الغولة : قصةٌ قصـــــــيرةٌ ـ لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة
حين تأخذهُ الرمالُ لم يبق شيءٌ من صداهُ ، تعذبتْ روحي لأسجل ذكراهُ ، وأنا مسحورٌ بأفلاكِ المدينة ، ناقعٌ في مجرى ضحلٍ ، يشردني البردُ من ملجأ إلى آخر ، لم أجدْ جمراً و لا منقلةً ولا أسئلةً ، والمعاطفُ مثقوبةٌ ، ورئتي لا تجفُ على الحبال.
حين كنتُ أجيءُ إلى هذه المدينةِ الهائلةِ التي تحرسُها الجبالُ الصلدة اليقظة ذاتُ العيونِ الرهيبة والكشافات المسلطة ، كان بيتُهما ملجأي ، كنتُ أندسُ بين أسرةِ أطفالهِما ودفاترِهم المليئة بالدفء والوحوش .
قالتْ لي أمي:
- لا تخرجْ في ليلِ المدينة ، سوف تأخذك النعوش.
يملأ الحزنُ وحدتي ، أشربُ العرقَ ودموعي . أمشي بأسى ، كانت لي أمٌ وماتت ، في القبو من الوحدة.
رفيقي محمد أنتَ السُكرُ والقهوة ، أنت الدفءُ في الشتاء ، أنتَ الذاكرةُ في الغرفةِ المحكمةِ الإغلاق ، مضيتَ إلى الحاراتِ الغريبةِ في البلدان الأخرى، (من يُردْ أن يلقاكَ يجدكَ في بابِ اللوق)، هناك تعطيهِ سفنَ البحر الناقعة بين القروش، والعصافيرَ والأوراقَ الأخيرةَ للعَرق المهرولِ في حاراتنا، لم يبقْ منهُ شيءٌ كثيرٌ . .
أحاولُ أن أختلقَ وجودكَ في البيت في هذه المدينةِ الغولة ، التي باعتْ كلَ أضلعِها وحاراتِها وبخورِها المقدس للنياشين وللسياح ، وقد فتشني حراسُها ولم يجدوا سوى الشعر الأبيض الأخير في رأسي ورسائل نورانية تحتها إلى أمي.
يا رفيقي محمد تبادلنا رسائلَ بالدم بين الجدران ، والشجرةُ الشوكيةُ قربَ دورة المياه ، عطفتْ علينا وصارتْ حماماتٍ زاجلة ، يقتلها الحراسُ كثيراً وتطير عبر الأنام الغافلة.
ثلاثون ، أربعون ، خمسون ، سنة ، نزحفُ في الصحراء ، تتسلطُ علينا الكشافاتُ الحارقةُ ، نُتخذُ نياشينَ لقناصةٍ محترفين ، يتطايرُ الريشُ منا ، أظافرنُا اقتسمتها الحشرات وما عرفتنا.
أعرفْ إنك ميت وأن ضريحكَ الضائعَ تم الاستيلاء عليه ، ولكن أحاولُ أن أختلقَ وجوداً ذاب ، صوركَ معلقةٌ على الجدران ، ومعاطفكَ تسكنُها الشتاءاتُ الكثيرةُ التي مرتْ علينا في الجبال وفي الصناديقِ المحروسةِ في المعسكر ، وإدخارتكَ الصغيرةُ والأعطيات التي تسلمتَها في حفلةِ الغفران ، كلها لا تزالُ ولا شك تنمو في الصناديق النحاسية القديمة ، أو في الأدراجِ المليئةِ بقصاصاتِ الورق ، التي فيها كلُ سيرِ أهلِ العشق في أرضنا.
الباصُ الممتلئُ بالثرثرةِ والسجائرِ والنميمةِ يقذفني تحتَ أحذيةِ الجبلِ القاسي ، حيث الدكاكين الصغيرة والبشر المطاط المهروس من الأسعار والأرز.
في ثغراتِ الأزقةِ تنبضُ رؤوسُ سجائرٍ وعيون ، حشودٌ من الإرادات تشتعل ، المدينةُ الغارقةُ في أعراسِ الأضواء والأسهم النارية المتلاعبة بالجثث ، تتوقفُ هنا أنصالُها.
بيتٌ كبيرٌ لا يزالُ يؤشرُ لوجودك ، لا يزال غرباءُ أصدقاءُ هذه الأحياء يتذكرونك ، التجار الصغار ، الباعة المتجولون ، الساسة العابرون الداخلون في حفرياتِ الشوارع ، كلهم يؤشرون لهذا النورسِ القادمِ من بحرِ الخليج ، احتفظوا برسمهِ وباسمهِ لصغارهم .
ممر أخضر ، كأن بسمتك سوف تنهالُ عليّ قُبلاً هنا ، كأنكَ سوف تظهرُ مطراً يغدقُ شكاوى البشر وأجنحتَهم الطائرةَ في ليالي السمر ، كأن الدفءَ سيظهر .
أرى الزوجةَ تظهرُ من بين لفائفِ الدخان ، الأرملة غير الصابرة ، أحتضنتني كعادتِها ، رأيتُ كم كبرنا ، وصرنا الجريدَ المراوغَ من الموتِ ، وكانت مبتهجةً، قادتني إلى الداخل ، وعرفتني على فتى وسيم ، وأطلقتْ سراحي في سجنِها ، وقالت إن الفتى زوجها ، جثمتُ على الورد ، وشربتُ سطلاً من العَرق ، وطرتُ للسقف مراراً ، مُصطدماً بالمسامير الدائرية مثل النقود .
حينما خرجنا من غابةِ الشوكِ ودعَ محمدٌ الورقَ والعرقَ ، حوّلَ إشتراكاتِ الرفاقِ الصدئة بيتاً ، كان محنياً تحت وطأة العمر ، أغلقَ فمَهُ واسترخى على أشواكِ حنة ، رأيتُ كتفيه المحنيتين ، صمتَهُ ، الشركةَ الصغيرةَ التي لا يعملُ فيها ، يستلم أجراً كبيراً منها ، رأيتُ الأوسمةَ التي تساقطتْ في الدروب ، كان كتفانا ملتصقين عند الجدار الوحشي نجتثُ خرائطَ السرطانِ من العظام ، كهلٌ غرقَ في الرماد ، يركضُ أخيراً للأولاد ، يعرفُ أخيراً ما هي عرائسُ المهودِ وأغانيها ، يمضي بكتلةٍ من الأكياسِ المنزليةِ مثل بالون منتفخ ، يطيرُ من الكهف إلى المُلحقِ المخصص للبيض والحفاظاتِ والعسل ، يقتني سيارةً وامرأةً لم يرها كثيراً .
حنة كانت تناوشني في كلِ العصور ، وردةً تنطقُ بالأغنيات ، لوحاتُها الكئيبةُ تجعلني أغرقُ في القلقِ والضجر ، أصابعُها المحترقةُ في المنزلِ النائي وبكوارثِ الرجال ، تومضُ حيناً ، وتنطفئُ كثيراً ، مثل عمودِ نورٍ قلق.
جاءها بكل حميمية ، بكلِ جوعِ السجين للجسدِ الأنثوي ، تلاشى في أشواكِها ، ألقى الزجاجات الفارغة على الجدران، تآكلَ بصمتٍ معتاد منذ قرون.
أنظرُ إليها الآن محمومةً في هذا الشتاء ، ترتعدُ أسنانُها وتحرقُ عظامَ فتى لتتدفأ ، منفتحةَ الوجه ، سعيدةً في نشواتها الغريبة.
تقول:
- سنذهب في الربيع لبيتنا عند البحر ، تعال هناك يا نادر!
وضحك الفتى وصرخ:
- سوف نصطادُ السمكَ، إنني لم أر البحرَ أبداً!
فتىً جبليٌّ من هؤلاء المتساقطين من الجوعِ والحروبِ على المدن ، يبيعُ القات ، يتدفأ في أركانِ الشوارع ، يهذي ، يصيرُ شاعراً ، ومفجراً للكلام في غرفِ الكهولِ الموتى.
تقول:
- قصةُ حبٍ رهيبةٍ تفجرُ الجدرانَ بين العصور والخرائط والأعمار!
أنظرُ للخلايا التي أكلها الحوت ، حين أعود للبلد ، حين تتفجر شراييني في الأزقة المحتلة بالغربان ، في تلك العمارة الخربة التي كانت يوماً نادياً ، في الفصول الصغيرة التي نُدرَّسُ فيها ، وقامت مكانها شجرةٌ عملاقةٌ ثم رحلتْ أغصاناً وجذوراً للبحر ، نخرجُ من المدرسة معاً لنتغدى في أي مطعم رث ، أو في أي قهوة يظهر فيها رفاق ، شباباً نحرق السنين ، والخشب الضنين .
رفيقي محمد وأنت الحلم الغابر الراكض العاثر ، خرجتَ من المحرقة ، يئستَ من الفكرة، إنتفضتَ في الغربة وعانقتَ جرادةً ، قلنا نكون أو لا نكون ، ثم صرنا عجائز في المتحف، وريش الديوك تناثرَ في حلباتِ الدراهم ، تأكلنا حنة في شتاءاتِها الكثيرة ، تخللنا بالعَرق ، يظهرُ نسلٌ من الدمى ، تضعنا في لوحاتِها بقربِ الحشراتِ المتيبسةِ الكثيرة ، نُباعُ في المعارض ، نحاولُ أن نمسكَ إيدي الأولاد من الذوبان في الفضاء .
ترقص حنة بين الفتية والرجال ، تحاول أن تسحب أرضاً خضراء على سلحفاة متيبسة ، أعطيه الدواء ، يهذي:
- أكتب شيئاً يا نادر عن معرضها، إنه رائع!
يظلُ في الغرفةِ ، يأكلهُ العرقُ والخضارُ ، يرتعدُ في البرد ، في الغربةِ ، يكتب سطوراً آليةً من زمن عاد ، حنة تمسكني في ممر ، تتحسسني ، تجسُ نوابضي ، لم أكتب شيئاً ، أراه وهو يبصق دماً متنقلاً في المعرض ، يُحضرُ أقلاماً بلاستيكية تتعشى كثيراً لديه ، تظهرُ اللوحات على الورق ، وصورٌ عديدة لحنة وهي في فستان فراشة ، وهو يعمل ، منشرخاً إلى أجزاءٍ كبيرة ، ذائباً في المدينة القاسية الواسعة التي تأكلهُ كلَ يوم بين التاكسيات الصفراء ، والعدادات ، والأكياس المحمولة ، ثم يصيرُ كتلةً من العظام المسحوقة كأن مئات الذئاب أكلتها ومصتها حتى النخاع.
في الشتاءاتِ المريرةِ حين نسيتْ أقدامي الدروبَ القديمة ، حين يتفجرُ الحنينُ المرضي لسير البطولة ، أبحث عن وريقات له ، أتنقل بين سريره وكوابيسه ، أجدني في لوحات صديق شاباً معه في الحي الذي ظهرنا فيه لا نزالُ وامضين واعدين بالكهولة.
23 ديسمبر 2009
ـــــــــــــــــــــــــــ
12 - باب البحر «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2020.
❖ «القصص: وراء البحر.. - كل شيء ليس على ما يرام - قمرٌ فوق
دمشق - الحب هو الحب - شجرة في بيت الجيران - المذبحة - إجازة نصف يوم - حادث - البائع والكلب - ماذا تبغين ايتها الكآبة؟ - إمرأة – الربان - إذا أردتَ أن تكونَ حماراً - اللوحة الأخيرة - شاعرُ الصراف الآلي - البيت - حوت - أطروحةٌ - ملكة الشاشة - الغولة - وسواسٌ - مقامة المسرح - إعدام مؤلف - يقظة غريبة».
❃❁✾❈✤
✗ القصص القصيرة:
1 - لحن الشتاء «قصص»، دار الغد، المنامة_ البحرين، 1975.
❖ «القصص: الغرباء - الملك - هكذا تكلم عبد المولى - الكلاب - اغتيال - حامل البرق - الملاذ - السندباد - لحن الشتاء - الوحل - نجمة الخليج - الطائر - القبر الكبير - الصدى - العين».
2 - الرمل والياسمين «قصص»، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1982.
❖ «القصص: الفتاة والأمير - علي بابا واللصوص - شجرة الياسمين - العوسج – الوجه - الأرض والسماء - المصباح - نزهة - الصورة - اللقاء - لعبة الرمل- الأحجار - العرائس - الماء والدخان».
3 - يوم قائظ «قصص»، دار الفارابي، بيروت، 1984.
❖ «القصص: الدرب - أماه... أين أنت - الخروج - الجد - الجزيرة».
4 - سهرة «قصص»، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1994.
❖ «القصص: السفر - سهرة - قبضة تراب - الطوفان - الأضواء - ليلة رأس السنة - خميس - هذا الجسد لك - هذا الجسد لي - أنا وأمي - الرمل والحجر».
5 - دهشة الساحر «قصص»، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، 1997.
❖ «القصص: طريق النبع - الأصنام - الليل والنهار - الأميرة والصعلوك - الترانيم - دهشة
الساحر - الصحراء - الجبل البعيد- الأحفاد - نجمة الصباح».
6 - جنون النخيل «قصص»، دار شرقيات، القاهرة 1998.
❖ «القصص: بعد الانفجار - الموت لأكثر من مرة واحدة! - الأخوان - شهوة الدم - ياقوت - جنون النخيل - النوارس تغادر المدينة - رجب
وأمينة - عند التلال - الأم والموت - النفق - ميلاد».
7 - سيد الضريح «قصص»، وكالة الصحافة العربية، القاهرة، 2003.
❖ «القصص: طائران فوق عرش النار -
وراء الجبال - ثنائية القتل المتخفي - البركان -
سيد
الضريح – وتر
في الليل المقطوع – أطياف
– رؤيا
– محاكمة
على بابا – الحارس».
8 - الكسيحُ ينهض «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.
❖ «القصص: الشاهدُ.. على اليمين - الكسيحُ
ينهض - جزيرة الموتى - مكي الجني - عرضٌ في الظلام - حفار القبور - شراء روح - كابوس - ليلة صوفية - الخنفساء - بائع الموسيقى- الجنة - الطائر الأصفر - موت سعاد - زينب والعصافير - شريفة والأشباح - موزة والزيت -
حمامات فوق سطح قلبي - سقوط اللون - الطريق إلى الحج - حادثة تحت المطر - قمرٌ ولصوص وشحاذون - مقامة التلفزيون - موتٌ في سوق مزدحمٍ - نهاياتُ أغسطس - المغني والأميرة».
9 - أنطولوجيا الحمير «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.
❖ «القصص: انطولوجيا الحمير - عمران - على أجنحة الرماد - خيمةٌ في الجوار - ناشرٌ
ومنشورٌ- شهوة الأرض - إغلاقُ المتحفِ لدواعي الإصلاح - طائرٌ في الدخان - الحيُّ والميت - الأعزلُ في الشركِ - الرادود - تحقيقٌ - المطرُ يموتُ متسولاً - بدون ساقين - عودة الشيخ لرباه - بيت الرماد - صلاةُ الجائع - في غابات الريف - الحية - العـَلـَم - دموعُ البقرة - في الثلاجة - مقامات الشيخ معيوف».
10 - إنهم يهزون الأرض! «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.
❖ «القصص: رسالةٌ من بـينِ الأظافر - الأسود - عاليةٌ - جلسةٌ سادسةٌ للألمِ - غيابٌ - عودةٌ للمهاجرِ - دائرةُ السعفِ - الضمير - المحارب الذي لم يحارب - الموتُ حُبـَأً - إنهم يهزون الأرض! - حـُلمٌ في الغسق - رحلة الرماد - أعلامٌ على الماء - گبگب الخليج الأخير - المنتمي إلى جبريل - البق - رغيفُ العسلِ والجمر - عوليس أو إدريس - المفازة - قضايا هاشم المختار - أنشودة الصقر - غليانُ المياه».
11 - ضوء المعتزلة «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.
❖ «القصص: ضوء المعتزلة - جزرُ الأقمار السوداء - سيرة شهاب - معصومة
وجلنار- سارق الأطفال - شظايا - الترابيون».
12 - باب البحر «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2020.
❖ «القصص: وراء البحر.. - كل شيء ليس على ما يرام - قمرٌ فوق دمشق - الحب هو الحب - شجرة في بيت الجيران - المذبحة - إجازة نصف يوم - حادث - البائع والكلب - ماذا تبغين ايتها الكآبة؟ - إمرأة – الربان - إذا
أردتَ
أن
تكونَ
حماراً - اللوحة الأخيرة - شاعرُ الصراف الآلي - البيت - حوت - أطروحةٌ - ملكة الشاشة - الغولة - وسواسٌ - مقامة المسرح - إعدام مؤلف - يقظة غريبة».
تعليقات