الأميرة والصعلوك : قصةٌ قصـــــــيرةٌ ـ لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

  عبـــــــدالله خلــــــــيفة


1-

   جاءها من منبتِ الشمس ، طلعَ من شجرة الريحان المزهرة بالنشوة والشهوة ، طالعاً من أزقةٍ بلا أقنعةٍ وبلا أنوفٍ ، مـُسترخياً في سيارته الكبيرة الزرقاء المعبأة بالأزرةِ والأقمار .

   هذه الــُبنية المحشورة في جرةِ الطين البيتي ، الموعودة بالذهب واللهب ، الساجدة للكلمة والأزهار الميتة في الدواوين ، الخاشعة بذكر المحلة ؛ ترتجفُ في حضرة بزوغِ النجم .

    مَن لها غير أبٍ حنون أمتلأت يداه بالشباك والنَّو ،  وأسكنه العمرُ في دارٍ خربة ، والشيبُ لتآكلٍ سريعٍ ؟

   مَن لها غير الجدران وغمغمة المذياع وأحلام العرائس وخيولها الممتدة وراء الأفق والشوارع ؟ من لها غير أجنحةٍ بلورية تضعها في المساء لتطير في مدن الشعر ؟

   تلعثمتْ في الصحراء ، وأنتشت بالأباريق المليئة بالعطر والجراح ، وصارت وردةً في معطف راقصٍ جوال ، وقبلةً لفارس خيال ، وضحكةً تشعلُ الفتيةَ وأ‘وادَ السهرةِ والقوافي المتثائبة . .

   حين طَلَعت من بساتين الأزياء كتبتْ قصيدةً في الطرق ، وحوَّلت العباءةَ إلى أجنحةِ فراشةٍ ، وتحدى الفستانُ البنفسجي الألوانَ ، وفجرت العربةُ غزواً سرياً لأسّرةِ الرجال .

   عشقت هذا الرجلَ من صورهِ ، من كلماتهِ وهسيسه الليلي الحالم في المذياع ، كأن فرحاً يدغدغها لتعلو صهوة جواد .

   أرسلت كلماتها المكرمشة وخطها الخائف ، وصوتها ، واستجاب هو بسرعةٍ غريبةٍ لهذا النداء ، وغنى لها في السلك المشتعل .

   ها هو الآن يتقدمُ ، ببدلتهِ الأنيقة وروائحه وشعره الرائع . أي وجهٍ لا يسحر الغزلان ؟ أية سهام لا تصيبُ العصافير؟

   أطبق على أصابعها بلهفةٍ . أتسعت مدنهُ لرحيلها ، وبدأت سيارته ويدهُ ورجولته تأخذها عبر المملكة السحرية ، حيث المنزل الرابض فوق ربوةٍ ، وأشجار الأثل واللوز والرمان تدغدغُ أحجاره البيضاء ، والبركة الزرقاء تبدو قطعةً مستأجرةً من السماء .

   في أرجوحةٍ واحدةٍ تترجرجُ بين الورد والغيوم ، تموسقها رفرفةُ سلسلةٍ ودغدغةِ قصيدةٍ ،طارت بلا أجنحةٍ وذابت في صدرٍ عميقٍ ، وأعطى وجههُا المتوردُ الفاتنُ أسباباً لنمو الحمام والغمام ، وبدت الربوةُ كملحقٍ دينوي للجنةِ ، وراح الليلُ يومضُ فكأن نجومه قممُ شموعٍ ودقات قلوب .

2-

   أنى لهذه الفتاةُ الملفوفة بروق البيوتِ وعجائن الطحينِ الحلو أن تفهم الحقائب الصغيرة المليئة بالشفرات ، والأوجه التلفزيونية الملونة والسفرات والسهرات والولائم الدموية في عششِ النسورِ العالية ، وأمسيات المتاحفِ والمؤامرات . . ؟

   ثم النوم بغتةٍ على أرصفةِ المشردين وعند الخيام المحترقة ، وصوت زوجها يستلُ خيطاً نارياً من الأفواه المثقوبة بالرصاص الصامت والأيدي المتاطيرة ،  وينمو فوق بساطٍ سحري يحطُ في كل أرصفةِ الجرح ، ليدوي التصفيق ويحِّملهما حقائب ممتلئة وأطباقاً ساخنة .

   أنى لها أن تعي هه الانقلابات الغريبة وسقوط الأوسمة والصور ، وحبيبها يجثمُ على مائدة الصقور ، ويداه الرقيقتان ممتلئتان بالبثور والإبر ، وجسدهُ الرهيف يسيرُ على حبلٍ كأنه مهرج ، ويطلق النارَ على المتسولين ، ويركبُ الطائرات الخاصة ويغيبُ في المدنِ البعيدة ، لترى ظلاله على الجدران ، يدبجُ الخطبَ لدبابةٍ تقتحمُ الضلوع ، ثم يأتي نازفاً ، يسلفُ رئته للدخان ، ولليل الطويل العليل ، ويشكلُ شعراً من سيجارةٍ وغيمة ، ويغزلُ من الكوابيس نسيجاً للحمام . . ؟

   وكيف لها أن لا تفهم ، وسكين المطبخ تأكلُ جزءً من أصابعها ، والغازُ وكلماتُ الغزل تنفدُ ، وعصافير الأغلفة تسرقُ الأرغفة ولؤلؤ الصدر ، ومنزل الربوةِ تستبدلهُ جهنمُ بشقةٍ مضغوطةٍ بين الغسيل والعويل والدرجات المهترئة . . ؟

تودُ ، في وحدتها الطويلةِ بين الجدران ، أن تستعيدَ صوتها وأنوثتها ، أن تستلفَ من عمى أبيها بصيرةً ، ومن نوِّ يديه قلباً ، وأن لا تشكلَ بركَ الدمعِ من دمها ، ومن ثم تصنعُ أجنحةً وتطيرُ في سماءِ المدن المفتوحة وتسكنُ خزانة تاجر .

   وهو يذكرها في ومضاتٍ غريبة ، يأتي في ليلةٍ ويثقبُ البابَ ويأكلها في وجبةٍ سريعة .

   تتفجرُ مكالماته بالغدر ، وينمو ألبومُ النساء المفتوح ، وعطورهن تشاركها القبلات الباردة ، وتملأ ضحكاتهن أحلامها ، ويظهرن من تحت الوسائد والرسائل وعلب الحلوى والحبر ، نسل اللذة القصوى ، مثلجات الرجال الصيفية وفواكه كل الفصول .

   تتشكلُ أوجههن من السطور والعطر الذائب في البدلات وأربطة العنق والخنق والروج المنسي والهواتف المتفجرة ف يغفو الليل والمتخفية وراء الأقنعة والصمت والقهقهات .

   يظهرن على شاشة الشعر مرفرفات بأجنحةِ بلاستك لزج ، يحترقن عند نجمٍ وحيدٍ ناءٍ ، سمراوات ، شقراوات ، حنطيات ، مثل أعواد البرسيم ، مثل النسيم ، مثل انفجارات الياسمين وخميرة الخبز وجرائد الصباح والتفاح ، كئيبات مثل الغزالات في شباك البدو .

   يدغدغنها في الأحلام، يظهرن كساحرات «ماكبث» يربطن عنقها، وينتشرن ثعابين وأقفاص قرود تصيح.

   يتسلل عمر بن أبي ربيعة إلى خيامهن وأزواجهن نائمون ، وهو يفتحُ السراويل ، يواعدهن عند الكعبة المضروبة بالمنجنيق، يقذفُ أمرؤ القيس أطفالهن وأنصافهن وراء الشرفات، مُبقياً على ضلع من جسدٍ وقطعةِ أسفنج . يستبدلنهن أبو نواس بغلمان وسلاحف . وتصيرُ أثداءهن أهرامات الألم المتحجر .

3-

   لم يبق في الغرفة الوحيدة التي انتقلت إليها أي خبز . لم يعد صوت الذَّكر يتردد ، تنامُ على سجادةٍ ، وفساتينها الجميلة باعها إلى تاجر الأشياء المستعملة .

   قرأتْ في جريدة ، بتنكةِ الجيران ، خبر زواجه الجديد .

   إنه يحلقُ بطائرةٍ عمودية فوق جسد بضٍ مكتنزٍ بأشجار اللوز .

   يبحثُ عن أمهِ المفقودة ، وكلما عثر عليها تحولت إلى زوجةِ أبيه القاسية ، لهذا راح يصرخ لاعناً المرأة : المومياء ، قردة السيرك ، أم حمار خاطفة الأطفال، العنقاء المستحيلة . .

   تخنقهُ في الزاوية صارخةً.

   ــ أتركني ، حررني !

   يغلقُ عليها خزانة الثياب . يعلقها من شعرها . يطاردها في الأزقة وهي تتوارى في استعارات الخرائب .

   تندفعُ إليه ، وهو في الاستاد الرياضي يشعلُ صواريخه الملونة ، ويفرقعُ بالوناته ليتساقط  رذاذ الورق المضيء، تفتح فمها ليغلقوه بالخرق ، يعلقونها فوق الكشافات الحادة لتخترقها سيوفُ الضوء والدم ، مفتوحة الساقين للعبور والهجاء والعدسات .

4-

   أنى لهذه المرأة المتخشبة أن تمتلئ بالغبطة، وهي ترى الغيومَ تحت طائرتها الخاصة مثل الأيام ورذاذ العمر، ولتتجمد في دوائر النجوم، ساكنة في خزانة ِ رجلٍ لم تبق له سوى عشرُ سنين وهي تطيرُ في حقل شعره الأبيض المكتظ بالرماد والدخان ؟

ـــــــــــــــــــ

5 - دهشة الساحر «قصص»، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، 1997.

 

❃❁✾❈✤

القصص القصيرة:

1 - لحن الشتاء «قصص»، دار الغد، المنامة_ البحرين، 1975.

«القصص: الغرباء - الملك - هكذا تكلم عبد المولى - الكلاب - اغتيال - حامل البرق - الملاذ - السندباد - لحن الشتاء - الوحل - نجمة الخليج - الطائر - القبر الكبير - الصدى - العين».

2 - الرمل والياسمين «قصص»، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1982.

«القصص: الفتاة والأمير - علي بابا واللصوص - شجرة الياسمين - العوسجالوجه - الأرض والسماء - المصباح - نزهة - الصورة - اللقاء - لعبة الرمل- الأحجار - العرائس - الماء والدخان».

3 - يوم قائظ «قصص»، دار الفارابي، بيروت، 1984.

«القصص: الدرب - أماه... أين أنت - الخروج - الجد - الجزيرة».

4 - سهرة «قصص»، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1994.

«القصص: السفر - سهرة - قبضة تراب - الطوفان - الأضواء - ليلة رأس السنة - خميس - هذا الجسد لك - هذا الجسد لي - أنا وأمي - الرمل والحجر».

5 - دهشة الساحر «قصص»، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، 1997.

«القصص: طريق النبع - الأصنام - الليل والنهار - الأميرة والصعلوك - الترانيم - دهشة الساحر - الصحراء - الجبل البعيد- الأحفاد - نجمة الصباح».

6 - جنون النخيل «قصص»، دار شرقيات، القاهرة 1998.

«القصص: بعد الانفجار - الموت لأكثر من مرة واحدة! - الأخوان - شهوة الدم - ياقوت - جنون النخيل - النوارس تغادر المدينة - رجب وأمينة - عند التلال - الأم والموت - النفق - ميلاد».

7 - سيد الضريح   «قصص»، وكالة الصحافة العربية، القاهرة، 2003.

«القصص: طائران فوق عرش النار - وراء الجبال - ثنائية القتل المتخفي - البركان - سيد الضريح وتر في الليل المقطوعأطيافرؤيامحاكمة على باباالحارس».

8 - الكسيحُ ينهض «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: الشاهدُ.. على اليمين - الكسيحُ ينهض - جزيرة الموتى - مكي الجني - عرضٌ في الظلام - حفار القبور - شراء روح - كابوس - ليلة صوفية - الخنفساء - بائع الموسيقى- الجنة - الطائر الأصفر - موت سعاد - زينب والعصافير - شريفة والأشباح - موزة والزيت - حمامات فوق سطح قلبي - سقوط اللون - الطريق إلى الحج - حادثة تحت المطر - قمرٌ ولصوص وشحاذون - مقامة التلفزيون - موتٌ في سوق مزدحمٍ - نهاياتُ أغسطس - المغني والأميرة».

9 - أنطولوجيا الحمير «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: انطولوجيا الحمير - عمران - على أجنحة الرماد - خيمةٌ في الجوار - ناشرٌ ومنشورٌ- شهوة الأرض - إغلاقُ المتحفِ لدواعي الإصلاح - طائرٌ في الدخان - الحيُّ والميت - الأعزلُ في الشركِ - الرادود - تحقيقٌ - المطرُ يموتُ متسولاً - بدون ساقين - عودة الشيخ لرباه - بيت الرماد - صلاةُ الجائع - في غابات الريف - الحية - العـَلـَم - دموعُ البقرة - في الثلاجة - مقامات الشيخ معيوف».

10 - إنهم يهزون الأرض! «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: رسالةٌ من بـينِ الأظافر - الأسود - عاليةٌ - جلسةٌ سادسةٌ للألمِ - غيابٌ - عودةٌ للمهاجرِ - دائرةُ السعفِ - الضمير - المحارب الذي لم يحارب - الموتُ حُبـَأً - إنهم يهزون الأرض! - حـُلمٌ في الغسق - رحلة الرماد - أعلامٌ على الماء - گبگب الخليج الأخير - المنتمي إلى جبريل - البق - رغيفُ العسلِ والجمر - عوليس أو إدريس - المفازة - قضايا هاشم المختار - أنشودة الصقر - غليانُ المياه».

11 - ضوء المعتزلة «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: ضوء المعتزلة - جزرُ الأقمار السوداء - سيرة شهاب - معصومة وجلنار- سارق الأطفال - شظايا - الترابيون».

12 - باب البحر «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2020.

«القصص: وراء البحر.. - كل شيء ليس على ما يرام - قمرٌ فوق دمشق - الحب هو الحب - شجرة في بيت الجيران - المذبحة - إجازة نصف يوم - حادث - البائع والكلب - ماذا تبغين ايتها الكآبة؟ - إمرأة الربان - إذا أردتَ أن تكونَ حماراً - اللوحة الأخيرة - شاعرُ الصراف الآلي - البيت - حوت - أطروحةٌ - ملكة الشاشة - الغولة - وسواسٌ - مقامة المسرح - إعدام مؤلف - يقظة غريبة».


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من تقنيات القصة القصيرة عند القاص البحريني عبدالله خليفة (المكان في مجموعة سهرة أنموذجاً)

رواية «الأقلف» محاولة لتشكيل عالم مختلف