الــــــرمل والحــــــجر : قصةٌ قصـــــــيرةٌ ـ لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة
كانت ثمة كتلة شاحبة تواجهُ عاصفة التراب. رأى مظفرٌ شبحاً غريباً ماتت صرخاتهُ في ضجةِ الصحراء الثائرة. كان يحملُ شيئاً ثميناً، أحتضنه وموجاتُ الترابِ تدفنه.
غاصت قدما مظفر في الرمل، وخبأ رأسهُ عن رماح الغبار النافذة.
تحسسَ الرجل فإذا وجهٌ أبيض عجوز متغضن. امتدت يده إلى كيسه فاصطدمت بحجرٍ قاس.
بم أتتك هدايا العاصفة؟ أهذه هي وعود الليالي البخيلة؟ عجوزٌ تبحثُ يدهُ المعروقة، كجلد الضب الطاعن، عن نظارة صغيرة، ذات إطار معدني رخيص؟ وكيسهُ الثمين ليس سوى حجر كبير، يحملهُ بحبِ الأمِ حتى لو نسي ساقه. ورائحته عشبٌ وماعزٌ وطين محروق وغيمة ضالة. هادئ، رقيق، يأملُ بالحياة المهددّة. أهذا هو ما تعدك به أحلامُ الظهائر القوائظ المشعلة بالشهب؟
«أودُ أن أدفنك هنا بدلاً من أن تموتَ بجوعي».
يحملُ العجوزَ وحجرَهِ وغبارَهِ وأعشابهِ وأنينَ ماعزه الخفي، ويضعهُ طفلاً في عمق الخباء، على الحصير.
يحكمُ الخباءَ وأصابعَ الريحِ المشاكسة تعضُ كلَ شيءٍ، وتولولُ نائحةً جائعة إلى كسرة خبز وقطرة دم. الكونُ كلهُ مضرجٌ بعروق مثخنة، كأنه ذبيحة أو ماعز نافق تلتهمه الضواري. نهارٌ مسودٌ وليلٌ محترق، والرمل قوافل تغرقُ في العدم.
صحى العجوزُ، أنتبه، تطلع إليه مذهولاً، مرعوباً، تحسست يدهُ كيسَهُ والأداةَ الزجاجية الصغيرة التي تعطيه حقيقة الوجود. استعاد المسيرة المريرة بين حشود التلال المتحركة، وموج التراب الطاغي المندفع كالحيتان، والسيارة التي ترنحت وانقلبت ثم تاه كلُ شيءٍ، إلا من رملٍ كثيفٍ وصل إلى صدره، وخروجه النازف من قبر التراب ، وبحثه عن صوتٍ أو ضوءٍ ولا جدوى.. ثم هنا الآن، وهذا الرجلُ البدوي القوى، ونظراته الشرسة المتغلغلة، وأصابعهُ التي تتلمسُ الحجرَ، وتفتشُ ورقَ الكتاب، وتتحسسُ الكيسَ فلا تجد ذهباً أو مالاً.. لتتفجر عروقها بالألم والغضب..
- ماذا تحملُ؟ أتمسك هذا الحجر كالبخيل.. أريدُ مالاً! ماذا لديك؟
- لا شيء، لا شيء!
لم يكن سوى حجرٍ كبير وكتاب رث. أتعوي في كل الليالي، وتحدقُ بالدروب، وتشمُ روائحَ القوافل والمهربين والضائعين، لتصاد كلباً هرماً مجنوناً؟ وعليك أن تحمله وتسقيه ماءً، وربما أن تجدَ له أكلاً، وأنت تقتات بالعشب والطرائد وبمخازن الحبوب النائمة في الليل ومزابل المدينة؟
- لماذا تحتضنُ هذا الحجر؟ ماذا به؟
- لا شيء.
ثقيلٌ وكأنه ضلع جبل، صلدٌ محفورُ الوجهِ: ثمة بابٌ ووجهٌ هائل لرجل تحته الحياتُ والسهام والصقور والأثداء.
- ماذا يساوي هذا الحجر؟
- إنه.. حجرٌ.
- وهل تبيعه؟
- كلا.
- ماذا تفعلُ به؟
رأى العجوزَ يضطربُ، عيناهُ الحزينتان تعترفان بالإثم.
- إنني عالمُ آثار.. بحثتُ مع زملائي طويلاً عن مدينة غارقة تحت الرمال هنا. أشتعلتْ الشموسُ فوق رؤوسنا. حفرنا أنفاقاً طويلة. هرب الحراسُ والزملاءُ وبقيت الرمالُ وحدها فاتحة أفواهها. اليوم قبل هذه الريح العنيفة سمعتْ فأسي شيئاً صلباً.. رحتُ أحفرُ وألقي الترابَ، تغير لونُ السماء، وجاءت ولولة الريحِ الأولى.. رفعتُ شيئاً، لم يكن حجراً، كان مفتاحاً لمدينة هائلة. تحت هذا الرمل البشع المخيف ترقدُ مدينة ببيوتها وأمواتها ودكاكينها وأساطيرها.. هذا مفتاحٌ، مفتاح كأنه الذهب! أنتم تمشون فوق بحر من الأشياء والأحياء!
حاول أن يرفع الحجر ولم يستطع. ترنح رأسهُ على صدرهِ، وراح يلهثُ وأصابعهُ تضغطُ على الحصير بألم، وكأن عروقهُ تريدُ أن تقفز من الجسد.
صاح مظفر:
- إذن هذا يساوي الكثير!
- أيها الرجلُ الطيب.. أنت أنقذتني.. ستحصلُ على مكافأة كبيرة. بعد أن تهدأ العاصفة خذني إلى المدينة.. هناك..
قاطعهُ بحدة:
- لا أيها الرجلُ الغريب، سآخذُ هذا الحجر وأبيعهُ. سأكسبُ ثروةً، أعرف تجاراً في أزقة المدينة الخلفية يشترون كلَ شيء، الخمر والنساء، والكتب والآثار..
حاول الغريبُ أن ينهضَ ويمسكَ مظفراً من يده، لكنه لم يقدر، رقد وأنّ. بحثَ عن شيءٍ على رقبته. فك سلسلة ذهبية ناعمة، تدلى في آخرها صليب.
- خذ وبع هذا، لكن دعْ الحجر!
انتزع السلسلة وما ترك الحصى.
يتكلمُ ببطءٍ ووهن:
ـ منذ أكثر من عشرين سنة وأنا أتصفح الكتبَ القديمة والخرائط، وأتجولُ بين الصحاري والواحات فوق حمارٍ واهن. حفرتُ وسقطتُ وتهتُ وصرختُ من الحمى والهم ورقدتُ في كوخٍ أهرشُ جسمي من الفقاقيع الحمراء وانفجارات اليأس، حتى عثرتُ على خيطٍ أول في تلٍ شاحب. ركضتُ إلى الموانئ والبواخر، وصرختُ في قاعاتٍ باردةٍ وأمام وجوه صلدة، حتى جئنا هنا، بأدواتنا وخيامنا وعذابنا.. كانت هذه المدينة حلمي، وكنتُ قبل يومٍ واحد قد عزمتُ على الرحيل والموت.
نهضَ قليلاً، وقرّب رأسه، وضغط على يده:
ـ لو كنتَ تعرف كم تألمت! منذ ذلك الزمن البعيد عندما جئتُ وزوجتي إلى هذه المدينة، التي لم تكن سوى أكواخٍ وزرائب، رمقنا الناسُ بغضب، وصرخوا في وجوهنا. تحملنا ونحن نزحفُ على الرمال، ومرضت امرأتي وحملتها تحت النسور الجائعة والحيات الطائرة. كانت ترقصُ في الثلج وتضحك كالزهرة. حملتها تابوتاً إلى وطني. غرستها في تربتي وأنا أصرخُ: لن أرجعَ ثانية، لن أرجعَ ثانية!
استرخى مظفر. جاءته صرخات الريحِ ونشيجها، وكأنها تأكلُ أطفالاً. اندفعت داخله أنهارٌ من الحمم، ورأى الصحراءَ لا تطفئها، والثلجَ الكثيف يتوقد قربها ويصيرُ بنادق وأسلاكاً.
تركتْ يدهُ الحجر. بدا العجوزُ قربه كصديقٍ عتيقٍ طالما رآهُ في «جيبه» المندفع، وغليونه دخانُ قطارٍ صغير وفوقه مظلةُ عامل أفريقي، وعيونه تحدس التلال، ورأى بريقها في الحارات المعتمة، وهو يقفُ في الشرفة مع عدوه، المتجمد على كرسيهِ، المحدق في الجمعِ الغفير تحته، ببرود.
تطلع إليه فجأة، وكأنه يراهُ لأول مرة، يدخلُ أفق عينه الفسيحة، كالتاريخ الغامض للمدن المدفونة، كالبواخر العملاقة المحملة بالقمح والهياكل العظمية وذكريات الرمال، يقولُ بصوت بدا مغايراً:
- أيها الرجل.. إن آلامك لا تساوي شيئاً قرب آلامي. إنك تذهب هناك في المدينة وتحتفل تحت الشموع ونافورات النبيذ، أما أنا فلم أنزل إليها إلا كشبحٍ، أو كذئبٍ يغتصبُ زريبة، أعوي هنا في الفيافي، أبحثُ عن عشبٍ ضل من المطر والغنم، أمضغُ الترابَ الباردَ وأنام مع أعجاز النخل الخاوية. كان لي أخ هناك أحب جارية للأمير فقتلوه، أصطدم رأسي بقلاعٍ صلدة، بأحزمة الرصاص القاسية. ثرتُ وقتلتُ وعذبتُ حتى صرتُ شبحهم المرعب. مضت السنون وأنا تحت الظلام والصمت، آلفتني الذئاب والضباع حتى تركت صغارها عندي. صرتُ جزءاً من الرمل والغيبوبة والظهائر النارية والتلال المتحركة القاتلة. احتضرت أمي ولم أستطع أن أراها. رأيتُ جنازتها من بعيد. وطبخوا زوجتي في قدر الجواري. أنظر إليّ كيف شبتُ في بضع سنين؟ كلُ رفةِ طير تقلقني، كل ظل يحرقني. كانت المدينة بضعة أكواخ وبيوت، بحرٌ أزرقٌ عميقٌ وواسع، وبضعة بساتين تصنعُ الطيورَ والتمر، والآن عمارات من الأسياخ على مدى النظر، واغترب البحرُ وأسود، ولا تزال صورتي في مخافر الشرطة شاباً، ذا عينين حالمتين. لا ليست الليالي التي عشناها متشابهة.
جثم مظفر والخباء ينتفضُ حوله. كأن الزوبعة أيدي الأعداء المنقضة في الأزقة، وصرخاتُ الأبواب المقلوعة، والأنينُ العميق النازف تحت الأرض. وولولةُ الريحِ أمهاتُ القتلى يندبن بصدورهن المشرعة، لكن لا دموع سوى رمل يدخلُ العيونَ من خلايا الأشياء.
- إن كل حفنة قمح، وقطعة نقد، تجعلني أتجذر في هذه الصحراء، أغدو شبحاً يتوغلُ إلى أسرتهم وكوابيسهم. ليس ثمة في هذا المدى الأصفر المجنون سوى أن تكون قاتلاً أو مقتولاً. لا تجثم الحمامات في أيدينا، ولا تخضرُ الأحلامُ في مآقينا. سوف آخذ هذا الحجر!
ارتخى العجوزُ وغفى، رأى زوجته تطفو فوق براميل النبيذ المبقورة، وهو يتوغلُ في أدغال الأرض السفلى، يحملُ أفعى ويترنم بأنشودة سومرية. ضحكات البدو والشياطين تحرقُ عينيه. يسمعُ الأرضَ تفحُ، والآبار تشتعلُ، وحين صحا فزعاً ما وجد البدوي ولا الحجر ولا الخيمة.
رأى الرمال صامتة، ولاتزال عروق دامية في روح السماء الساكنة.
❃❁✾❈✤
✗ القصص القصيرة:
1 - لحن الشتاء «قصص»، دار الغد، المنامة_ البحرين، 1975.
❖ «القصص: الغرباء - الملك - هكذا تكلم عبد المولى - الكلاب - اغتيال - حامل البرق - الملاذ - السندباد - لحن الشتاء - الوحل - نجمة الخليج - الطائر - القبر الكبير - الصدى - العين».
2 - الرمل والياسمين «قصص»، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1982.
❖ «القصص: الفتاة والأمير - علي بابا واللصوص - شجرة الياسمين - العوسج – الوجه - الأرض والسماء - المصباح - نزهة - الصورة - اللقاء - لعبة الرمل- الأحجار - العرائس - الماء والدخان».
3 - يوم قائظ «قصص»، دار الفارابي، بيروت، 1984.
❖ «القصص: الدرب - أماه... أين أنت - الخروج - الجد - الجزيرة».
4 - سهرة «قصص»، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1994.
❖ «القصص: السفر - سهرة - قبضة تراب - الطوفان - الأضواء - ليلة رأس السنة - خميس - هذا الجسد لك - هذا الجسد لي - أنا وأمي - الرمل والحجر».
5 - دهشة الساحر «قصص»، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، 1997.
❖ «القصص: طريق النبع - الأصنام - الليل والنهار - الأميرة والصعلوك - الترانيم - دهشة
الساحر - الصحراء - الجبل البعيد- الأحفاد - نجمة الصباح».
6 - جنون النخيل «قصص»، دار شرقيات، القاهرة 1998.
❖ «القصص: بعد الانفجار - الموت لأكثر من مرة واحدة! - الأخوان - شهوة الدم - ياقوت - جنون النخيل - النوارس تغادر المدينة - رجب
وأمينة - عند التلال - الأم والموت - النفق - ميلاد».
7 - سيد الضريح «قصص»، وكالة الصحافة العربية، القاهرة، 2003.
❖ «القصص: طائران فوق عرش النار -
وراء الجبال - ثنائية القتل المتخفي - البركان -
سيد
الضريح – وتر
في الليل المقطوع – أطياف
– رؤيا
– محاكمة
على بابا – الحارس».
8 - الكسيحُ ينهض «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.
❖ «القصص: الشاهدُ.. على اليمين - الكسيحُ
ينهض - جزيرة الموتى - مكي الجني - عرضٌ في الظلام - حفار القبور - شراء روح - كابوس - ليلة صوفية - الخنفساء - بائع الموسيقى- الجنة - الطائر الأصفر - موت سعاد - زينب والعصافير - شريفة والأشباح - موزة والزيت -
حمامات فوق سطح قلبي - سقوط اللون - الطريق إلى الحج - حادثة تحت المطر - قمرٌ ولصوص وشحاذون - مقامة التلفزيون - موتٌ في سوق مزدحمٍ - نهاياتُ أغسطس - المغني والأميرة».
9 - أنطولوجيا الحمير «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.
❖ «القصص: انطولوجيا الحمير - عمران - على أجنحة الرماد - خيمةٌ في الجوار - ناشرٌ
ومنشورٌ- شهوة الأرض - إغلاقُ المتحفِ لدواعي الإصلاح - طائرٌ في الدخان - الحيُّ والميت - الأعزلُ في الشركِ - الرادود - تحقيقٌ - المطرُ يموتُ متسولاً - بدون ساقين - عودة الشيخ لرباه - بيت الرماد - صلاةُ الجائع - في غابات الريف - الحية - العـَلـَم - دموعُ البقرة - في الثلاجة - مقامات الشيخ معيوف».
10 - إنهم يهزون الأرض! «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.
❖ «القصص: رسالةٌ من بـينِ الأظافر - الأسود - عاليةٌ - جلسةٌ سادسةٌ للألمِ - غيابٌ - عودةٌ للمهاجرِ - دائرةُ السعفِ - الضمير - المحارب الذي لم يحارب - الموتُ حُبـَأً - إنهم يهزون الأرض! - حـُلمٌ في الغسق - رحلة الرماد - أعلامٌ على الماء - گبگب الخليج الأخير - المنتمي إلى جبريل - البق - رغيفُ العسلِ والجمر - عوليس أو إدريس - المفازة - قضايا هاشم المختار - أنشودة الصقر - غليانُ المياه».
11 - ضوء المعتزلة «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.
❖ «القصص: ضوء المعتزلة - جزرُ الأقمار السوداء - سيرة شهاب - معصومة
وجلنار- سارق الأطفال - شظايا - الترابيون».
12 - باب البحر «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2020.
❖ «القصص: وراء البحر.. - كل شيء ليس على ما يرام - قمرٌ فوق دمشق - الحب هو الحب - شجرة في بيت الجيران - المذبحة - إجازة نصف يوم - حادث - البائع والكلب - ماذا تبغين ايتها الكآبة؟ - إمرأة – الربان - إذا
أردتَ
أن
تكونَ
حماراً - اللوحة الأخيرة - شاعرُ الصراف الآلي - البيت - حوت - أطروحةٌ - ملكة الشاشة - الغولة - وسواسٌ - مقامة المسرح - إعدام مؤلف - يقظة غريبة».
تعليقات