من تقنيات القصة القصيرة عند القاص البحريني عبدالله خليفة (المكان في مجموعة سهرة أنموذجاً)

    

ا.د. صباح عبدالرضا اسيود 

جامعة البصرة / كلية التربية القرنة


الملخص:

  دارت رحى النص والسرد في مجموعة (سهرة) للقاص البحريني عبدالله خليفة دورات عدة، ولعل أهم دوراتها ما تعلق بالمكان الممثل بالقرية والبحر والسجن بصفة خاصة، مما كان له تأثير كبير فى مفاصل كثير من القصص، بوصفها أمكنة متكررة وذات دلالة مواربة في المجموعة القصصية (سهرة) برمتها. وقد كانت انطلاقة القاص من هذه الأمكنة انطلاقة ذاتية، بمعنى أنه عبر عن موقع لهوه فى القرية التي عاش فيها أيام صباه في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين ومن ثم استطاع وبتمكن فني من التعبير عنها في فنه القصصي، وبذلك فإنه يتشارك مع الادباء الذين تحكي قصصهم ورواياتهم حياة كاتبيها أو تنهل من معينها. فبعد أن عاش في القرية وشاهد حياة البحر ودخل السجن مدة طويلة أبرت على الست سنوات ومن ثم عاد إليه في أوقات لاحقة، وهو ما كان مدعاة لان يتكرر وصفه الأمكنة بعينها في عدد من القصص والحكايات التي ضمتها هذه المجموعة القصصية، علاوة على انسحاب تلك التجربة إلى الهم السياسي الذي حاول تجسيده.

الكلمات المفتاحية : عبدالله خليفة، المكان، سهرة، القرية، البحر، السجن.


المقدمة :

حققت القصة القصيرة حضورا لافتاً للانتباه في مملكة البحرين ولا سيما في العقود الأخيرة، بعد أن كان لجيل الرواد أثر كبير في هذا النوع من السرد. بيد أن القصة والسرد عموما قد وجدا ضالتهما فيما أهداه إليهما بعض الكتاب الجادين في تناول بعض المفاصل المهمة التي لم تكن أيدي الرواد ق امتدت إليها وبصفة خاصة الأماكن التي تمت بصلة إلى حياة المؤلف أو الكاتب الذي يعير أهمية لما يعير أهمية لما تجلى في حياته، وقد انعكس أثرها في فنه كما هي متجسدة في أعمال الواقعيين عندما تناولوا ما يكتنف حياتهم وما يحيط بها في أعمالهم الأدبية.

ويعد الأديب والكاتب عبدالله خليفة من أكثر الأدباء البحرينيين نشاطاً وأبرزهم موهبة ولمدة طويلة تجاوزت الخمسة عقود، في مجال القصة القصيرة والرواية والكتابات النقدية والفكرية، فقد ولد في العام ١٩٤٨، وتوفي في العام ٢٠١٤، إذ إنه كتب القصة القصيرة والرواية منذ أواخر ستينيات القرن المنصرم، بحيث تجاوزت مؤلفاته القصصية اثنا عشر مجموعة ، فضلا عن عشرات الروايات :  ولهذا فإن تنوع تجربة الأديب عبدالله خليفة وغناها يحتم علينا أن نختار مجموعة قصصية واحدة ونحاول نتلمس أهم ما يميزها من تقنيات فنية لكي نتوصل من خلالها إلى ما يميز أدب هذا الأديب، لأن حيز البحث ومحدوديته لا يمكن أن يستوعب هذه التجربة الواسعة والعريضة وذات المشارب المتعددة كلها؛ ومن هنا فقد توجهنا إلى مجموعة قصصية واحدة من نتاج الأديب فحسب. لنكشف عن أهم تقنية فنية في عالمه القصصي، وهي تقنية المكان.

 وقد وقع اختيارنا على مجموعة (سهرة) التي صدرت في العام ١٩٩٤، وذلك لاعتبارات عدة منها أن المدة التى كتب بها الأديب هذه المجموعة القصصية هي مدة نتوسط في نتاجه الأدبي، وهي تمثل مرحلة الاختمار الأدبي بالنسبة للقاص. بعد أن خاض تجارب عدة في المجاميع القصصية وفي الروايات والكتابات النقدية والسياسية بوصفه من الشخصيات اليسارية في البحرين، وقد أودى به هذا الانتماء إلى ا أن يخوض تجربة السجن ولمدة ليست بالقصيرة إذ كان دخوله إلى السجن في عام ١٩٧٥، ولم يخرج منه إلا بعد عام ١٩٨١، ولابد لهذه التجربة القاسية أن يكون لها إفرازاتها على تكوين الأديب حياته الفنية وحتى حياته الشخصية بدليل أن مفردات السجن والاعتقال كانت تتوافد وتتوارد على مجمل كتاباته الأدبية وحتى في كتاباته السياسية والثقافية، ما يعد إضافة نوعية إلى ما يسمى أدب السجون الذي توقف عنده كثر من الباحثين وهم يستجلون الواقع السياسي والثقافي العربي وحتى العالمي من بين الكتابات الإبداعية العربية، ونحن هنا لا نقصد ارتباط الفني بالإديولوجي الذي حذرت منه الدكتورة يمنى العيد، على أساس أنه يسقط شرعية الفن«١»، وإنما نقصد أثر التجربة الحياتية في صوغ القالب الفني للأعمال الفنية. ناهديك عن أن تجربته الأولى قد وصفت من لدن كثير من الباحثين بتغليها الفكري المباشر على الجانب الفني «٢». أو أنه كان منشغلا بقضايا الانتماء أكثر من انشغاله بقضايا الفن والأدب «٣».

وفضلا عن هذه التجربة القاسية في عالم السجن فقد سطع نجم الأديب عبدالله خليفة بعد معاناته في عالم الحياة اليومية والمعاشة أيضاً؛ إذ إنه من طبقة العمال التي توصف عادة بأنها الطبقة الكادحة. وقد عاش في منطقة اللينات شرق القضيبية في ساحة بيوت العمال التي بنيت بعد حريق القضيبية الشهير الذي نشب في عام ١٩٥٤«٤».  ولهذا نراه منحازاً إلى المعدمين والبسطاء من الناس، علاوة على كونه ابن عامل في الأصل. ومن هنا فقد كان مهموماً بحقوق الطبقة الكادحة من العمال «٥»، كما ينقل لنا الشاعر علي الشرقاوي وهو صديق الكاتب بأن عبدالله خليفة قد سكن في بيت من الطين وما كتابته عن المعدمين إلا تعبير مباشر عن الحياة التي عاشها هو وعن أجواء الأحياء الفقيرة التي تشبه الحي الذي كبر بين ملاعبه. ناهيك عن علاقته بعالم البحر الذي كان يعيش بالقرب منه«٦». وتوظيف البحر لا يقتصر على عبدالله خليفة فحسب وإنما اتجه أدباء البحرين شعرا ونثرا إلى البحر ليس بوصفه حيزاً ومكاناً وحسب وإنما باعتباره وعاءً للعذاب الذي عاشه الإنسان البحريني في أيام الغوص والشقاء. ولهذا فإن أبطاله ينتمون إلى فئة المعدمين والعمال والبسطاء من الناس، كما أن تعبيره عن هذه الفئات من الناس يتوافق وتعبيره عن نفسه هو. ولهذا فقد غدا حديثه عن البسطاء والمعدمين لا يختلف عن حديثه عن نفسه هو.

ولعلنا لا نبتعد كثيرا عن الموضوع عندما نشير إلى أن القصة القصيرة قد تقدمت زمنياً على الرواية في البحرين؛ إذ تعود بدايات القصة القصيرة إلى الثلاثينيات من القرن العشرين بينما تتأخر الرواية إلى الثمانينيات منه، وذلك يربط بطبيعة القصة القصيرة التي تناسب مع أجواء الحياة البسيطة في البحرين وفي سائر بقاع الأرض، التي أشار إليها أحد الباحثين وعدَّها مناسبة لعالم القصة القصيرة في حين توافق الرواية مع تعقد الحياة وتشابكها، ولهذا وجدنا أن القصة القصيرة قد تقدمت زمنيا في البحرين على الرواية التي يناسبها التعقيد والتشابك في الحياة والأحداث ومن هنا فقد تأخرت زمنياً«٧».

وفي ضوء ذلك يمكننا القول إن الأديب عبدالله خليفة لا يختلف عن أدباء البحرين الذين تناولوا حياة القرية البسيطة مثلما تنالوا حياة البحر. وقد كان لهاتين المفردتين آثارهما المباشرة في نتاجه كله وليس في قصص مجموعة، «سهرة» وحسب، ولكن آثارهما انعكست بشكل لافت للانتباه. وكما سنتناول ذلك من خلال تناول أهم التقنيات القصصية التي تتوزع على القرية والبحر والسجن بوصفها أمكنة متكررة في سرد عبدالله خليفة، وهذه الأكنة في المجموعة القصصية «سهرة» مترددة ومتكررة على نحو تتفوق فيه على أية أمكنة أخرى؛ بل لا يمكن أن تقاس بها تلك الأمكنة، وسوف نتناول هذه الأمكنة في مجموعة «سهرة» على النحو الآتي.


١ـ تجسيد القرية كمكان في مجموعة سهرة :


  يعد المكان من أهم التقنيات التي تميز النتاج السردي والأدبي عموماً ولهذا فلا مندوحة من التوجه إليه ومحاولة بيان تجلياته في هذه المجموعة القصصية «سهرة» التي تغص في تثبيت دعائم المكان في القرية البحرينية، ولا سيما الأمكنة التي كانت مرتع صبا الأديب عبدالله خليفة نفسه، وقد انعكست آثارها في أدبه بوصفه من الأباء الذين تحكي قصصهم ومحكياتهم عن حياة كاتبها وقد وجد أحد الدارسين أن قصص هذه المجموعة «سهرة» وقصص مجموعة «دهشة الساحر» تعبر عن هموم الكاتب الفكرية والسياسية والاجتماعية وقد كتب الأديب معظم قصصهما من وهج تجربته الشخصية «٨»؛ وبما يمكن أن يشار إليه على أنه من باب تقديمه العام من خلال الخاص. إذ ينطلق المكان بكل تجلياته الممسرحة منذ السطر الأول في القصة الأولى التي ضمتها المجموعة القصصية «السفر» التي يطالعنا في مستهلها القول: «الحي القديم يتفتح بدروبه الضيقة الملتوية، كالأيام والأنام، أحجاره تآكلت وتساقطت قشرتها، وتحولت غيرانها ملاجئ للهوام، بيوت متراكبة فوق بعضها، تشاجر ضلوعها وأبوابها، قميئة، كالحشائش الفطرية الذابلة، قماماتها حدائق للذباب، ومسام دروبها تنزف هياكل وفئران وأشباحاً ومجانين وغرباء.»«٩». فمنذ الكلمة الأولى بالقصة نجد القاص حريصاً على رسم لوحة لقريته التي عاش فيها طفولته ونهل منها دقائق حياته الأولى فكشف النقاب عن عالم تلك القرية، على عادة كثير من الأدباء البحرينيين الذين يتميزون بالتعبير عن خصائص البيئة البحرينية في البحر والنخل والزرع، ثم في النفط والتحولات الحضارية والاجتماعية والاقتصادية التي لازمته وغيرت من تركية المجتمع البحريني «١٠». إذ يطالعنا الحي القديم بدروبه الضيقة والملتوية وكأن القاص يرسم لوحة فوتوغرافية طالما شاهدها وعاش لحظاتها، وهكذا هي البيوت المتآكلة والمتراكمة فوق بعضها البعض، بحيث كانت تلك البيوت مرتعاً للذباب والجرذان ومن ثم الناس البسطاء، والمسحوقين، وبذلك نقول إن القاص رسم بالكلمات لوحة فنية متجسدة وقد استلها من ذاكرته الى غصت بمثل تلك البيوت المتراكمة التي تفتقر إلى أدنى مراتب الحياة الإنسانية ولا سيما في الواقع البحريني في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين.

وهو في هذا لا يبتعد كثيراً عن التعريف الذي أوردته نجاة صادق الجشعمي عندما تصدت لتعريف القصة القصيرة بقولها «هي فن أدبي وجنس من الأجناس الأدبية، وهي تعرض مجموعة من الأحداث الواقعية في مرحلة معينة من مراحل الحياة، وعادة ما تكون هذه الأحداث قصيرة وصغيرة يدور حولها محور القصة… شرط أن يبذل الكاتب جهداً لتكون مؤثرة ومعير بطريقة وأسلوب فني واستخدام اللغة المؤثرة التي تترك أثراً في نفس القارئ ومختصرة كثيراً وتسرد أحداثاً مكثفة دون أن تؤدي إلى فشل العمل القصصي»«١١»، وذلك عين ما يمكن وصف تجربة القاص عبدالله خليفة في ضوئه إذ إنه حرص أشد الحرص على أن ينقل عصارة تجربته في هذه المجموعة القصصية ولم يقتصر عمله على قصة محددة بذاتها وإنما شمل عمله المجموعة برمتها.

وعلى الرغم من توافق هذا العريف والقصة التي أشرنا إليها في فن عبدالله خليفة لكنا لا نعوِّل كثيراً على كلمة الأحداث الواقعية التي أشارت إلها الباحثة نجاة الجشعمي في تعريفها لفن القصة القصيرة، لأنه من المكن أن تكون الأحداث غير واقعية وتكون القصة القصيرة على درجة عالية من الفن والرقي ، كما هو حال الكثير من القصص العربية والعالمية، بل أن القصص الخيالية تفرق غيرها المستندة إلى الحياة المعاشة واليومية بما لا مجال لحصره وتأكيده، لكن القاص في هذه القصة قد عرض علينا حدثاً واقعياً عاشه الأديب نفسه في مرحلة من حياته وأثر في تكوينه النفسي والحياتي وظل مرافقأ له وقد عكسه لذا في فنه؛ وبما يؤكد أنصهار الحدث اليومي في الفن القصصي، وكما يبدو فإن المكان الذي انتشله الكتاب من ذاكرته هو الذي رسم الصورة وقربها من الواقع وأفاض عليها بإسلوبه أثراً جعلنا مشدودين إلى الحدث من أول وهلة، بل ويإمكانا أن نتوقع ما ستصل إليد الأحداث أو نتواصل مع خيط الأحداث الذي بدأ به الكاتب ما دام يعرض لواقع معاش في بيئة عربية جالبة لهموم الناس البسطاء والمعدمين وآمالهم.

الترابي المفضي إلى المدرسة هو نفسه الذي طالعنا في القصة الأولى، وتعرج الطريق هو الطريق الملتوي في القصة الأولى، وهكذا ثُعؤِّض أكوام الأنقاض في هذه القصة عن قمامات المدينة المليئة بالذباب والفئران. وهذا ما يفضي إلى القول إن القرية التي انطبعت معالمها في ذهن القاص هي ذاتها وأنه  يعبر عنها بتعابير تكاد تتشابه لولا بعض الفقرات التي تبدو مختلفة ولكنها في الحقيقة تنسخ بعضها بعضاً وتؤول إلى منبت واحد.

وهكذا يمكننا أن نرصد تشابهات القرية في كثير من مفاصل القصتين فهو يقول فى هذه القصة الثانية: «بدت بيوت القرية المتراصة كمعسكر للاجئين»«١٣». وهذا الوصف لبيوت القرية هو نفسه الذي ألفناه في بيوت قرية القصة الأولى «السفر» ولا سيما في قوله «بيوت متراكمة فوق بعضها» فإذا ما استبدلنا البيوت المتراكمة بالبيوت المتراصة لما تغير الوصف شيئاً ولبقيت القرية على حالها وهي قرية المعدمين الذين يجاهدون الحياة جهاداً، بل نجد انحسار الجميل فيها وتبدله كما وجدنا الحاج فاضل الذي التقى بالمديرة الجديدة لمدرسة القرية وعبر لها عن امتعاضه وأبناء قريته من تغير الحياة الاجتماعية وما كانت تريد بناءه يقول لهاك« جئت إلى هنا منذ سنوات طويلة لم أصعد إلى الهضبة، كنت اندفع فوقها وأنا شاب.. أركب الحمار.. ونجري معا.. والحصا يتطاير.. تحتنا.. لم تكن الهضبة هكذا.. صارت جرداء.. جرداء.. ليس ثمة سوى.. الأدغال المهجورة.. والقطط الشرسة.. كانت هذه الأرض.. أيتها المديرة.. خضراء.. مليئة بالأشجار.. والينابيع. الآن. كل البساتين.. التي كانت.. غدت أرضاً.. قاحلة.. لم يبق سوى بضع بساتين صارت فللاً يسكنها غرباء.. لو كنت تقفين فوق.. سطح المدرسة.. لرأيت القربة.. بيوتاً كثيرة متزاحمة»«١٤». وهذا ينم عن موقفين متناقضين إزاء القرية فبعد أن كانت القرية مرتع الفقراء ومآل المعدمين صارت ملجأ الغرباء الذين وجدوا ضالتهم في تغير البناء والعمران فيها ولكن هذا العمران جسد حياة جديدة تختلف عن الحياة الأولى التي تتميز بالصفاء، وهنا يتجسد موقف آخر غير الموقف السابق بمعنى أن النص بدأ يعكس موقفاً أيديولوجياً يتبدى من خلال السطور؛ وبما أكده بيير ماشيري عندما أشار إلى مسألة ارتباط العمل الأدبي بالأيديولوجية في قوله «إن العمل الأدبي لا يرتبط بالأيديولوجية عن طريق ما يقوله، بل عبر ما لا يقوله فنحن عندما لا نشعر بوجود الايديولوجية نبحث عنها من خلال جوانبه الصامتة الدالة التي نشعر بها في فجوات النص وأبعاده الغائبة. هذه الجوانب الصامتة هي التي يجب أن يتوقف عندها الناقد ليجعلها تتكلم»س١٥». وقد اقترح ماشيري برنامجاً لا ظهار المضمر الأيديولوجي في الرواية ينهض على أمرين: أولهما يتعلق بالإلمام بالسياق التاريخي الأيديولوجي الموضوع فيما بين السطور وثانيهما بناء الإشكالية التي تطرحها القصة انطلاقاً من الجوانب التي قدمتها»س١٦». ولهذا فأن أبناء القرية عندما أرادوا إحراق المدرسة وكل ما يمت بصلة للحياة الجديدة، فهذا إعلان منهم بعدم توائمهم مع عالم المدينة ورغبتهم في الحفاظ على القرية التي عاشوا فيها الشطر الأول من حياتهم وقد كانت حياتهم ذات نكهة خاصة لا مجال فيها لعالم الغربة الذي تجسد في المدينة الجديدة، بمعنى أن هذا العالم هو العالم المرادف لحياة الفطرة والنقاء. وهنا يغدو عالم المدينة موازياً لعالم السياسة المرتبط بالاستعمار الذي ربت على قلوب الفقراء والمستضعفين من الشعب ما دام هذا المستعمر يحيل حياتهم إلى شذرات فاقدة للحياة الإنسانية ويسلبهم إمكانياتهم وثروات بلدهم.

وإذا كانت القرية كمكان هي المحور الأول الذي دارت، حوله رحى بعض قصص مجموعة «سهيرة» فإن البحر لا يكاد يفترق عن هذا التحديد؛ فهو يشترك مع القرية في تحديد وتشكيل «المكان البحريني». وهذا ما سنتوقف عنده في الفقرة الآتية.


٢ - البحر كمكان في مجموعة سهرة؛


 لا يختلف عالم البحر عن عالم القرية بالنسبة للإنسان البحريني، فقد ارتبط البحريني بهذين العالمين ارتباطاً صميماً وصار يعبر من خلالهما عن وجهة نظره من الحياة؛ بوصفهما رمزين للإنسان البحريني الذي عاش في كنفهما هزيعا من العصور، فضلا عن كونهما يمثلان عالم البراءة والطهر الأول، وقد أشار الدكتور علوي الهاشمي في مجمل كتاباته النقدية إلى هذا المنحى والاتجاه في الأدب البحريني «١٧». لأنهما مثَّلا حقبة الحياة الأولى مثلما عبَّرا عن عالم الحياة البسيطة الأولى. وقد ألفينا، القاص عبدالله خليفة يعود إليهما في مجموعة سهرة وفي جل كتاباته الإبداعية. ولهذا نستطيع أن نصف منجزه بأنه المكافئ والموازن للقرية والبحر على حد سواء. وهو في هذا يتمرد على المجتمع البحريني الذي ينقسم أبناؤه بحسب الحياة التي عاشوها، بحيث وجدنا المجتمع ينقسم على أساس القرية أو البحر، فبعضهم يعيش حياة القرية وبعضهم يتخصص في حياة البحر بل ألفينا التقسيم يمتد حتى إلى التسمية فيتقاسمون التسمية بين البحرينيين والبحرانيين على أساس أن كل تسمية تتصرف إلى تجمع بعينه أو إلى طائفة بعينها أو مذهب بعينه«١٨».

وقد أشرنا سابقاً إلى أن الأديب عبدالله خليفة قد عاش في جنيهما حياته الأولى وقد شكلا له إرثاً حقيقياً؛ بحيث صار يعود إليهما كلما سنحت له الفرصة أو الموقف الفني. وهذا ما ينجلي في جمعه بينهما في قصة الطوفان ـ على سبيل التمثل ـ التي يقول فيها:« كل هذه الجزر البازغة في الماء ربيتها كأولادك، وهذه الطرق الطالعة كالوديان الخضراء نادمتها ولم تسكرك…»«١٩». فهو يجمع بين جزر البحرين الممثلة بالماء وبين أرضها في معترك واحد ينم عن حقيقة واحدة تؤول إلى ولاء تام للأرض البحرينية بعيداً عن أجواء الطائفية وما يلحق بها من مسميات وحلقات أضحت منكشفة، وسبيلا للتفرقة بدلا عن الاتحاد.

ولعل قصة «الأضواء» من أهم قصص مجموعة «سهرة» إشارةً إلى البحر والاستناد إليه سواء أكانت بعدد مرات ذكرها لمفردة البحر أم ببناء القصة في ضوء اهتمامها بالبحر، وهي في الأحوال كلها تفصح عن نظرة جديدة للبحر بوصفه الملاذ الآمن لمن يرغب بالعيش في الحياة الجديدة التي تقوم على الثراء؛ ما دام البحر مرتبطاً بالنفط وتصديره إلى العالم الصناعي الذي يجلب الأموال والثراء، وهذه اللمسة الجديدة التي لم نكن نتوخاها في القصص القديمة التي كانت توجه لتصف البحر وأهواله وما يتعرض فيه الغواصون إلى المهالك بحثاً عن لقمة العيش في حين ارتبط البحر في هذه القصة وفي كثير غيرها بالنفط وبالبحث عن الثراء والحياة الجديدة المصاحبة له بعد أن انحسرت الهموم التي صاحبت البحر هزيعاً من العصور، وكما صورها عبدالله خليفة نفسه في رواية «اللآلئ» سنة١٩٨٢، التي تعرض فيها بطل الرواية الغواص «مطر» إلى الموت بعد أن أجبره النوخذا «الربان صاحب السفينة» على النزول إلى البحر والغوص للبحث عن اللؤلؤ هو مصاب بمرض خطير في أذنه مما عرضه بالنهاية إلى الموت«٢٠».

وهذه القصة  «الأضواء»  تبدأ برسم ملامح الواقع البحريني المحلي الذي يتجلى في الرطوبة المتأتية من امتزاج حرارة الجو بالمياه الحارة بحيث غدت الصورة وكأنها تجمع بين بحرين محترقين؛ يقول:« وبدا كأن بحراً ثانياً؛ محترقاً يطفو فوق المياه المشتعلة»،«٢١». ومن ثم ننتقل عبر محطة شخصين قد هجرا قريتهما وسارا إلى المدينة بعد أن دفعا، مبلغاً كبيراً من المال حتى يصلا إلى الميناء، فوجدا الكثير من معارفهما وهم يختبئون في قعر السفن مع الحيوانات (الغنم) في محاولة للتسلل والوصول إلى المدن، وهكذا نطالع حسن ومرتضى يجالدان فى الذهاب إلى مدن النفط، حيث الثروة .المال والشراب. وقد وجدا ضالتهما في رجل قادهما إلى ربان السفينة في مقابل مبلغ مالي له ولربان السفينة فنجحا في أن يمتطيا السفينة وقد خُصِّصَ لهما مكان صغير وظلا متلاصقين. وبحركة دراماتيكية تنقلنا القصة عبر وسيلة الاسترجاع إلى ما كان يدور بين حسن ومرتضى عندما كان حسن يحاول إقناع مرتضى بركوب مركب المغامرة «كانا متلاصقين، أيضاً؛ تحت شجرة في ذلك الحقل البعيد حسن الطويل، النحيف، هو الذي كان يجر مرتضى القصير، الهادىء، إلى المغامرة، يصيح فيه أتعجبك العيشة هنا مع الماعز والعجائز حيث لا ثلاجة ولا سينما ولا خمر! هيا أحلم بالمدن الذهبية، مدن النفط، حيث الثروة والنساء والمتع! هيا قم من رقدتك في الروثّ»،«٢٢».

وهكذا عاش مرتضى على الأحلام الوردية التي رسمتها مخيلته بفعل «جعجعة حسن» فإذا هو يتصور رزم المال وقد غزت جيوبه وأحياناً يتصور نفسه «وهو يعود إلى قريته بسيارة جيب متجها إلى بستانه الذي اشتراه»،«٢٣». وظلا يحومان حول العائدين يسألائهم عن الأشياء التي حملوها معهم، ولكن أحلامهما تذهب أدراج الرياح حين يلتفت إليهما ربان السفينة قائلاك «التفت الربان إلى الشابين المحدقين في سراب المياه. وقال: «هيا انزلا! خوضا البحر، إنه ضحل هنا، وتمنياتي لكما بالتوفيق»،«٢٤». وهنا نعود إلى صورة البحر المألوفة والمربطة بالخوف الجاثم على الصدور، بعد أن عدنا إلى عالم الواقع، فهنك خوف من الدوريات التي تصطاد المغامرين وعلى الربان أن ينزلهما في أقرب نقطة قريبة من الشاطئ، وطلب منهما المضي إلى الجزيرة في الليل «في الليل أمضيا نحو الأضواء، سترونها خافتة لكن لا تشعرا بالخوف، المياه ستكون ضحلة والجزر سيتسع، سيرا بهدوء وحذر، ستصلان المدينة، وستعمان بالعمل والثروة»،«٢٥». بيد أن مرتضى وحسن يستسلمان على التوالي لغفوة بين الصخور القريبة من شاطئ الجزيرة ليتفاجآن بالمد الذي حاصرهما من كل اتجاه، وفي ظل هذه المياه المتلاطمة عليهما أن ينظرا حتى اليوم التالي بعد أن حوصرت أحلامهما الوردية وتضاءل بريقها وصارا يصارعان الموج الذي بدأ يفرش سطوته على الأمكنة المتاحة بين الصخور والرمل، بحيث صار هو السيد الماء والآخران يتشبثان الأمل في النجاة وها هي أصابع المياه تلحس أقدامهما، وتحسس مذاق جسديهما، وكأن جيشاً من النمل يندفع في شرايين عود قصب»،«٢٦». وهذا ما يمهد، للنهاية المأساوية التي لقي فيها الاثنان مصرعهما غرقاً في مياه الخليج: «وهذا هو الماء يتذوق صدريهما، ويبقبق حولهما قدرا يطبخ أحياء لمائدة مجهولة، وفجأة تأوه مرتضى واختفى، صاح حسن طويلا ونادى، ولكن الماء وحده، كان يثرثر مع ذاته، ولم يكن ثمة صدى،…»،«٢٧». ونفاجأ بأن حسن في نهاية المطاف أيضاً سيسقط في وسط المياه الغامرة.

هذه النهاية المأساوية ترسم خطاً تصاعدياً لأحداث القصة التي بدأت بالتفاؤل ومحاولة تغير المصير ممثلة بمجاهدة الشابين حسن ومرتضى على تغير الواقع من غير جدوى ولهذا فقد ذهبت محاولتهما أدراج الرياح، بيد أن هذه النهاية تضعنا أمام تشابك لتجليات الواقع البحريني المعاصر، إذ إن موت البطلين مؤشر على انعدام الأمل في الواقع الحالي وأن ما يؤمل للبحر أن يقوم به من توفير وسائل الوفاة والسعادة قد غدا من مرادفات التعاسة في الواقع اليومي المعاش، وهذا ما قد بعد مؤشراً على انحسار الرؤية الإيجابية في الحياة السياسية التي يفقد فيها الإنسان حياته حيال أمله بالتغير.

 وبذلك فقد اشترك البحر والقرية في رسم لوحة فسيفسائية تدل على واقع الإنسان في البحرين ولكنها في الآن نفسه تجرد الإنسان من حقوقه التي يسعى إلى تحقيقها، ويبدو أن الصورة المأساوية التي انتهت إليها القصة الأخيرة «الأضواء» هي صورة مكررة بشكل أو آخر في قصص أخرى من المجموعة القصصية سهرة، ولكنها تدل في الأحوال كلها على العقم والموت والدمار الذي يحيط بالإنسان البحريني المعاصر. ولذلك ألفينا القاص عبدالله خليفة ينزع إلى إشراك مكون آخر غير المكونين السابقين معهما في هذه المجموعة القصصية على الأقل في محاولته تجسيد مكانة البحرين كبلد، وهو السجن كمكان مكرر في قصص المجموعة برمتها، على أساس أن ما تجسد في القرية وفي البحر يفضي إليه، وهذا ما سنتوقف عنده في الفقرة القادمة من البحث.


٣ ـ السجن كمكان فى مجموعة سهرة:


أشرنا سابقا إلى أن شخصية الكاتب عبدالله خليفة تجمع بين المفكر اليساري«*» والأديب القصصي والروائي وقد وصفه بعضهم بأنه المناضل الذي لم يتراجع في كل الظروف عن أفكاره وعن مواقفه، وقاده التزامه بأفكاره التي دافع عنها بشجاعة إلى السجن أكثر من مرة»،«٢٨». فقد انضم إلى صفوف جبهة التحرير الوطني البحرينية في ستينات القرن العشرين ونشط في صفوفها مما عرضه للاعتقال في العام ١٩٧٥، وفصل من عمله الذي مارس فيه مهنة التعليم والتدريس وليخرج من السجن في العام ١٩٨١،«٢٩».

يعود إليه في أوقات متفرقة أخرى، وهذا ما منحه فرصة للتعبير عن عالم السجن كما شاهده وعاشه هو بتفاصيله اليومية والمعتادة، ولا سيما أن بعض كتاباته قد انطلقت من عالم السجن، ومن حيثياته؛ بل أن بعضها قد دونها وهو في داخل المعتقل وعلى أوراق السجائر ومن ثم وصلت إلينا بعد معاناة قاسية كما فعل ذلك الكاتب العربي صنع الله إبراهيم عندما سجل يومياته في السجن بين عامي ١٩٦٢-١٩٦٤،على ورق البفرة بخط منمنم أثناء اعتقاله ونجح في تهريبها معه عندما أفرج عنه«٣٠». تماماً كما فعل كاتبنا عبدالله خليفة الذي وفَّرت تجربة السجن له كرصة لانعكاس حقيقة المجتمع من حيث أوجه الحياة الاجتماعية المختلفة»«٣١»، كما يقول الدكتور سمير أمين وهو ينقل عن الذين كتبوا عن تجربة السجن من الكتاب العرب التي وجدها أكثر صدقاً من التجارب التي كُتبت عن عالم السجن من أناس لم يلجوا هذه التجرية ولم يفهموها حق فهمها.

وقد تغلغلت تجربة السجن بين طيَّات كتابات ألاديب والقاص عبدالله خليفة وتداخلت بطريقة يصعب فصلها عن أفكار قصصه ورواياته في كثير من الأحيان، ولكن المتمعن الذي ينعم النظر بين طيات هذه القصص والروايات يظفر بشذرات من تلك التجربة متغلغلة في تلك القصص، التي دفع من أجلها الكثير ولا سيما عمله وراحته، ولهذا فلا نجد غير قصة واحدة بعينها مخصصة لتجربة السجن في مجموعته «سهرة»، ولكن تجربة السجن تطل علينا في كثير من القصص بهذه المجموعة وفي غيرها من القصص والمجاميع القصصية الأخرى للقاص وهي تشير إلى واقع اجتماعي ربما عاشه القاص وربما سمع عنه من آخرين.

ولعل قصته الأولى «السفر» في مجموعة سهرة من أكثر القصص وأهمها عناية بهذا الموضوع، فالراوي يؤكد في أكثر من مناسبة أن البطل يتعرض لعقوبة السجن ولمدة طويلة جداً تصل إلى خمسة عشر عاماً «خمسة عشر عاما في السجن، لم يبق شيئاً على حاله، تاهت دروب الحارات من قدميه، وسألته العصافير عن جنسيته، بين الجدران، في برميل الزيت المغلي، كان يحلم بالتوغل هنا... أيضاً كان حلمه أن يطير، كالنوارس، بعيداً بعيداً، يخترق جدران البلدان»،«٣٢».

فالبطل يتعرض إلى عقوبة السجن مدة طويلة وهي تجربة مريرة كاد أن ينسى قريته التي تركها بحاراتها وأزقتها الضيقة وكان يأمل في السفر والعيش في أماكن خارج بلده وبخاصة في مدريد أو في غابات أفريقيا أو استراليا بل وحتى في ثلوج سيبيريا وباريس.. إلخ من مناطق العالم، بيد إنه ظل ملاصقاً لجدران السجن هذه المدة الطويلة وهو يعيش مع المساجين ويتعرض لمشاجراتهم ويتعرض خلالها إلى ممارسات رجال الأمن القاسية بقول «خسة عشر ألف مليون شجار وغناء نازف للحنجرة وليل صامت طويل تئن فيه الوسائد، وبصقات وصفعات شرطي صخري يفخر طوال الليل بغزواته للنساء، واليدان ذابتا من الفؤوس والصخور والقيود والأبواب الحديد، وتصير الأحلام مسامير، وتسأل النار: هل من مزيد»،«٣٣».

وكما يبدو فإن البطل وشخصيات القصة جميعا من النوع الكافكاوي الذي يبقى بلا مسميات، إذ يحل الرمز محل الاسم كما فعل كافكا في بعض رواياته. فضلا عن الحدث الذي لامس حدود الرمز ونهل منه، لأن هناك ما يمكن أن نصفه بالرمز العميق الذي أفاد من تجربة السجن التي حلت على البطل وهو يحلم بحلم بعيد المنال بالخروج من المعتقل والعيش في الحي القديم الذي تبدلت معالمه والسفر إلى خارج البلد حيث تحقيق الأحلام الوردية التي كانت تراوده وهناك الواقع الذي يجهض هذه الأحلام ويحد منها.

بيد أنه واجه عالما آخر عندما خرج من السجن؛ يقول: «منذ أن خرج كان الجوع الضاري نزيل جسده كل أهله ماتوا أو اغتربوا، جاء هنا وسكن غرفة رخيصة شاركته فيها فئران سمينة ومومس عجوز»،«٣٤». فرحلة العذاب مستمرة سواء أكان في السجن أم في خارجه، إذ إنه لم يستطع تحقيق ما كان يصبو إليه؛ وهو بين جدران السجن وعندما خرج ظل يدور في الحلقة ذاتها بلا هدف مع أن لديه كنزاً مدفونا بجدران بيته القديم، ولا يستطيع إخراجه، ولكننا نفاجأ بأن زوج المرأة استطاع الاستحواذ على الكنز والهرب به خارج البلد. وفي هذا دلالة عميقة على كون الزوج الغريب ممثلا للاستعمار الغربي الذي يحقق طموحاته بالإستحواذ على خيرات الآخرين ونهبها بطريقة لا تخدم أبناء البلد۔

وفي ضوء ذلك فإننا يمكن أن نطلق على هذا النمط من القصص بقصص الواقعية الرمزية الذي تضمر فيه القصة أشياء وتبوح بأخرى، وقد حاول الراوي أن يرسم معالم القضية المطروحة أمامنا من خلال امرأة استطاع هذا السجين أن يتزوجها وهي أم لطفلين، وهما ــ فيما نرى ــ شقا المجتمع البحريني السني والشيعي، وأن زوجها السابق قد ظفر بالكنز المدفون في جنبات حيطان البنت القديم وهرب إلى الخارج وحين سألها عن ذلك الأب الغائب المسافر الذي لا يرجع: «ضمته إليها وقالت (لا أعرف ماذا حدث له؟ ذات يوم رأيته يعثر على شيء في الجدار المتساقط صمت يوما كاملا، ثم زعم أنه سوف يسافر لزيارة قريب له، بعد أن أغلق الباب وراءه لم أره بعد ذلك أبداً. سمعت .مراراً عنه. قيل إنه مرة في الشرق ومرة في الغرب. لا أدري ماذا جرى له... لماذا تسأل؟)»،«٣٥». وعند ذلك نكون إزاء تجربة جديدة لم نستطع أن نكتشفها منذ الوهلة الأولى؛ إذ غدت الأحداث تنجر وراء هم سياسي حاول القاص أن يخفيه عن الأنظار، لأن هناك معادلة يشترك فيها السجين الحالم والمرأة المتزوجة التي يهرب نزوجها والتي نتزوج من السجين وولديها والمرأة المومس وكلها تقضي إلى هم سياسي يحيط بالبلد. وعندها نستطيع أن نلم شعث القضية من خلالها بكون البلد يتعرض إلى دسائس المتسلطين والمستعمرين الذين يسرقون قوت الإنسان وكنوزه المخفية والظاهرة ومن ثم يتركون الإنسان العادي يعاني الويلات.

وإذا كانت القصة الأولى في هذه المجموعة تقوم بكاملها على تجربة السجن فإن هناك من قصص هذه المجموعة من أشارت إلى تعرض بعض الأشخاص إلى تجربة السجن أيضاً، وذلك ما ألفناه في القصة الثانية وهي قصة «سهرة» التي  أخذت المجموعة القصصية تسميتها منها، وفي ذلك دلالة على أهميتها بين قصص المجموعة. إذ نجد أن البطل يدخل السجن أيضا لسبب بسيط، وهو أنه لا يمتلك ثمن ما احتساه في البار ولكنه ينقل تفاصيل دقيقة عن عالم السجن يقول: «أفضل مكان يقضيه العاطل زنزانة صغيرة محترمة تتحقق فيها الشروط التالية: الأكل المنتظم، الأصدقاء المرحون، الشاي، السجائر، قطعة صغيرة جداً من الشمس»،«٣٦». فهو يضع أمامنا التفاصيل الدقيقة للعش في دهاليز السجن وهي لا تفتح إلا لمن عاش التجربة وعانى منها معاناة حقيقية.

إن توجه هذه القصة لا يختلف عن توجه القصة السابقة لولا أنه يقوم على أربعة مفاصل ــ كما يلوح لنا ــ هي البطل وصديقه الشاعر الممثل لتوجهات المناضلين والمرأة العجوز الممثلة للبلد وزوج العجوز المثل للاستعمار الأمريكي، والبطل يصل إلى نتيجة مهمة وهي الموت منتحراً بعد أن بلغه العجز التام عن المواجهة، وبهذا تغدو هذه التجرية التي لمسنا بعض تجلياتها المحلية واليومية ممثلة للهم السياسي الذي يعبر عنه الأديب بشتى الصور والأساليب. كما يغدو السرد في هذه القصة ممثلا لمحور مركزي من محاور الجدل الثقافي وأداة للكشف عن ما هو مغيب ومسكوت عنه في حياتنا وثقافتنا«٣٧». كما يقول الناقد فاضل ثامر وهو بصدد كشفه عن الأساليب والصور المسكوت عنها في السرد العربي وقد وجد منذ البداية أن «الكتابة القصصية هي مثل جبل الثلج لا يظهر منه إلا جزة بسيط، أما الجزء الأعظم فيظل غير ظاهر، مغموراً في الماء، فإن الجزء الغاطس أو المغيب في الخطاب الروائي يمثل نصاً غائباً أو موازياً للنص الظاهر لا يقل أهمية وتأثيراً عن النص المكتوب »،«٣٨». وذلك ما كشف عنه تودوروف منذ وقت مبكر عندما أشار إلى «أن ثمة عناصر غائبة عن النص وهي على قدر كبير من الحضور في الذاكرة الجماعية لقراء عصر معين لدرجة أننا نجد أنفسنا عملياً بإزاء علاقات حضورية»،«٣٩». وهذا ما يمكن إثباته في سرد عبدالله خليفة ولا سيما في قصة «سهرة» على نحو خاص؛ التي يغدو المغيب فيها أكثر تأثيراً من الظاهر ولذلك فكلام الناقدين تودوروف وفاضل ثامر ينطبق عليها تماماً.

ومن هنا فإن هذه القصة تمثل عينة من عينات السرد البحريني المعاصر المرتبط بالقضية السياسية، بصفة خاصة والمميز من بين السرود الخليجية التي تهتم بالجانب السياسي وتتوقف عليه، على اعتبار أن السرد البحريني أكثر السرود الخليجية اهتماما بالنزعة السياسية بمحاولته تجسيد هذه النزعة بقالب فني بعيد كل البعد عن العرض الفج، ولذلك فهذا السرد لا يكشف عن نفسه إلا بعد تمحص وتفكر غائصين في تلابيب العمل الفني.


الخاتمة ونتائج البحث :


يمكن إجمال أهم النتائج التي توصلنا إليها في أثناء البحث بالنقاط الآتية:

١ ــ  ارتبطت الأمكنة المذكورة بقصص مجموعة «سهرة» بمكان ولادة القاص ومرتع صباه، وقد انطلق تعبير القاص عن الأمكنة المتعددة في قصصه من مكان واقعي عاشه الأديب ومن ثم عبر عنه في قصصه.

٢ ــ رسم القاص ﻋﺒدالله خليفة لوحة لقريته، لتي عاش فيها، طفولته في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين.

٣ ــ عبر القاص عن توجهات الطبقة العاملة والكادحة في البحرين، ولا سيما طبقة العمال والكسبة وطبقة الكادحين العاملين في البحر.

٤ ــ تمكن القاص من التعبير عن البحر بوصفه مرتبطاً النفط بعد أن كان مرتبطاً بالغواصين ومنقذاً لهم من الجوع فحسب. وتلك نظرة جديدة اختلفت عن نظرة الكتاب البحرينيين الذين كانوا ينطلقون في وصفهم للبحر من شدة بأسه ووطأته على الغواصين الذين كانوا يتعرضون للويلات والمصائب من جراء عملهم فيه لكسب قوت يومهم، في حين جاء التعبير عند القاص عبدالله خليفة ليكشف عن عالم النفط والبترول.

٥ ــ  انطلق الكاتب من نظرة كافكاوية في وصفه لكثير من شخصياته التي تعرضت لنكبة السجن؛ فلم يذكر أسماءها وتحدد بصفاتها فحسب.

٦ ــ عبر الكاتب عن التجربة التي عاشها وخاضها في السجن بالفن القصصي فنقل لنا تفاصيل دقيقة عن هذا العالم الذي يفقد فيه الإنسان صفاته وسماته ويتحول لكائن يجالد لأن يعيش.

٧ ــ  استغل لكاتب ما دار في واقعه المعاش أداة للتعبير عن الهم السياسي برمزية واضحة، وقد عرض عن طريق ذلك لأهم ما عانت منه بلاده في العصر الحديث الممثل بتسلط المستعمر من جانب وانشقاق أهل البلد بين طائفتين متناحرتين من جانب آخر.


الهوامش:

ـــــــــــــــــــــــــ

E-mailsabah.Albasher@uobasian.edu1g

١ـ تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي: ٢٥۲.

٢- كلمات من جزر اللؤلؤ ـ دراسة في أدب البحرين الحديث - أحمد محمد خليفة: ٦٣.

٣ - ينظر القصة القصير في الخليج العربي الكويت والبحرين، د إبراهيم غلوم :٦١٠.

٤ - رحيل عراب الرواية البحرينية عبدالله خليفة: جعفر الجمري ، جريدة الوسط العدد ٤٤٢٨ الثلاثاء ٢١ أكتوبر ٢٠١٤.

٥ - رحيل عراب الرواية البحرينية عبدالله خليفة: جعفر الجمري ، جريدة الوسط العدد ٤٤٢٨ الثلاثاء ٢١ أكتوبر ٢٠١٤.

٦ - رحيل عراب الرواية البحرينية عبدالله خليفة: جعفر الجمري ، جريدة الوسط العدد ٤٤٢٨ الثلاثاء ٢١ أكتوبر ٢٠١٤.

٧- ينظر كلمات من جزر اللؤلؤ ح دراسة في أدب البحرين الحديث أحمد محمد خليفة؛ ١١.

-٨ عبدالله خليفة؛الكتابة سجل للاعتراف: فيصل عبدالحسن، مجلة نزوى على الموقع الالكتروني؛ com nizwa.

۹ - سهرة عبدالله خليفة: ٥.

١٠ - كلمات من جزر اللؤلؤ  دراسة في أدب البحرين الحديث أحمد محمد خليفة؛ ٦.

١١ - تمظهر التجديد في بنية السرد في القصة القصيرة ١٧ - ١٨.

١٢ - سهرة عبدالله خليفة: ٢١.

١٣- سهرة عبدالله خليفة:٢١.

١٤- سهرة عبدالله خليفة: ٢٣ -٢٤.

١٥ - الأيديولوجية في الرواية؛ عبد الجليل الأزدي ، م؛ علامات ع(٧) ١٩٧٧: ١٠٣ -١٠٤.

١٦ - ينظر المرجع السابق؛ ١.٤-١.٥.

١٧ - ينظر ما قالته النخلة للبحر .

٨ا - ينظر ما قالته النخلة للبحر .

١٩- سهرة عبدالله خليفة: ٣٣.

٢٠- كلمات من جزر اللؤلؤ  دراسة في أدب البحرين الحديث أحمد محمد خليفة؛ ١١٥.

٢١- سهرة عبدالله خليفة: ٤١.

٢٢- سهرة عبدالله خليفة:٤٤.

٢٣ - سهرة عبدالله خليفة:٤٤.

٢٤ - سهرة عبدالله خليفة:٤٤.

٢٥- سهرة عبدالله خليفة:٤٣.

٢٦ - سهرة عبدالله خليفة:٤٥.

٢٧- سهرة عبدالله خليفة:٤٥.

٢٨- القائد والمناضل عداش خليفة مفكراً وأديباً وروائياً بحرائيا isalbunasablog.wordpress.com

* يشترك كثير من أدباء البحرين ومثتقفيها بهذا الفكر في الشعر والنثر، ولا نبتعد في هذا الصدد عندما نشير إلى الأدباء في البحرين.

٢٩- القائد والمناضل عداش خليفة مفكراً وأديباً وروائياً بحرائيا .

٣٠- أدب السجون، تحرير شعبان يوسف: ١٥.

٣١- أدب السجون، تحرير شعبان يوسف: ١٥.

٣٢- سهرة عبدالله خليفة:٥.

٣٣- سهرة عبدالله خليفة:٦.

٣٤- سهرة عبدالله خليفة:٧.

٣٥- سهرة عبدالله خليفة:٩-١٠.

٣٦- سهرة عبدالله خليفة:١١.

٣٧ -ينظر المقموع والمسكوت عنه في السرد العربي:٥.

٣٨ -ينظر المقموع والمسكوت عنه في السرد العربي:٩.

٣٩-الشعرية:٣٠ـ٣١.

مصادر البحث ومراجعه :

١- الإيديولوجية في الرواية؛ عبد الجليل الأزدي ، مجلة علامات،ع (٧) ١٩٧٧، مكناس، المغرب،

٢- أدب السجون: تحرير، شعبان يوسف، وزارة الثقافة، الهيئة المصرية العامة للكتاب٢٠١٤. ٣-سهرة مجموعة قصص؛ عبدالله خليفة، توزيع المركز الثقافي العربي، بيروت - الدار البيضاء.

٤- رحيل عراب الرواية البحرينية عبدالله خليفة؛ جعفر الجمري ، جريدة الوسط العدد ٤٤٢٨ الثلاثاء ٢١ أكتوبر ٢٠١٤.

٥ - تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي؛ د، يمنى العيد، دار الفارابي، ط (١) بيروت لبنان ١٩٩٩.

 ٦ - تمظهر التجديد في بنية السرد في القصة القصيرة؛ نجاة صادق الجشعمي، نشر مركز الوطن العربي (رؤيا) والعنوان للنشر والتوزيع - الشارقة، توزيع مركز الحضارة العربية ، القاهرة ٢٠١٨. ٧ - الشعرية: تزفيطات تودوروف، ت: شكري المبخوت ورجاء بن سلامة، دار توبقال للنشر، المغرب ١٩٨٧.

 ٨ - عبدالله خليفة؛ الكتابة سجل للاعتراف؛ فيصل عبدالحسن، مجلة نزوى على الموقع الالكتروني : 

٩ القائد والمناضل عبداش خليفة مفكرأ وأديأ وروائيأ بحرئيا ess.com .wordpr isaalbufasablog 

١٠ - القصة القصيرة في الخليج العربي الكويت والبحرين؛ د، إبراهيم غلوم، دار الحرية للطباعة، بغداد ،١٩٨٨.

١١ - كلمات من جزر اللؤلؤ  دراسة في أدب البحرين الحديث أحمد محمد خايف، الهيئة المصرية ١٩٨٨.

١٢-  ما قالته النخلة للبحر، دراسة في لظواهر القية لشعر البحرين المعاصر علوي الهاشمي، دار الحرية للطباعة والنشر، بغداد ١٩٨٦. 

١٣ - المقموع والمسكوت عنه في السرد العربي؛ فاضل ثامر، دار المدى للنشر للثقافة والنشر - بغداد، ٢٠٠٤.

 الأمر لا يقتصر على هذه القصة فحسب وإنما ينسحب إلى كثير من قصص المجموعة القصصية برمتها، في قصة «قبضة تاب» على سبيل التمثيل تطالعنا القرية نفسها التي أشرنا إليها في القصة الأولى، يقول في مستهلها أيضاً:؛ كانت زرقة السماء مشوبة بنور فضي شفاف وثمة عصافير تشاجر في دغل مهجور، كان الطريق إلى المدرسة ترابياً؛ متعرجاً، بين مستنقعات آسنة، من بقايا المطر، وأكوام أنقاض.»«١٢». فالقرية التي طالعتنا في القصة الأولى هي نفسها في هذه القصة تماماً بحيث نستطيع أن نرسم معالم القرية الواحدة من التفاصيل التى أوردها القاص في كلتا القصتين كثير .من التروي. فالطريق 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رواية «الأقلف» محاولة لتشكيل عالم مختلف