الطريق إلى الحج : قصة قصيرة ــ لـ عبدالله خليفة

 


قال الرجلُ في سره (هو يا سيدي حلمي أن أموتَ هنا ، بعد أن أدفنَ الصغيرَ سيهونُ كلَ شيءٍ . لو أنك يا سيدي رحمتني وأنا في شيبتي وعجزي بحياة هذا الفتى . لم يبق من القبيلة إلا أنا وهو . ومن المؤكد إنه لن يبقى طويلاً . أعرفُ ذلك . أعرفُ إنك تريده ولكني آمل أن تغير رأيك في آخر لحظة . ).

حدقَ في الجبال الشاهقة ، دائماً كان يستندُ إلى شموخها في يأس صباحه ، تتفجرُ بالأنوار والندى ثم تعودُ صلدةً كالحة في الظهيرة.

ومن قلبها الصخري القاسي يظهرُ طريقٌ بشري ، يتلوى كخيطٍ دقيق مرهفٍ للحياة ، ثم ينمو ويتسع حتى يضجُ بالأصوات والألوان ، فيصيرُ سيارات وشاحنات مليئةً بالخضار والمياه والفواكه والأولاد وباصاتٍ مكيفةً تحملُ الحجاج.

قال الرجلُ وهو ينفثُ الدخانَ وأعشاباً صفراء من صدره:(يا سيدي آمل أن تعيدَ لي رجلاً وامرأةً من الذين هاجروا واختفوا في المدينة ، وإلا فإن كل هذه البلدة والحقول الميتة لن يحييها أحدٌ ، وهذه الأرضُ التي حملتْ اسمك ستندثر ، وحين يمرُ الناس ، وتصرخ السياراتُ بأبواقها لن تجد من تــُـقرأه السلامَ هنا . . رجلاً وامرأة قويين قادرين على الفلاحة والحب والضحك في هذه البرية.).

رأى باصاً كبيراً يتهادى على الطريق الأسفلتي ، كأنه امرأة حامل ستضعُ مولوداً ، فأخذت عجلتاه الأماميتان تخاطبان الرملَ وتبعثرانه وتتغلغلان في عمقه.

أسرعَ إلى الباب والنوافذ ، أعطى زجاجاتِ مياهٍ ، وعلبَ حلوى ، وتمراً ، والأيدي كثيرةٌ والنقودُ المعدنيةُ الصغيرة تتساقطُ في يده.

ثم اندفعتْ السيارةُ إلى طريقها ، وبدا هيكلها المعدني لا مبالياً وهو يصغرُ ويتركه وحيداً ثانية ، وتلك الضجةُ وبهجةُ الأولاد وصراخهم وكلمات النسوة ونظرات الرجال الصارمة ، كلُ ذلك الدفق اختفى ، وعاد الترابُ والصمت ، ولم يجد سوى معدناً قليلاً في يده .

(كيف يمكن يا سيدي أن احتفظ بالحياة ؟ !  كانت هنا عائلةُ غنام تضجُ بالصراخ ، وتحفرُ الترابَ ، وتقود الأغنامَ ، وتزرع البرسيم . . كانت تعطي التلة ناراً وغناءً وألواناً وكنتُ أكرههم بشدة حينذاك . الآن أودُ من كل روحي أن أعثر على يدٍ منهم ! صدقني يا سيدي لقد حفرتُ آملاً أن يكون أحدهم حياً.).

ظهرتْ سيارةٌ فخمة تنطلقُ بسرعةٍ شديدة ، هيكلٌ ضخم أزرق وقف عنده وفجر الهواء وحرق الأرض بعجلاته .

تقدمَ وهو يضعُ جزءً من غطاء رأسه على أنفه وفمه ، ورأى زجاجَ النافذة ينزلُ بنعومة أخاذةٍ ووجهُ شابٍ وسيم يتطلع فيه باحتقار:

- هل أجد لديك شراباً يا رجل؟

- نعم ، نعم ، كل شيء موجود يا سيدي.

سار نحو المنزل وفتحَ الصندوق في الغرفة الخلفية وحمل علباً كثيرةً في الكيس الورقي الداكن ، وأطلَ لحظةً على ابنه فوجدهُ على فراشه ، مستلقٍ ، لا يزال في نومه.

(يا سيدي لماذا يتقطعُ هذا الصبي بين الحياة والموت؟ لماذا يذبلُ ويتلاشى وفي كل ورقة تطيرُ من جسده يحترقُ فيّ عرقٌ وتموتُ بهجة . ) .

يسير ببطء إلى السيارة ، الشاب يصرخ :

- أسرع أيها العجوز ، ليس لدينا وقت !

- احترسوا يا أولادي من وعورة الطريق ، قالت النشرة الإخبارية بأن ثمة عاصفةً قادمة !

انحنى نحوهم والكيس في يده ، واصل الشابُ صراخه :

- كف عن النصائح وأعطنا الزجاجات !

- النقود أولاً يا شباب . .

- أتخوننا أيها الأحمق؟!

قال شابٌ آخر في السيارة منزعجاً:

- أعطه النقود يا إدريس ودعنا نصلُ الجماعةَ قبل حلول الظلام !

أعطاه أوراقاً منبعجة ، واندفعت السيارةُ بسرعة الضوء وهي تقذفُ في وجهه رملاً .

( أيها الأولاد أحذروا ثمة زوبعة عنيفة ، وأمطارٌ مفاجئة ! لكنهم لا يسمعون سوى الشريط الغنائي الزاعق ، والطريق ذاته خطر . ينبغي أن استعد . . ) .

وقفتْ قربه سيارةٌ جميلة واسعة ، لم يشعرْ بعجلاتها وهي تفرملُ . وظهرت عدةُ رؤوسٍ لرجالٍ هادئين فيها ، تطلعَ أحدهم إليه ونزل ، قال :

- أيها الأخ ألا يوجد لديك ماء للسيارة ؟ !

كانت المقدمة تبعثُ أعمدةً من البخار ، وكان يبدو على الرجال إنهم متوجهون للحج .

مشى الرجلُ معه نحو البيت . قال له :

- يا سيدي لي ابن مريض بمرض خطر ، يحتاجُ إلى علاج في الخارج ولكنني لا أملك مالاً. .

 أعطاه تنكةَ ماءٍ حلو ، وزجاجاتِ عصير ، وألقى الرجلُ نظرةً على ولده ، لكنه لم يذهبْ قرب الفراش . لم يسألْ عن التفاصيل بل أسرع للسيارة ، وكان يقول :

- لستُ صاحب هذه السيارة بل أنا سائق وسوف أكلمُ السيدَ . . نحن في سرعة من أمرنا ..!

وراح يرفعُ الغطاء وينتظرُ برودةَ المحرك ، وفي أثناء ذلك أدخل رأسه في السيارة وتكلم ، وأشار إليه ، وحدقَ هو في الكهلِ الجالسِ في المقعد الخلفي ، بدا شبيهاً بالجبل ، ضخامةٌ وصرامة وصمتٌ وتجهم وعزلة عن المخلوقات ، وظنَ إنه سوف ينفرجُ عن لمعةِ برق وزخةِ مطرٍ ، لكن السائق اغلق الزجاج وغطاء المحرك ، ثم اقترب منه ووضعَ في يده ورقة مالية ، باخت روحه وهي تقع عليها .

ومضت السيارة ببطء وهدوء ، ولم تلتفت الرؤوسُ نحوه ، والتحمتْ بالثعبان الأسود الطويل الذي يلتهمُ الأحياءَ .

ازداد الغبارُ في الأعالي واحتجب وجهُ الجبل بعمامةٍ صفراء، وسار يطمئنُ على ولده الذي لم يزلْ راقداً ، وهمسَ عنده :

- حان موعدُ دوائك يا ولدي . .

طلعَ عودٌ ذابلٌ من تحت اللحاف ، وبدا الرأسُ الأصفر بلا تاجه من الشعر الأسود، وتفرستْ عيناهُ في الضوءِ كأنه يتحسسُ الزمانَ ، وقال:

- هو موعد الصلاة يا أبي.

- الشمس لم تغرب بعد ، ولكنه الغبار ملأ السماء العليا. أظنها عاصفةً قوية، مساكين أولئك السائرين في الدروب الوعرة الآن.

تطلع الولدُ بوهن وهو يتناولُ الملعقةَ وكح ثم قال :

- ألم . . . تحذرهم . . كان ي . . يمكن  . . . أن يناموا . . . هنا . .

- إنهم مستعجلون يا ولدي .

- ألم . . . يعدْ . . أحدٌ من أهل . . غنام . . من المدينة . . بعد؟

- لا ، ولكنهم قالوا لأحد المارة بأنهم قادمون ويسلمون عليك كثيراً ، ويتمنون لك الشفاء ، سيعودون عما قريب ، وعليك أن تقوى لتستقبلهم!

سمع طرقاً عنيفاً على الباب ثم انفتاحه ، خرج من الغرفة إلى الحوش فرأى العريف خميس يضربُ بعصاه على كف يده ويتقدمُ بصرامةٍ . راح يحرك الأكياس وصناديق المرطبات ويهز رؤوس الزجاجات بعصاه . تناول واحدة وفتحها وراح يشرب بلذة ، قال وهو يتجشأ :

- الطقس رديءٌ اليوم ، وثمة سيارة لشباب اصطدمت بصخور . . كانوا مسرعين ومتهورين وسكارى!

قال بخوف:

- العربات التي مرت اليوم كثيرة وأغلبها لحجاج.

- هذا هو الموسم . أوقفنا العديدَ من السيارات بعيداً عن الطرق الوعرة . . ولكن البعضَ شديدُ العجلة.

 وضع في يد العريف قطعةً نقدية وكيساً مليئاً بالزجاجات والبسكويت وعلب الدخان. ورأى السيارةَ العسكرية وهي محاطةٌ بغلالةٍ من الغبار، وضوءها كأيدٍ تمتد طويلاً في جسد الليل الهابط.

(يا سيدي لا أريد سوى أن تفعل القطرات الضئيلة من الدواء شيئاً من اللحم والفرح، الآن لا أريد سوى أن يأكل عدة وجبات لذيذة ويسمع أخباراً كاذبة كثيرة عن أسرة غنام.).

سمعَ العاصفة تتفجر مطراً ورعداً في الخارج ، وتخيلَ السيارات الكبيرة المشحونة بالبشر وهي ترتجفُ من السياط الكهربائية ، فقام وتحسس علب الأدوية والمصابيح اليدوية وتلحف وهو يصغي إلى نشرة المذياع.


15 أغسطس 2005

ــــــــــــــــــــــــــــ

8 - الكسيحُ ينهض «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: الشاهدُ.. على اليمين - الكسيحُ ينهض - جزيرة الموتى - مكي الجني - عرضٌ في الظلام - حفار القبور - شراء روح - كابوس - ليلة صوفية - الخنفساء - بائع الموسيقى- الجنة - الطائر الأصفر - موت سعاد - زينب والعصافير - شريفة والأشباح - موزة والزيت - حمامات فوق سطح قلبي - سقوط اللون - الطريق إلى الحج - حادثة تحت المطر - قمرٌ ولصوص وشحاذون - مقامة التلفزيون - موتٌ في سوق مزدحمٍ - نهاياتُ أغسطس - المغني والأميرة».

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أعلامٌ على المـــــــــــاء : قصة قصيرة ــ لـ عبدالله خليفة

عبـــــــدالله خلـــــــيفة : أفق ــ فهرس العناوين لسنة 2014

الصورة : قصة قصيرة ــ لـ عبدالله خليفة