عاليـــــــــــــــــةٌ : قصة قصيرة ــ لـ عبدالله خليفة

 


عالية هالةٌ على رأسها كأنها نور خديجة بنت خويلد وهي تُصعدُ المصطفى للنجوم.

أذكرْ اللهَ وهذا البلدَ المشنوق، تزدادُ بركةً وأنت تتأملها، وهي تصفعُ موظفةً مهملة، وهي تبتسم لك وتأخذك في قارب داخل البحيرة التجريبية وسفن ديلمون تحترق، تكلمها عن أبيها؛ عن أوراقهِ المصقولة المبهرة في زمن غربته، كيف كان القلمُ يتوهجُ في الكوخ والصحراء وبين القبائل الضائعة في الجبال، تُذهلُ وهي تطالعه، تستغرب حفظَه للسطور والفقرات الطويلة يقول:

- (أمنيتي أن أقابله!)

- (صعبٌ .. صعب!)

يطالع في البيت العتيق الرثِ الملكات الأسطوريات لديلمون، كيف أنشأن أسطولَ السفن وملأن الجزرَ بالشجر، أذكرْ اللهَ وأنسَّ هؤلاء المضحيات بالبشر قرابين، الأشرعةُ الضبابُ الغيوم تنزفُ بحارةً، في كل ميل رقبة تُقطع، لسن كالأميرات الحقيقيات اللواتي لصقَ صورَهن في البيت، الأولى العجوز كانت هوايتها أن تضربَ السائق، الثانية المرأة المتصلبة التي تقذفُ الأشياءَ على الخدم، الثالثة الأخيرة التي رأستهُ في المتحف وجردته من ثيابه بحثاً عن سمكة ديلمونية ذهبية مفقودة.

ليس ثمة جميلة سوى هالة، حين طالعتهُ في الدائرة الجهنمية تجمدتْ لحظات؛ وجهٌ متناسق، شعرٌ منسرح على جبينه، أنف وفم دقيقان، وقامة معتدلة، وحين قال لها إنه منقول من وزارة كبيرة مضت بجفاء عنه.

عندما رأى البيتَ العتيق يتحول مكبَ قمامة وحظيرة لمهاجرين جثمَّ طويلاً في مجلس المالك الذي لم يفهم شيئاً من الهندسة المعمارية المنقولة من الهند إلى الخليج في قرون شركة الهند الشرقية، كيف تُورد الحبالُ والمقاييس وخشب النوافذ في الأبوام، وكيف تأتي الصخورُ من أعماق البحر في قوارب، كيف تُحمل بسلاسل بشرية، وكان البيت في خلاء وبعيداً عن الأكواخ والآن محاطٌ ببيوت صغيرة رثة وأزقة ونفايات.

ولم يؤجر المالكُ البيتَ إلا حين رفع قضية عليه في قسم الآثار.

حدّث عاليةَ عن مشروع البيت، ضحكتْ عليه وقالت أن الأب أُعجب بمقالته.

تضحك الفتيات من إنبهاره بعالية، يضربنَّ عظامَه بجملهن الجارحة:

- (إنها مثل عصا نحيفة!)

- (والوجه لا ملاحة فيه!)

ينُظفُ البيتُ القديمُ وتضيءُ ممراته وتبيضُّ جدرانه وتغدو غرفه الواسعة رائعة.

تقول له عالية إنه مدعو لحفل غداء في بيتهم حيث سيحضر علماء وأدباء عرب.

ظلّ صامتاً ساعة والأحاديث رثة، فيما معبودُهُ جالسٌ أمامه والكلمات طائشة، وحين أمسك خيطَ الحديث بلهفةٍ ورعونة وتطلعت فيه العيونُ بإستعلاء راحَ معلمُهُ يصعد أمامهم مناراً بحرياً مضيئاً:

- (نثارُ المملكة النسائية في تلال الصحراء من جمعه وأظهره للعالم؟ كان الحِرفيون الطينيون يذوبون في ظهيرة الصناعة والبلاستك والحشود الغريبة، صورّهم بريشتهِ وجسدهم بروحه.)

الضيوف يقرعون كؤوسَهم ويضربون الصحونَ بحدة ويمضغون وتتوقف خيوطُ الطعام الرقيقة في أفواههم، وتتحدث نسوةٌ بشكل جانبي وهن يرمقنه، وأخريات يوقعن على إستلام مكافآت، وأستاذُهُ منشرحٌ ويتطلع فيه بإعجاب:

 - (أتدرون أنه عاشَ طويلاً في الغربة يجمعُ أشباحَ الوطن ويحضرُها حيةً في الأزقة..؟)

مجلداتٌ متربةٌ في صحيفة الهدف كان من الصعب أن يصل إليها والموظفون الهنود رموها على السطح بين زبل الحمام والأشياء الآلية الصدئة وراح المجانين بالسفن الغارقة في الأعماق والعمارات المتفسخة في المدن يساعدونه في لصقِ ورقِها المهترئ والتنقيب عن كلمات الأستاذ النارية في أنفاقها وبين أعلاناتِها الكثيرة عن الراديو الأعجوبة وقتذاك.

يظلُّ في الوزارة جاثماً على مكتبه ينزف ويتداوى بالكتب. تنغمر عاليةٌ بأشيائها وأحلامها وتطارد صرخاتُها الموظفات وتقيم الاجتماعات والندوات والولائم ولا تدخل حجرته. يتحسسُّ كلمات الأب الأخيرة، وكيف صار كهلاً تعباً، لكنه لا يستريح، يمضي في طائرة مع كبارٍ حتى أقصى الدنيا، يبدو في المؤتمرات جاثماً في المقاعد الخلفية يصارعُهُ النعاس، يوقع كتباً وثلة صغيرة تنتظرُ شخبطته الطويلة حيث يمتد اسمه لنصف صفحه كأنه حوت، ينظرُ لموظفٍ يقطعُ شريطَ معرض الكتاب وهو يبتسم بتوتر.

يُحضرُ لابنتهِ كتاباً منسياً لم يُعدْ طبعَهُ وقراء كثيرون يسألون عنه، وتجيب بأسى: يقول لك والدي لا تقمْ بأي مقاربة لأعمالي بدون الرجوع إليّ!

ينزوي في البيت القديم يعرضُ إرثاً مسرحياً مندثراً في أحد أزقة مدينتهم، حيث أندلع حريقٌ مفتعل وغاب ممثلو الفرقة.

هل هرمتْ عالية؟ لا خُطابَ ولا زغاريد عرس..

تحيطهُ عقاربٌ وبناتُ آوى تضحك وحيه يطفو على قطعٍ خشبية وهو صار تمثالاً كبيراً ذا ثقوب كثيرة تدخلُ فيها الفئران.

تهمسُّ عالية:

- (لم لا نتزوج؟)

- (كم مرة قلت لك ذلك؟ لم يبق فينا شيء.)

قاعةٌ كبيرة مليئة بالحضور، العيون شاخصة نحو إستاذه، الكاميراتُ مسلطةٌ على بقع ملونةٍ فيه، خرائطٌ تمشي فوقها قوافلٌ لا تتوقف، يجلس قربه، منذ كم من السنوات وهو ينتظر هذه اللحظة؟ إمتلأتْ ذاكرةُ معلمهِ بالثقوب، صار ينسى رحلاته وحفرياته القاسية الأولى، بحثوا عن تلامذةٍ له لم يجدوا، كلامُ الأستاذ متقطع، ضائعٌ، يصمتُّ كثيراً، والعيون تدور في محاجرِها الفارغة، وهو ينطلق في ركاب القوافل، تلك الأجسادُ الممزقة من عضّ الذئاب تمشي، الرياحُ تسفعُ الوجوهَ والملكاتُ يخرجن اليواقيتَ من  حبيبات الرمال، البيتُ العتيقُ يتألقُ في الحي، ومسودات الأستاذ معروضة في الحجراتِ المحروقة، الكتبُ الأولى المختفية تعود للظهور، وثمة صرخاتٌ في القاعة، ومعلمه يهمسُّ:

- (أعبرْ هذه الفقرة!)

البحارةُ الهياكلُ العظميةُ يلبسون ثيابَهم في البراحات الباردة، مساميرُ السفنِ الصدئة تتألق، الغزاةُ يغرقون، ثلة في المقاعد الأولى تنهض وتنفضُّ الغبارَ خلفها، المعلم يغمغم:

- (كفْ عن الإنشاء الذاتي، اقرأْ الجزءَ الأخير!)

المعلم يمشي ووراءه خطٌ بشري طويل، ينسى الذين سقطوا على الرمال، يطلبُ منه أن يتابع من مكان آخر، وأن يتوقف عن الكلام تماماً. القاعةُ في هياج.

عالية تعبة من الدوام، الدائرة تنغلق، موظفون يتغيرون والأب يعيش في عزلة، يقول لها:

- (فلنتزوج ونسكن في ذلك البيت الغريب، حيث غرف مسرحية وصالات فارغة.)

- (سأكلم أبي.)

تكبر، تغدو أشبه بعصا حقيقية، الموظفات يضحكن وينبهرن، تجلس أخرى مكانها، تتوارى عنه، تتسع الفجواتُ في رأس الأستاذ، يغمغم غاضباً لابنته:

- (من أي قبيلة هو؟ ما مركزه؟ لماذا راجع كتاباً قديماً لي ولم يستشرني؟)

مالكُ البيت العتيق يريد إستعادته بعد أن إنبهر به ويريد تحويله لمشرب وعلبة ليل للرقص الهندي.

في حياته، في روحه، ثمة مكان للألق، لماذا تتحول المخطوطات غذاءً للعثة؟ وعاليةٌ إلى مرتع للدود؟ الأب يمشي على المسرح لتسلم قلادة عنها، يمشي بهدوء جم. عاليةٌ تنفضُّ التراب، جاءت تترنم بقصيدة. كتبتْ قراءة غريبة عن نفق المتحف الذي ضاعت فيه المخلوقات. يقول لها فرحاً:

- (أين كنتِ من ورق أبيك؟ من زواره؟ هل كنت تسرحين بعيداً؟)

- (لم يصبني وهج. كنت أعبدُ أبي..)

- (العبادة مضرة.)

- (إنتبهتُ حين جئتَ وخفتُ من الدمى.)

تقدم نحوه، كان المسرح خالياً، في الصحراء البعيدة تبدو أشباح فرسان مقتولين. تأتي صرخاتُ بحارة غارقين من تحت السفن. أشرطةُ التصفيق تدوي. حدثه عن حبه لأبنته. صرخَ  فيه غاضباً:

- من أنت؟

ـــــــــــــــــــــ

10 - إنهم يهزون الأرض! «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: رسالةٌ من بـينِ الأظافر - الأسود - عاليةٌ - جلسةٌ سادسةٌ للألمِ - غيابٌ - عودةٌ للمهاجرِ - دائرةُ السعفِ - الضمير - المحارب الذي لم يحارب - الموتُ حُبـَأً - إنهم يهزون الأرض! - حـُلمٌ في الغسق - رحلة الرماد - أعلامٌ على الماء - گبگب الخليج الأخير - المنتمي إلى جبريل - البق - رغيفُ العسلِ والجمر - عوليس أو إدريس - المفازة - قضايا هاشم المختار - أنشودة الصقر - غليانُ المياه».


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أعلامٌ على المـــــــــــاء : قصة قصيرة ــ لـ عبدالله خليفة

عبـــــــدالله خلـــــــيفة : أفق ــ فهرس العناوين لسنة 2014

الصورة : قصة قصيرة ــ لـ عبدالله خليفة