينتنا كثيراً منذ أن تفتحت عيناي لتراها لأول مرة. لقد كانت مدينة عظيمة وهائلة . كانت ناطحات السحاب على مدى البصر، وكنتَ تشاهد خطوطها الهائلة البراقة ، سائرة مع البحر الأخضر الواسع، الذي لا ينتهي إلا بسماء زرقاء شامخة .

أين نحن الآن من هذا ؟ لماذا عدنا إلى الخرائب ؟ كيف حدث ذلك ؟ سوف أخبركم عن هذا من خلال حياتي ذات التجارب المريعة .

لقد كان عطية يهذي ويتراقص مطرطشاً لعابه حولي، وهو ينتزعني من برميل القمامة، ويضعني في صدره، وينظفني في كوخه..

وبصراحة فظة، لم تكن علاقتي بمحبي الأول، مريحة وممتعة. لقد كان هذا الأب الذي يغذيني بالسمك المتعفن، وببقايا علب اللحم، يربطني بحبل سميك، ويجرني في الدروب، فوق أسنان الطرق .

كان يمشي بسرعة وتقلب غريب، فأهتز وأترنح، ويشدني الحبل بقوة من عنقي، فتختفي كلماتي، ويتفجر نباحي !

لم يكن الصغار يتركون عطيةً سائراً في مشيته المتراقصة الغريبة، ورأسه تتطلع إلى جانب وحيد من السماء، ولعابه يتدلى كخيط لا ينقطع، كأنه في نشوة صوفية دائمة؛ بل ينقضون عليه من كل الجهات، ويمطرونه بنوى اللوز وكرات القراطيس والخيش، فيجثم على الأرض صائحاً، متحاشياً الضربات، جارني معه إلى قاع حفرة، أو نترنح معاً من فوق الرصيف، والصبية يسرعون إلى انتزاعي منه، لكنه يسحب الحبل بقوة، فيكاد يقبض على روحي بيده الصخرية، فنلتحم بقوة بين التراب والغبار وسوائل اللوز واللعاب والدم .

وبدلاً من أن يأخذني بحنو، ونحن نعود إلى ذلك الكوخ المهترئ، المليء بعلب الحديد الفارغة، والتي طالما قرعها قرعاً دائماً مسبباً لي الصداع والألم؛ فأنه يربطني بعمود، ويروح يقذف على جسدي الواهن الجائع، كل الكرات التي أصابته .

وحين ينام يترك جروحي لليل والعتمة والألم، ويدع الحبل الملتف على جسدي يواصل التغلغل بخيوطه وأملاحه ورقصه في عظمي .

كانت تغمرني شرارات وصرخات وتأملات مريرة في هذا الوجود الغريب، وتندلع رغبة عارمة للإفلات من هذه الحبال والضربات والصراخ، ومن الجري الفجري إلى براميل المطاعم، وتلمس بقايا المخمورين .

حتى أسمي لم أتمكن من معرفته بوضوح، فعطية لا يكاد يفتح فمه بكلمة، بل هي حروف متناثرة، وغمغمة مرعبة، وأصوات ناتئة مُضحكة .

كان يرق قلبه أحياناً، فيضمني إلى صدره ، ويجري بي على ذلك الشاطئ الأبيض ذي البنايات الشاهقة ، ومربعات الشجر ، والمقاهي ، والسفن المفتوحة للرواد والموسيقى والدخان ، وحينئذٍ كنتُ ألعب وأقفز بين الزبائن وأتطلع إلى الشاشات المضيئة بالألوان والكلمات، فأقرأ، وأغني وأرقص وأسبح في مياه البحر والناس.

لكن تلك الومضات سرعان ما يعقبها رفسٌ وقذفٌ في الهواء وعلى الجريد، وربط في ذلك العمود، فكنتُ أحتجُ بعنف، دون أن يأبه عطية .

في ذلك الربط المضني، وفي سكرات الحلم والألم والضنى، في لحظات الجوع الحارق والرغبة في الأنثى والرفقة والموت، في الليل المدهش بظلماته وقمره الذي يشبه عظمة كبيرة في السماء، تسيحُ منها خيوطُ الدهن واللحم، في تلك المصيدة من الظلمات والآهات..

كنتُ أرى ذلك النور البرتقالي الواسع المدهش ذا الأصوات المنفجرة، والدوي المخيف، كانت الأرض تنفلق، وكرات هائلة من النار تتدفق نحو الأبنية والبيوت والشوارع، تجيء بالوناتٌ كبيرة تحرق الليل والرؤوس والشجر . ويطلع رجالٌ من الأقبية، من الغابات، من الفيافي، والكهوف وينتشرون في العيون..

كنتُ أنبح طوال الليل، أرسلُ صرخاتي إلى المارة، والى أصوات المذيعين، وللأقمار الصناعية في السماء، والى الكتب والجرائد، والى ألسنة البغايا ولعلعة الميكروفونات الصاخبة..

كنتُ أنزف من كل خلاياي .

أنا هيكلٌ عظميٌ مرهق يترنح وراء شبح رجلٍ : بقايا كائن، لا يسمع، لا يتكلم، يقرع العلب طوال النهار، يضربها في الحجارة الصماء، يهز طبقات الأرض، ولعله حينئذٍ كان يسمع دبيباً ضئيلاً، لكن رأسي كانت تنفجر، فتندلع حربٌ إذاعية بين مائة محطة، وأذهل كيف أقاوم وأفكر في مسائل الوجود والنار القادمة، وتظل الأصوات الغامضة، والصرخات الوحشية ترن في أعماقي، خافتة، ثابتة، مؤلمة..

وإذ كنتُ أصرخ لكائن ما، لكي ينقذني، فإن رفاقي الكلاب كانوا يتحسسون الخوص قرب جسدي المُعلق على العمود، ويحاولون عض الجريد وقطعه، بلا فائدة .

راحت كرةُ النار تكبر في رؤياي كل ليلة، وتشع بالزجاج المتطاير، وبالجذوع والجذور المُقتلعة من أعماق الأرض، وبالأشباح، والجثث الطافية، والُمعلقة..

لم أجد سوى أن أصرخ وأعض يد عطية. أتقلب وأبكي وأتضرع، فيقذفني إلى ركن الكوخ، ويدوس روحي .

يربطني بقوة وينام .

حينئذٍ حدث الدوي الذي رأيته في قعر نفسي. جاء الظلام الذي أنفجر في نوري. دوت الصواعق، ونزلت النجوم إلى الدكاكين والأزقة والعظام، وراحت الشهب تتساقط محدثة دوياً وهزات عظيمة..

أصغيتُ إلى فحيح رجال وهم يلتهمون الأجساد الغضة .

بدأ الكوخ يحترق . عطية لم يسمع أي شيء. ثم بدأ اللهب والدخان في قلقلته وهزه.

سقط قرب قدمي لوحٌ مشتعل. اللهب عضّ وجه عطية. أنتفض مذعوراً، محدقاً برعب في الكوخ، وكاد أن يخرج.. لكنه عاد وانحنى والدخان واللسع يحيط بوجهه. رأيتُ أنصال النار تتكلم في جلده .

كانت صرخته بأسمي في ذلك المحيط من الضوء الجارح مدهشة وغريبة ورائعة. كان لأول مرة ينطق أسمي بقوة ووضوح، ويتلقى جذعاً مشتعلاً، فنزف اللغة والجسد معاً.

حين خرجتُ لم يظهر من كومة النار والسعف الأسود .

اختفت بعدئذ النار، وعادت السماء إلى الزرقة، ومشت الأرض بشوارعها وشاحناتها ممتلئة بالتفاح والصبايا.

قالت لي الريح :

أين ستمضي وكل الجهات مسدودة أمام الزهر، والبنادق تبحث عن جسدك، ورفاقك يقتلون عند البراميل وهم يبحثون عن لقمة العيش، والقيود تنغرز في عظامهم، والحفر تستقبل جثثهم ؟!

أين تمضي وجسد عطية في روحك، كلما ألتفت وجدته أمامك، وترى حصاه يدقُ رأسك، وحباله لم تفلتك، ولعابه يندلق في حلمك!؟

كنتُ مذعوراً، أهرب من كل مكان، لا تسعني الحفر، وتصرخ عليّ البراميل، وتشير إليّ اللافتات . في ضؤ السيارات أتحسس عقارب تدب في أذني . ومن بريق النجوم أرى وعيد النار القادم .

لماذا لا يتركني هذا الحلم المخيف، ولا الأصوات، ولا الأضواء، وتتفتت الشمس إلى مليون قطعة بحجم الجزر، ويغدو البشر مثل النمل المشتعل ؟

أشرب بقايا علب السكارى، أشم دخانهم، أغوص في ماء البحر البارد، أتطلع إلى ألعاب مهرجي الشوارع، أهرب من نشرات الأخبار، لكن الحلم يندلع في الليل، يكبس على رأسي، وتتدفق عربات النار من الكهوف..

لستُ إلا من بقايا عطية المجنون .

لماذا أسماني عنتراً ؟ هل كان يدرك هذا الأسم ، هل وصلت شظاياه إلى قعر عقله البعيد، المتواري في باطن الجسد؟ هل كان يريد تحويلي إلى بعض معناه، في مدينة هائلة من الصمت والخوف ؟ ل كانت أحجاره وضرباته استثارة لي لكي أثور؟

لماذا أجري دائماً، وأحس بأصابعه تنغرزُ في عظمي ، ولا أستطيع نوم الليل، ولا قطع الحبال ، وأسمع أصوات تقترب منُذرة بعاصفة النار، فأصحو من الكابوس، وأجد أنني نائم، أجري في فراغ العتمة، أصرخ بلا صوت، أوقظ الأصدقاء فتصحو الجثث بهياكلها المُقهقهة..

هيا، هيا، يجب أن أغير نفسي، كنتُ أقول لذاتي هذا، بل كنت أعضها، كما لو كانت عظمة، ولا أطعم سوى خلها.

بدأت أخربش على الورق، وأعبث بالألوان، وأحول الأصوات إلى ضؤ.. أصرخ :

ــ هذه المدينة كلها نائمة ومسترخية فوق وسادة كبرى من الرماد، وأنت وحدك اليقظ المُعّذب، تلتهمك الرؤيا كل ليلة، كل ليلة !

لا، لا! يجب أن تقول شيئاً. ليس معقولاً أن ترى النار تقترب وأنت تمصمص العظام بلذة . ألم تتنفس الفجر في هذه الأرض، ألم تعبئ عروقك من فرحها وأسماكها؟

أكتبُ، أكتبُ كثيراً، علّ وسادةً مسترخية تنهض .

تخرج أحلامي صارخة. اللهب المدفون في رأسي يتراءى وهماً يلتهم البشر. يظهر المجانين من تحت الأرض وهم يمدون أسلاك الديناميت عند أسّرة الأطفال.

يستدعوني إلى غرفهم المعتمة الباردة . أتلقى رفسات كثيرة . يقذفون بي إلى الجدران.

ــ من أنت لتفسر هذه الرؤيا ؟! مجرد كلب يعيش على المزابل، فتحترق هذه الأرض ثانية وثالثة وعاشرة.. أنت عليك أن تخرس..لا تظن نفسك كلباً مميزاً، لأنك كتبت شيئاً !

بعد أيام كانت طوابيرٌ من المركبات الحديدية تقذفُ النار في كل اتجاه. وطائرات تغير علينا من كل الجهات. لم يبق بيتٌ واقف. وبقيت أيدٍ كثيرة مرفوعة أو مقطوعة!

السادة الذين امتلكوا كل شيء هربوا وتركونا بين الأنقاض!

لكل كلمة عظمتها، ولكل صمت عاره. لكل روح صاعدة نبيلة تواجه الخطر قدسيتها، وللزاحفين والهاربين عارهم الأبدي..

وأنت أضعت السنين جلها في النباح على الأشباح!

هرب الغزاة واستعادت الأرض عافيتها. عدنا للخيام والإبل. رحنا ندرب الأطفال على الضحك. وعاد السادة للخزائن. رحتُ أخلط بين الرؤيا والخبز. لا زلتُ أحلم بالنار. هناك محطات كثيرة مفتوحة وتضج الحمم . هناك...!

أيها السادة دعوني أكمل محاضرتي، غير معقول أن توقفونني وتسحبونني وأنا بعد لم أنه حديثي بين كل هؤلاء الحاضرين الصامتين !

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

7 - سيد الضريح   «قصص»، وكالة الصحافة العربية، القاهرة، 2003.

 

❃❁✾❈✤

القصص القصيرة:

1 - لحن الشتاء «قصص»، دار الغد، المنامة_ البحرين، 1975.

«القصص: الغرباء - الملك - هكذا تكلم عبد المولى - الكلاب - اغتيال - حامل البرق - الملاذ - السندباد - لحن الشتاء - الوحل - نجمة الخليج - الطائر - القبر الكبير - الصدى - العين».

2 - الرمل والياسمين «قصص»، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1982.

«القصص: الفتاة والأمير - علي بابا واللصوص - شجرة الياسمين - العوسجالوجه - الأرض والسماء - المصباح - نزهة - الصورة - اللقاء - لعبة الرمل- الأحجار - العرائس - الماء والدخان».

3 - يوم قائظ «قصص»، دار الفارابي، بيروت، 1984.

«القصص: الدرب - أماه... أين أنت - الخروج - الجد - الجزيرة».

4 - سهرة «قصص»، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1994.

«القصص: السفر - سهرة - قبضة تراب - الطوفان - الأضواء - ليلة رأس السنة - خميس - هذا الجسد لك - هذا الجسد لي - أنا وأمي - الرمل والحجر».

5 - دهشة الساحر «قصص»، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، 1997.

«القصص: طريق النبع - الأصنام - الليل والنهار - الأميرة والصعلوك - الترانيم - دهشة الساحر - الصحراء - الجبل البعيد- الأحفاد - نجمة الصباح».

6 - جنون النخيل «قصص»، دار شرقيات، القاهرة 1998.

«القصص: بعد الانفجار - الموت لأكثر من مرة واحدة! - الأخوان - شهوة الدم - ياقوت - جنون النخيل - النوارس تغادر المدينة - رجب وأمينة - عند التلال - الأم والموت - النفق - ميلاد».

7 - سيد الضريح   «قصص»، وكالة الصحافة العربية، القاهرة، 2003.

«القصص: طائران فوق عرش النار - وراء الجبال - ثنائية القتل المتخفي - البركان - سيد الضريح وتر في الليل المقطوعأطيافرؤيامحاكمة على باباالحارس».

8 - الكسيحُ ينهض «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: الشاهدُ.. على اليمين - الكسيحُ ينهض - جزيرة الموتى - مكي الجني - عرضٌ في الظلام - حفار القبور - شراء روح - كابوس - ليلة صوفية - الخنفساء - بائع الموسيقى- الجنة - الطائر الأصفر - موت سعاد - زينب والعصافير - شريفة والأشباح - موزة والزيت - حمامات فوق سطح قلبي - سقوط اللون - الطريق إلى الحج - حادثة تحت المطر - قمرٌ ولصوص وشحاذون - مقامة التلفزيون - موتٌ في سوق مزدحمٍ - نهاياتُ أغسطس - المغني والأميرة».

9 - أنطولوجيا الحمير «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: انطولوجيا الحمير - عمران - على أجنحة الرماد - خيمةٌ في الجوار - ناشرٌ ومنشورٌ- شهوة الأرض - إغلاقُ المتحفِ لدواعي الإصلاح - طائرٌ في الدخان - الحيُّ والميت - الأعزلُ في الشركِ - الرادود - تحقيقٌ - المطرُ يموتُ متسولاً - بدون ساقين - عودة الشيخ لرباه - بيت الرماد - صلاةُ الجائع - في غابات الريف - الحية - العـَلـَم - دموعُ البقرة - في الثلاجة - مقامات الشيخ معيوف».

10 - إنهم يهزون الأرض! «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: رسالةٌ من بـينِ الأظافر - الأسود - عاليةٌ - جلسةٌ سادسةٌ للألمِ - غيابٌ - عودةٌ للمهاجرِ - دائرةُ السعفِ - الضمير - المحارب الذي لم يحارب - الموتُ حُبـَأً - إنهم يهزون الأرض! - حـُلمٌ في الغسق - رحلة الرماد - أعلامٌ على الماء - گبگب الخليج الأخير - المنتمي إلى جبريل - البق - رغيفُ العسلِ والجمر - عوليس أو إدريس - المفازة - قضايا هاشم المختار - أنشودة الصقر - غليانُ المياه».

11 - ضوء المعتزلة «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: ضوء المعتزلة - جزرُ الأقمار السوداء - سيرة شهاب - معصومة وجلنار- سارق الأطفال - شظايا - الترابيون».

12 - باب البحر «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2020.

«القصص: وراء البحر.. - كل شيء ليس على ما يرام - قمرٌ فوق دمشق - الحب هو الحب - شجرة في بيت الجيران - المذبحة - إجازة نصف يوم - حادث - البائع والكلب - ماذا تبغين ايتها الكآبة؟ - إمرأة الربان - إذا أردتَ أن تكونَ حماراً - اللوحة الأخيرة - شاعرُ الصراف الآلي - البيت - حوت - أطروحةٌ - ملكة الشاشة - الغولة - وسواسٌ - مقامة المسرح - إعدام مؤلف - يقظة غريبة».

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من تقنيات القصة القصيرة عند القاص البحريني عبدالله خليفة (المكان في مجموعة سهرة أنموذجاً)

رواية «الأقلف» محاولة لتشكيل عالم مختلف