الترانيــــــــــم : قصةٌ قصـــــــيرةٌ ـ لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة
⊛ ⊛ ⊛
أيها الأحبة الضائعون في البراري هلموا إلى نبعي. في زمن الصحراء الناري تعالوا إلى فيضي وغمامي. لا تكونوا مثل رجل حرق الغابة وحُوصر في أتونها، وامتلأت حفره بجثث الطيور والأرانب.
في مشيي الطويل في أسلاك الكهرباء الصاعقة لم أجد الراحة. في حبوب السراب لم أجد واحة. في الإعلانات الملونة وقوائم الطعام المليئة بالغزلان لم أر ذاتي. أدانني أطفالي لصمتي.
أيها المتعبون القادمون من الحمم والحمى والأنفاق، جيران النمل، تعالوا إلى خيمتي الوارفة، هناك بدأ نهر الماء يأخذني إليكم.
⊛ ⊛ ⊛
قال الطبيب:
- هل أنت بخير، هل أراحتك الإبرة؟
سأل المريض:
- هل رحل؟
تلفت الطبيب وانتبه إلى ضجة المرضى المتسربة إلى عمق المستشفى. قال:
- ذهبوا للنوم.
كان المريض يتغنى بالكلمات، يترنم، فيطلق حفيف الفراشات والأجنحة والأشعة، وتغدو أصابعه ثللاً من البشر يتدفقون على خيمة في عمق الألم والرمال والظلال تصير واحات وطرقاً ومناجم، وعيونه تبدو كأشرطة الأفلام الملونة العريضة حيث الغابات والآفاق والمدن اللامتناهية.
ارتجف الطبيب قليلاً، وشفتا المترنم تغنيان بوجد، ثم أسدل الستار على قامته حتى صوته.
وفي الأيام التالية لم يصدق الطبيب إن كل هذه التحولات والفوضى، يمكن أن تحدث.
امتدت أطباق الطعام المليئة من القرى والأزقة إلى غرفة المترنم. انتشرت الأغنام والعجول وأقفاص الدجاج في حوش المستشفى وراء سوره. وضعت أكداس النقود والشيكات وبطاقات الصراف الآلي على مكتبه. حشود من البشر تريد رؤية المريض.
وحين يخرج من غرفته، التي صارت مثل كهف بإضاءتها الشاحبة وبأكداس الكتب، لم يعد بإمكانه أن يمشي، كان المترنم يُحمل ويصير حمامة فوق كتلة النهر البشري، ذي الشلالات العارمة والصخور والقوارب الضائعة.
كان يقف فوق رؤوس الحشد ويترنم. كلماته مثل حلوى الأطفال، تبدو عسلية المذاق، تتدفق بحنو، وتفيض من غدير، وتطبطب على الأكتاف، وتضم الصدور والرؤوس، ليتشكل بكاء جماعي مرير مرهف، فتتساقط الخرق الملوثة وأردان الدم والطيور الجارحة.
ولم يعد بإمكان الطبيب أن يعمل، ورأى بعض الأطباء يستلون من ملابس المترنم خيوطاً يضعوها على أكتافهم، ويغمغمون بكلماته وهم يدسون الحبوب والإبر في أجسام المرضى.
حاول أن يمنع الزوار، ويوقف الأقدام والمأكولات الملوثة والتمائم والمجذومين والمتأيدزين، ويعيد المريض إلى علاجه، لكن السيول حصرته في مكتبه، وشاهد أطباء يحررون شهادة شفاء للمترنم.
خرج المريض إلى الشوارع مصحوباً بكرنفال من الألوان والموسيقى واللافتات، وراحت السماعات تقرأ ترانيمه بصوت أخاذ منغم، وظهر دراويش يتمايلون بمقاطعها ويحلقون بأجنحتها.
ثم استعاد المستشفى سيطرته على عـقله وجنونه.
دخل الطبيب تلافيف الأدمغة باحثاً عن سر هذا الاضطراب فعثر على أجسام ضوئية تتفجر مطلقة أصواتاً غامضة.
حرر طلباً إلى الجهات المختصة لإعادة المريض للعلاج اللازم، وبيَّن خطورة انفصامه المتعدد الجهات والإشعاعات.
لكن رداً لم يأتِ.
رأى صور المريض تغزو الشوارع، تحتل الحوائط بين الممثلين والماركات التجارية والُنُصب التذكارية. الصحف راحت تقتبس كلماته، وترانيمه يغنيها المطربون، وتتألق على المناطيد والبالونات الضخمة التي تخترق سماء المدينة.
غدت روشتة في الصيدليات واجتماعات السحرة واحتفالات المهرجين والمفكرين وعمليات الطهر والتطهير والحروب والنذور ولقاءات الغرام والخصام.
قاد الطبيب سيارته في شوارع مزدحمة، دخان وحشود وغبار وبائعة متآكلون وبنايات عملاقة وطوابق من الزجاج والفضة وقطارات قرب السحاب وقطارات في أعماق الأرض والنار وشاشات من النور تنتفض رقصاً ومشروبات وأغان، ورؤوس بلا أجسام وأجسام بلا رؤوس..
توقف باص سياحي. حدثت صاعقة هائلة تحته، انقلب متفجراً وتدلت رؤوس متدفقة بالدماء، وتعالت الصفارات والنداءات وولولة سيارات الإسعاف والحريق.
في النهارات المختنقة والمذبوحة كان طيفُ الترانيم يداعب روح الطبيب مثل النسمات. كان يتذكر وجه المريض الواثق فوق الحشود، وكأن نهراً من الحمام يستعيد صلته بالغيم.
راح يهز ذاكرته ويشك في عـقله، وخيل إليه مرات إنه هو المريض، وإن نوبات الدوار، التي تتحد بالأشباح والكوابيس، والعرق والأرق، ليست سوى أطياف داء عميق.
كانت كل النداءات والصرخات وأشرطة الترانيم المبثوثة كالهواء، والقنابل المنفجرة الموضوعة في المزهريات وحقائب الأطفال، والطائرات المتصدعة في الفضاء، والزلازل والأوبئة الصارخة والحطام والبشر المتبقين تحت الحطام والسمك المنتحر والمدن المشتعلة..
تضربه بريح عاتية فيتخلخل ويتبعثر في الحبوب والخمرة والكآبة وكره البشر والبحث عن حب.
ذات صباح وجد المريض المترنم يظهر في التلفزيون. كانت دباباته تحتل الأبنية والحشود والفضاء.
مضت الأرض كلها تتنفس ترانيم وتمضغ أعشاباً من الورق والدم.
حاول أن يجد رأسه، فرأى جنوداً يقتحمون مكتبه وينتزعون ملفات المترنم ويختفون.
لم ينتبهوا إلى الأشرطة المسجلة، التي بثها في أجهزة الضوء والصدى والصورة.
كانت أشرطة المترنم المسجلة كلها تصرخ في الهواء. هذيانه وبكاؤه من أجل الحبوب. تعطشه للنساء وخزائن المال. زحفه للسم الأبيض. كلها، كلها كانت مبثوثة بالنيون في المدينة.
في المساء كان الطبيبُ معلقاً في فضاءِ غرفة، يرشحُ دماً ورأسه استقرت على النخيل والعصافير، ووجد الخيوط والخطوط والشواطئ والنساء، تتكلم.
بعد ليال مجهولة العدد، كان الطبيب مهدم الملامح، يوزع أوراقاً فيها ترانيم جديدة.
ـــــــــــــــــــــــــ
5 - دهشة الساحر «قصص»، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، 1997.
❖ «القصص: طريق النبع - الأصنام - الليل والنهار - الأميرة والصعلوك - الترانيم - دهشة الساحر - الصحراء - الجبل البعيد- الأحفاد - نجمة الصباح».
❃❁✾❈✤
✗ القصص القصيرة:
1 - لحن الشتاء «قصص»، دار الغد، المنامة_ البحرين، 1975.
❖ «القصص: الغرباء - الملك - هكذا تكلم عبد المولى - الكلاب - اغتيال - حامل البرق - الملاذ - السندباد - لحن الشتاء - الوحل - نجمة الخليج - الطائر - القبر الكبير - الصدى - العين».
2 - الرمل والياسمين «قصص»، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1982.
❖ «القصص: الفتاة والأمير - علي بابا واللصوص - شجرة الياسمين - العوسج – الوجه - الأرض والسماء - المصباح - نزهة - الصورة - اللقاء - لعبة الرمل- الأحجار - العرائس - الماء والدخان».
3 - يوم قائظ «قصص»، دار الفارابي، بيروت، 1984.
❖ «القصص: الدرب - أماه... أين أنت - الخروج - الجد - الجزيرة».
4 - سهرة «قصص»، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1994.
❖ «القصص: السفر - سهرة - قبضة تراب - الطوفان - الأضواء - ليلة رأس السنة - خميس - هذا الجسد لك - هذا الجسد لي - أنا وأمي - الرمل والحجر».
5 - دهشة الساحر «قصص»، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، 1997.
❖ «القصص: طريق النبع - الأصنام - الليل والنهار - الأميرة والصعلوك - الترانيم - دهشة
الساحر - الصحراء - الجبل البعيد- الأحفاد - نجمة الصباح».
6 - جنون النخيل «قصص»، دار شرقيات، القاهرة 1998.
❖ «القصص: بعد الانفجار - الموت لأكثر من مرة واحدة! - الأخوان - شهوة الدم - ياقوت - جنون النخيل - النوارس تغادر المدينة - رجب
وأمينة - عند التلال - الأم والموت - النفق - ميلاد».
7 - سيد الضريح «قصص»، وكالة الصحافة العربية، القاهرة، 2003.
❖ «القصص: طائران فوق عرش النار -
وراء الجبال - ثنائية القتل المتخفي - البركان -
سيد
الضريح – وتر
في الليل المقطوع – أطياف
– رؤيا
– محاكمة
على بابا – الحارس».
8 - الكسيحُ ينهض «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.
❖ «القصص: الشاهدُ.. على اليمين - الكسيحُ
ينهض - جزيرة الموتى - مكي الجني - عرضٌ في الظلام - حفار القبور - شراء روح - كابوس - ليلة صوفية - الخنفساء - بائع الموسيقى- الجنة - الطائر الأصفر - موت سعاد - زينب والعصافير - شريفة والأشباح - موزة والزيت -
حمامات فوق سطح قلبي - سقوط اللون - الطريق إلى الحج - حادثة تحت المطر - قمرٌ ولصوص وشحاذون - مقامة التلفزيون - موتٌ في سوق مزدحمٍ - نهاياتُ أغسطس - المغني والأميرة».
9 - أنطولوجيا الحمير «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.
❖ «القصص: انطولوجيا الحمير - عمران - على أجنحة الرماد - خيمةٌ في الجوار - ناشرٌ
ومنشورٌ- شهوة الأرض - إغلاقُ المتحفِ لدواعي الإصلاح - طائرٌ في الدخان - الحيُّ والميت - الأعزلُ في الشركِ - الرادود - تحقيقٌ - المطرُ يموتُ متسولاً - بدون ساقين - عودة الشيخ لرباه - بيت الرماد - صلاةُ الجائع - في غابات الريف - الحية - العـَلـَم - دموعُ البقرة - في الثلاجة - مقامات الشيخ معيوف».
10 - إنهم يهزون الأرض! «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.
❖ «القصص: رسالةٌ من بـينِ الأظافر - الأسود - عاليةٌ - جلسةٌ سادسةٌ للألمِ - غيابٌ - عودةٌ للمهاجرِ - دائرةُ السعفِ - الضمير - المحارب الذي لم يحارب - الموتُ حُبـَأً - إنهم يهزون الأرض! - حـُلمٌ في الغسق - رحلة الرماد - أعلامٌ على الماء - گبگب الخليج الأخير - المنتمي إلى جبريل - البق - رغيفُ العسلِ والجمر - عوليس أو إدريس - المفازة - قضايا هاشم المختار - أنشودة الصقر - غليانُ المياه».
11 - ضوء المعتزلة «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.
❖ «القصص: ضوء المعتزلة - جزرُ الأقمار السوداء - سيرة شهاب - معصومة
وجلنار- سارق الأطفال - شظايا - الترابيون».
12 - باب البحر «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2020.
❖ «القصص: وراء البحر.. - كل شيء ليس على ما يرام - قمرٌ فوق دمشق - الحب هو الحب - شجرة في بيت الجيران - المذبحة - إجازة نصف يوم - حادث - البائع والكلب - ماذا تبغين ايتها الكآبة؟ - إمرأة – الربان - إذا
أردتَ
أن
تكونَ
حماراً - اللوحة الأخيرة - شاعرُ الصراف الآلي - البيت - حوت - أطروحةٌ - ملكة الشاشة - الغولة - وسواسٌ - مقامة المسرح - إعدام مؤلف - يقظة غريبة».
تعليقات