يقظة غريبة : مسرحية من فصل واحد ـ لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

المسرح في حالة اظلام وهدوء عميق، تمر بضع لحظات ثم نسمع سعالا وحركة اقدام وتأفف، ثم صوت رجل واهن.

الرجل: من هناك؟ من هناك؟

دبيب الأقدام يقترب. الظلام لا يزال جاثماً. نلمح شبح رجل ينزل سلماً ونسمع خطواته البطيئة المتثاقلة. ينزل إلى المسرح ويقترب من الباب.

الرجل: آثمة احد هنا؟

الصوت: بشكل عادي وطبيعي افتح بسرعة!

الرجل: يتراجع خائفاً من أنت؟

الصوت: افتح ليس هناك وقت!

الرجل: ماذا تريد؟ أفي مثل هذه الساعة تطرقون الأبواب على الناس. أليس ثمة تقدير للنيام؟ (لنفسه) كم الساعة الآن؟ إنها الثالثة. لم انتبه لفاتن، هل كانت موجودة أم لا؟ منذ أن اختارت لنفسها غرفة لوحدها وانا اجهل مواعيد دخولها وخروجها. (بصوت اعلى) هل لازلت موجودا ايها الرجل؟ ربما كان احد السكارى ضل طريقه في الحارات المتشعبة، او هو شاب يافع قوي يطمح إلى اللذة.

الحارة الآن امتلأت ببيوت اللذة. لم اكن أتصور ان بائعة الباقلاء صالحة تدير بيتها لتلك العملية الغريبة. من يصدق؟ صالحة؟ ثلاث مرات ذهبت الى الديار المقدسة وفي النهاية اكتشف انها تدعو بعض أصحاب السيارات الفارهة للركون قرب بيتها إذا جن الليل؟!

لا شك أن الرجل هو من هؤلاء الغرباء الذين يجهلون طرق المدينة المتعرجة، ولكنني مع ذلك سمعت صوته وسمع صوتي، ثم واصل النداء كأن شيئاً لم يتغير.

آه.. ذهبت الرجولة، غاصت في المياه مع أيام البحر القديمة، وصارت أبواب البيوت مشرعة في ظلمات الليل.

  (يصرخ) هل هناك احد؟

الصوت: الا تريد ان تفتح؟ بدلا من هذه الثرثرة ، افتح الباب وتكلم معي قليلا...

الرجل: (لنفسه) أنه ما زال هنا... (يقترب) من أنت يا سيد؟ وماذا تريد؟

انني لا استطيع ان افتح لكل طارق، ألم تسمع عن الحوادث الأخيرة؟ امرأة فتحت الباب وأكلوا جسدها. رجل فقير فتح الباب واختفى إلى هذا اليوم. امرأة اجنبية غازلها أحد المارة فقلبت الدنيا... إنني لا أعرف القراءة ولا ادمن مطالعة الجرائد غير انني دائم الجلوس عند دكان أحمد الأعمى. إن مجموعة من رجال كبار في السن تجتمع هناك وتحصد الأخبار. زوجاتهم يجمعنها في النهار وهم يحصلون عليها في الليل، وفي هذه الاثناء تكون قد كبرت كثيرا بسبب الأرق الطويل وبرودة الفراش.

 (لحظة) ألا زلت هنا؟

الصوت: هل تستمر طويلا في هذا الموقف، سأكسر الباب...

الرجل: لقد احتطت لذلك. بعد ان سمعت تلك الأخبار غيرت باب بيتي. انه من الحديد الثقيل، وليس له سوى مفتاحين، الأول عندي والآخر عند زوجتي فاتن...

ان صوتك لا يشبه صوت احد ابنائي ولا حتى أصدقائي... سأذهب لإشعال النور وقد افتح الباب لرؤية هذا الرجل الثقيل الذي أيقظني في عز نومي. وانا رجل نومي قليل جدا، خصوصا بعد ان هجرت فاتن الفراش وتركتني اتقلب فيه وحدي. ماذا  تقول؟ صوت شخيرك يقلق منامي. رائحتك كريهة. انت تهذي ليلا وتكلم نفسك طويلا. لقد خرفت! انني لا اريدك .  اخرج من هنا !

آه غيرت كل تلك الكلمات الناعمة التي كانت تدغدغ سمعي بها. أيام ما كانت غضة، لم تتفتح على مزابل المدينة بعد...

يصعد الدرج. يضاء المصباح. (الان نرى المسرح بوضوح تام) في مواجهة الجمهور ثمة غرفة مخزن قديمة، وقربها السلم الذي يصعد الطابق الأعلى. على يمين المسرح الباب الصلد الذي لا نرى ما هو خلفه. بعد لحظة ينزل الرجل. أنه كهل. اثقله الزمن واحناه وشيب رأسه وملأه بالتجاعيد.

الرجل: (باستغراب) ما الذي دعاني الى النزول هنا؟ ماذا حدث؟ هل كنت اريد شيئا من المخزن أو كنت انتظر فاتن... لا: تذكرت، ثمة شخص كان يناديني هنا، صرخ بأعلى صوته كي افتح . (بصوت عال) أيها الرجل أين أنت الآن، هل ما زلت واقفا؟ لعله كان يريد أن يحذرني من شيء. هل حدثت لأولادي مصائب جديدة؟

أين ذهبت فاتن؟ الساعة متأخرة كثيرا... (بانهيار) الا تحترم شيخوختي ورجولتي ابدا.

بعد أن ماتت زوجتي السابقة قال لي سالم ابن احمد الاعمى: لماذا لا تتزوج؟ فقلت له: ومن التي تريدني وأنا في هذه السن؟ قال: كثيرات يردن دفء رجولتك. ضحكت. المرأة التي في الأربعين تتعوذ من الشيطان الرجيم إذا رأتني في الصباح. رد علي: ستذهب الى بلدة بعيدة، وهناك سترى الفتيات كالأرز والمهم هل تستطيع ان تدفع أم لا؟ هو متزوج من فتاة صغيرة كالقمر مع ان شكله يشبه الغوريلا. اقنعني سالم تماما. كان لدي الكثير من ذهب المرحومة ومالها، كانت تخبئه في ذلك الصندوق الذي طالما رمقته بإعجاب وافتتان. ظهرت لها أرض وباعتها وخبأت نقودها في ذلك الصندوق معتقدة انه اكثر امنا من بنوكنا الحديثة. لم احتج الى وقت طويل كي آخذ جزءا من محتوياته. ليس من المعقول أن أترك كل تلك الثروة تذوب في ذلك المكان المهمل. ولم يكن اولادي الثلاثة بحاجة الى كل ذلك المال وهم في أعمارهم الصغيرة. عشر سنين، وإحدى عشرة واثنتا عشرة سنة... إعمار غضة ماذا ستفيدها النقود؟ عندها ذهبت الى تلك المدينة الكبيرة البعيدة يقودني سالم ابن الأعمى... ما اجمل ما رأيت! بنات بعمر الورود يرتمين تحت اقدامك. حدائق وكازينوهات تمتلئ بالنساء، مطاعم ذات اكل شهي، شقق عامرة بالحسان والدخان المسكر وكل ما ترغب فيه... ولكنني تجنبت الحرام. قلت لسالم انني لن استطيع مجاراتك فيما تفعله. فبغيتي الحلال أين هو؟ قال: سأعطيك من الحلال الممل حتى تتقزز والآن عليك بالحرام! لم اقترب من ذلك أبدا...

الصوت: الا تريد ان تفتح؟

الرجل: أنت ما زلت هنا؟

الصوت: لم اتحرك ابدا. سوف الجأ لوسائل اخرى كي تفتح!

الرجل: قل لي من انت وانا ارى وجهك الكريم بعد دقيقة. ها هي المفاتيح في يدي! واذا رفضت انتظر الى الصباح.

الصوت: هيا افتح!

الرجل: سأفتح قلبي تماما. في الحقيقة انني اقتربت من الحرام، بل وكثيرا. أنني لم أعاشر زوجتي السابقة المرحومة إلا قليلا في سنواتها الاخيرة. كانت طريحة الفراش دائما. كتلة من العظام وبرك الدم والعمليات التي لا تنتهي. لم اكن مرتاحا منها ابدا. انني لم اذق امرأة. كنت دائما أحلم بفتاة صغيرة حلوة، تعطي شيخوختي دفئا ووهجا. وهي تحتضر امسكت يدي وصرخت: وصيتك العيال... لكنني وجدت نفسي فجأة في شقة عامرة بوسائل المتع ورأيت فاتن هناك طفلة خجولة قادمة من ازقة عامرة بالفقر. ليديها مخزون من الكلمات النابية والفاجرة إلا أنها كانت رائعة تماما. أعجبت بها. احببتها، لم ارد ابدا ان تذهب ... قال لي سالم وهو يضحك: على بركة الله! حلفتها على القرآن ألا تنسى اخطاءها فحلفت (يصرخ) حلفت وكانت كاذبة! يا لذلك الجسد الصغير الابيض الناعم الذي تضمه اليك وكأنه طفل يستحق كل رعاية وحنو. من لا يعطي للوردة حنانه؟ من يصرخ في وجه النسيم؟

جاءت الى هنا، الى هذا البيت فتغير تماما. جعلت الطابق الأعلى يغدو وكأنه جنة صغيرة. كانت نشيطة جدا في ايامها الاولى داخل البيت. كنت اترنح من الفرح واللذة. سنوات سنوات مرت وأنا كالعكاز الذي يصطدم بأحجار الطريق وليس له من مهمة سوى الانغراز في الأرض. سنوات وسنوات وأنا كثور الساقية المعصوب العينين الذي يملأ الحقول بالماء وهو يدور في الظلام والفراغ. وفجأة كأنه يطلق في الحقول الواسعة والبراري التي تحيط بها الآفاق. يا لفاتن ويا لذات الفرح الذي منحته! رحت اتعلم اللغة من جديد. تحولت الى طفل... ولكن ما أسرع ما تغير كل شيء. رأيت نفسي في المرآة وأنا عجوز تماما، من مخلفات  الحرب العالمية الأولى، اما هي فتقفز وتنط  كالغزالة. وانا اتمخط  واسعل دائماً، وهي متفتحة كالوردة. وسرعان ما لاحظت أن ثمة شبانا صغارا  معنا في البيت. كانوا يتطلعون بشغف الى الجسد الصغير. يمسكون ملابسها الداخلية وهي تنشر فوق حبل الغسيل. ينتظرونها حتى تخرج من الحمام. ولا ادري ماذا كانوا يفعلون في غرفة نومهم واحلامهم؟! كنت أذهب إلى العمل وافكر فيها وفيهم. لو أن أحدهم رجع من المدرسة واختلى بها؟ شعرت بالسعادة لأنها راحت تبدى استياء ما لوجودهم. لكنني لم أعلق في بادئ الأمر. تمادت في الاستنكار لوضعهم الغريب فعلا في البيت. ومرة سمعتها تتشاجر مع احدهم لأنه كان يتمضمض بصوت عال! وتدخلت عندما حاول آخر أن يجبرها على أن تصنع له العشاء. صرخت في وجهه: اذهبوا من هنا... لقد كبرتكم وعلمتكم فماذا تريدون أكثر من ذلك... حلوا عني بوجوهكم! واستغربت لان الثلاثة تجمعوا حولي كعصابة صغيرة مخيفة. لقد كبروا وانتبهت الى نموهم الغريب والخطير في داري. راحوا يصرخون في وجهي جميعا: نريد نقود امنا، لقد سرقت أموالها وبعثرتها على الراقصات! شعرت بغضب كبير. كيف يتجرؤون على اتهامي مثل هذا الاتهام الفظيع. صرخت فيهم بدوري: كل شيء في هذا البيت لي أيها المجرمون ... اذهبوا من هنا، اخرجوا، لا اريد ان اراكم هنا ابدا... ولم يصمتوا، كانوا يحقدون على فاتن كثيرا جدا، ربما لأنهم لم يحصلوا عليها! هتفوا: سوف تغدر بك تلك الافعى. انها تغازل الجميع! لم اتحمل تلك الكلمة. أية إهانة وجهوها لزوجتي! اشرت الى الباب زاعقاً: اخرجوا... لكنهم لم يخرجوا. نزلوا هنا، وفتحوا باب هذا المخزن وجلسوا.

لم تسكت فاتن على الاتهام الفظيع. زلزلت المكان من الصراخ. لا اريدهم في بيتي! لا اود ان اراهم ثانية... لو كان زوجي رجلا آخر لطردهم وحرمهم من الميراث. ولكن ماذا افعل مع رجل عجوز ضعيف يتجه الى التخريف! ومن اسفل السلم كانت أصواتهم تجئ: انها هكذا دائما تريد ان تتخلص منا. نريد أموال امنا ثم نذهب. زواجك هذا كله قائم على ذهب امنا! لم احتمل الوقاحة التي بلغت هذه الدرجة. صرخت: اية أموال هذه... هل تركت كنز قارون لأغرف منه حتى الآن؟ أعطتني مصباح علاء الدين وساحره؟ امكم كانت سلسلة من الأمراض والمصروفات والعمليات الجراحية والوساوس، امكم ماتت وفي ذمتها لي الكثير، يوم القيامة سنتحاسب... أما أنتم فليس لكم شيء، اصبحتم رجالا، الأول في الثانوي والأخير في الاعدادي والصغير في الابتدائي... لقد اكتملتم فاذهبوا عنا ودعونا نتمتع بحياتنا...

 (بهدوء) ولكنهم لم يتركونا نتمتع. ظلوا في هذا المخزن الذي حولوه الى غرفة مستغلين بعض الصناديق والاخشاب العتيقة.

 (يصمت وبلهجة مغايرة) يا لفاتن ويا لتلك اللذة التي خلقتها، ربيع كامل مر كالحلم. دغدغة جناح عصفور على وجهي. لكن سرعان ما انتهت. العجوز ينتبه الى انه عجوز في حضرة طفلة لاهية متأججة الرغبات والمطالب... تريد سفينة لتتجول في البحر! تريد أن تسافر لتشتري كومة من الفساتين. تريد كل الأجهزة التي تظهر في التلفزيون... كل تلك الأموال التي تركتها زوجتي السابقة راحت تذوب بين اصابعها اللاهية. قلت لها لم لا تنجبين، لقد صرفت عليك كثيرا وانت ترفضين الحمل. لم تكن تجيب فتتركني في دوامة. ولكنها مرة قالت: ماذا تريد بالأطفال، انت رجل عجوز بينك وبين القبر خطوة واحدة. عندما تموت سأتحول إلى متشردة! اندفعت الى مراضاتها بكل شيء لم تقبل بل وراحت تبتعد عنى وتنام في مكان آخر... جن جنوني، انني لا استطيع ابدا أن أعيش وهي بعيدة، لا اتصور ان احرم من لمس بشرتها وسماع صوتها، قلت لها سأفعل كما تريدين، فماذا تريدين؟ أجابت: اكتب البيت بأسمي فكتبته. اندفعت كالمجنون وفرحت كثيرا بأنها لن تصبح مشردة ابدا. لكن الأولاد غضبوا وثاروا. لا اعرف كيف علموا ولكنهم أحاطوا بي مرة أخرى وراحوا يصرخون: ماذا فعلت بنا ايها المجنون؟ هجموا عليّ وكادوا يضربونني تصور لقد ارادوا ان يقتلوا اباهم. لم يفكروا الا في انفسهم، لم يفكروا انني بحاجة الى طفل صغير يملأ عليّ البيت. الى رباط يشد أمه الىّ، تلك القطعة الهاربة من لحمي. كل العيون تطالعها، تبحلق فيها، والافواه تتأوه... يتطلع اليّ بإشفاق واشمئزاز وسخرية. مرة تقدم احدهم منى وطلب يدها! 

وأولئك الأبناء لم يساعدوني. كادت أيديهم ان تمتد الى الرجل الذي اعطاهم دمه وعمره.

ضجت زوجتي لأجلي أيضا. بل ربما صرخت اكثر مني، ووقفت في الشارع ونادت الناس قائلة: إنهم يريدون قتل ابيهم. وخرج الثلاثة من البيت وهم يبكون ويضجون بالصياح. ماذا افعل لهم؟ هم الذين أرادوا أن يتشردوا ويضيعوا. سمعت فيما بعد انهم ناموا في خرابة بضعة أيام، ثم ذهبوا عند أحد أصدقائهم. ومنذ خرجوا من عندي بدأوا ينحرفون، منذ ان ابتعدوا عن تربيتي فشلوا في حياتهم. أحدهم بدأ يغرز الابر في جسمه. آخر تحول الى لص محترف. والثالث الى انسان غريب يلعن كل شيء. ورغم انني طلبت رجوعهم فلم يأبه أحد منهم. ذهبت إلى غارز الإبر في السجن فلم يكد يعرفني. اللص رفض مقابلتي. أي حقد صار يتملكهم ضدي؟ (بصوت اعلى) هل انت أيها الرجل مرسل من قبلهم لتنقذني أو تقتلني؟

لماذا لا يأتون  اليّ...؟ هذه الفتاة سلخت جلدي. ارتني نجوم الظهر. اعطيتها البيت لكنها لم تحمل. جلست معي في الفراش بضعة أيام ثم هجرتني مدة طويلة رهيبة. لا تكنس. لا تطبخ. لا تتكلم. فقط تتطلع من النافذة الى المارة وتتصل بالتلفون الى اشخاص لا اعرفهم. اندفعت إليها مرة وكدت اضربها ولكن اتضح ليّ انها تملك قوة اكثر مني. صرخت: لماذا لا تذهب إلى القبر، الابد من أن تأخذنا معك؟  قلت لها ماذا تريدين، انني مستعد لأعطيك الشمس والقمر. ضحكت. قالت: ماذا بقي لديك الآن... كلها بضعة أيام وتحال الى المعاش... وفعلا احلت الى المعاش، اخذت نقودي ووضعتها في البنك. قلت  ستكون هذه هي زادي الأخير.  لكن المرأة طلبتها مني. أرادت أن تأخذ كل ذلك الزاد وبوقاحة غريبة. تقول: ماذا ستفعل بهذه النقود أيها العجوز؟ هل تريد ان تمتص الدنيا إلى آخر قطرة فيها؟! صرخت فيها. فكرت بأن أطلقها واسترد بيتي. لكنني لم اجرؤ. انها لو تنزل الى الشارع ونادت أي شاب لأسرع إليها. لقد هجرتني طويلا طويلا. تعذبت. سرت وانا نائم. كلمت القطط والجدران. اندفعت إليها وقبلت أصابع قدميها. رفستني. بصقت في وجهي. بكيت. انا الكهل المثقل بالعمر والسنوات رحت ابكي. تصرخ: لقد اقرفت عيشتي! ذهبت إلى سالم الذي طالما اتصلت به ووسطته فنصحني بإعطائها رصيدي في البنك. فلم استطع الا ان اسلمها اغلبه. يوم ذاك احتضنتني وقبلتني، نامت معي، قالت انها ستنجب مني. وقد ادركت ان حبي لها حقيقي وعميق، انها كانت محقه في رفض كل الشباب الذين أرادوها. نمنا بضعة أيام في العسل وسرعان ما عادت إلى سيرتها الاولى. هجرة وصمت واستهزاء... وحينئذ أيضا راحت تختفي في الليل، عدت مرات لم اعرف كيف اختفت، ولكن بعد ذلك رأيت السيارة تقف عند الباب وهي تنزل إليها مضمخة بالعطور ومزدانة بأجمل الفساتين، تفتح باب السيارة وتضحك، في مقعد السائق تجلس امرأة اخرى، لكن بعد هذا رأيت رجالا!

آه.. لقد كبر همي! وعندما رأيت سالم ابن الأعمى هو الذي يقود السيارة في أول مرة جن جنوني، اندفعت اليه وصرخت، اردت ان اضربه، فالقاني بعيداً، فوق الأرض الصلبة، واندفع بالسيارة قربي فرأيت عجلاتها وهي تحفر الأرض تغطيني بالتراب...

ذهبت الى اولادي علهم يساعدوني ولكني وجدتهم بحاجة الى المساعدة. الأصغر في السجن، جسمه يرتعش ويهتز من اجل ابرة. يصرخ بي: احضر لي حبوبا في المرة القادمة وسوف اسامحك! الأوسط يجلس في مقهى في حي قذر بين اصحاب السوابق وحينما اتكلم يعلق مع اصحابه عليّ ويغرقون في الضحك! الأكبر هو الوحيد الذي يصغي الىّ ويحبني. لقد اشتغل ويسكن غرفة وحيدة ويقضي اغلب وقته وحيدا مدمنا على التأمل. أقول له: لا تفكر كثيرا، لا تحزن طويلا، انت شاب وأمامك مستقبل كبير... انطلق في دروب الحياة الواسعة واجتهد، لكنه لا يتكلم، يبتسم ابتسامة غريبة ويظل غارقا في الصمت لساعات... في بيتي اظل وحيدا اكلم الاشباح، انتظر فاتن طوال الليل دون ان تأتي الا في لحظاته الأخيرة، مع اشعاعات الفجر الأولى، تغني، سكرى، اندفع اليها، احاول ان اضمها، تطردني، تغلق الباب بحدة.

قلت لها ذات ليلة: سوف اطردك من بيتي، سوف تندمين. فتضحك بشدة. تقول:  أنا التي كان ينبغي ان تطردك ولكني أشفقت عليك فحسب. أما الآن فاحمل متاعك واذهب. لم يعد لك مكان هنا ولا أهمية!

ثم راحت تلح عليّ يوما بعد يوم للخروج. تصيح: اخرج من هنا! لا اريدك في بيتي... ذهلت. أصبت بصدمة شديدة. اندفعت إلى أحد المحامين عساه يجد لي حلا فابتسم الىّ معتذر!

ذات مساء احضرت اصدقائها الى بيتي. مجموعة كبيرة من الرجال والنساء راحوا يغنون ويرقصون ويشربون من زجاجات كثيرة ملأت احدى الطاولات. حاولت منعهم لكنهم ضحكوا في وجهي وطلبوا مني الرقص!

اتجهت الى هذا المخزن للنوم فيه. ومن ذلك اليوم اعتادوا على السهر هنا. يرقصون ويغنون ثم ينزلون السلم بصخب كبير يمنعني من النوم. يثرثرون في تلك اللحظات المزعجة عن امرأة لم تحتمل الشرب وتقيأت على رجل رقص وسقط مهشما الطاولة... يتعمدون الإطالة هنا. ويتظرف احدهم ويدق باب المخزن صائحاً «الا تريد ان تتمتع معنا أيها الكهل!» يضحكون جميعاً كالعاصفة...

اندفعت الى ابني الأكبر وقلت الا يمكنك ان تفعل شيئاً ؟ فيستمر على صمته.

آه.. اظن انه من الأفضل لي ان اجهز المخزن بشكل دائم حتى يتحول الى غرفة مريحة...

 (يرفع رأسه نحو الباب) أيها الرجل ألا زلت هنا؟ سأفتح الآن، انتظر، لا تهرب. (يفتح الباب ويتلفت) لا أحد. اختفى في اللحظة الأخيرة. هل ارسله ابني الشرير لقتلي أو تحويلي الى مجنون؟ أو ارسله ابني السجين لأخذ بعض الحبوب؟ أو وجهه ابني الأكبر لإنقاذي؟ أو هي واصدقاءها يريدون السخرية منى كالعادة؟ أم هو أنا؟

 (يبدأ في صعود السلم) هذه هي المرة المائة التي يطرق فيها الباب ثم يتوارى. لماذا يفعلون بالناس ذلك؟

 (يصعد ثم يحل الظلام)

20/4/1986

ــــــــــــــــــــ

12 - باب البحر «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2020.

«القصص: وراء البحر.. - كل شيء ليس على ما يرام - قمرٌ فوق دمشق - الحب هو الحب - شجرة في بيت الجيران - المذبحة - إجازة نصف يوم - حادث - البائع والكلب - ماذا تبغين ايتها الكآبة؟ - إمرأة الربان - إذا أردتَ أن تكونَ حماراً - اللوحة الأخيرة - شاعرُ الصراف الآلي - البيت - حوت - أطروحةٌ - ملكة الشاشة - الغولة - وسواسٌ - مقامة المسرح - إعدام مؤلف - يقظة غريبة».

 

❃❁✾❈✤

القصص القصيرة:

1 - لحن الشتاء «قصص»، دار الغد، المنامة_ البحرين، 1975.

«القصص: الغرباء - الملك - هكذا تكلم عبد المولى - الكلاب - اغتيال - حامل البرق - الملاذ - السندباد - لحن الشتاء - الوحل - نجمة الخليج - الطائر - القبر الكبير - الصدى - العين».

2 - الرمل والياسمين «قصص»، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1982.

«القصص: الفتاة والأمير - علي بابا واللصوص - شجرة الياسمين - العوسجالوجه - الأرض والسماء - المصباح - نزهة - الصورة - اللقاء - لعبة الرمل- الأحجار - العرائس - الماء والدخان».

3 - يوم قائظ «قصص»، دار الفارابي، بيروت، 1984.

«القصص: الدرب - أماه... أين أنت - الخروج - الجد - الجزيرة».

4 - سهرة «قصص»، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1994.

«القصص: السفر - سهرة - قبضة تراب - الطوفان - الأضواء - ليلة رأس السنة - خميس - هذا الجسد لك - هذا الجسد لي - أنا وأمي - الرمل والحجر».

5 - دهشة الساحر «قصص»، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، 1997.

«القصص: طريق النبع - الأصنام - الليل والنهار - الأميرة والصعلوك - الترانيم - دهشة الساحر - الصحراء - الجبل البعيد- الأحفاد - نجمة الصباح».

6 - جنون النخيل «قصص»، دار شرقيات، القاهرة 1998.

«القصص: بعد الانفجار - الموت لأكثر من مرة واحدة! - الأخوان - شهوة الدم - ياقوت - جنون النخيل - النوارس تغادر المدينة - رجب وأمينة - عند التلال - الأم والموت - النفق - ميلاد».

7 - سيد الضريح   «قصص»، وكالة الصحافة العربية، القاهرة، 2003.

«القصص: طائران فوق عرش النار - وراء الجبال - ثنائية القتل المتخفي - البركان - سيد الضريح وتر في الليل المقطوعأطيافرؤيامحاكمة على باباالحارس».

8 - الكسيحُ ينهض «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: الشاهدُ.. على اليمين - الكسيحُ ينهض - جزيرة الموتى - مكي الجني - عرضٌ في الظلام - حفار القبور - شراء روح - كابوس - ليلة صوفية - الخنفساء - بائع الموسيقى- الجنة - الطائر الأصفر - موت سعاد - زينب والعصافير - شريفة والأشباح - موزة والزيت - حمامات فوق سطح قلبي - سقوط اللون - الطريق إلى الحج - حادثة تحت المطر - قمرٌ ولصوص وشحاذون - مقامة التلفزيون - موتٌ في سوق مزدحمٍ - نهاياتُ أغسطس - المغني والأميرة».

9 - أنطولوجيا الحمير «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: انطولوجيا الحمير - عمران - على أجنحة الرماد - خيمةٌ في الجوار - ناشرٌ ومنشورٌ- شهوة الأرض - إغلاقُ المتحفِ لدواعي الإصلاح - طائرٌ في الدخان - الحيُّ والميت - الأعزلُ في الشركِ - الرادود - تحقيقٌ - المطرُ يموتُ متسولاً - بدون ساقين - عودة الشيخ لرباه - بيت الرماد - صلاةُ الجائع - في غابات الريف - الحية - العـَلـَم - دموعُ البقرة - في الثلاجة - مقامات الشيخ معيوف».

10 - إنهم يهزون الأرض! «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: رسالةٌ من بـينِ الأظافر - الأسود - عاليةٌ - جلسةٌ سادسةٌ للألمِ - غيابٌ - عودةٌ للمهاجرِ - دائرةُ السعفِ - الضمير - المحارب الذي لم يحارب - الموتُ حُبـَأً - إنهم يهزون الأرض! - حـُلمٌ في الغسق - رحلة الرماد - أعلامٌ على الماء - گبگب الخليج الأخير - المنتمي إلى جبريل - البق - رغيفُ العسلِ والجمر - عوليس أو إدريس - المفازة - قضايا هاشم المختار - أنشودة الصقر - غليانُ المياه».

11 - ضوء المعتزلة «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: ضوء المعتزلة - جزرُ الأقمار السوداء - سيرة شهاب - معصومة وجلنار- سارق الأطفال - شظايا - الترابيون».

12 - باب البحر «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2020.

«القصص: وراء البحر.. - كل شيء ليس على ما يرام - قمرٌ فوق دمشق - الحب هو الحب - شجرة في بيت الجيران - المذبحة - إجازة نصف يوم - حادث - البائع والكلب - ماذا تبغين ايتها الكآبة؟ - إمرأة الربان - إذا أردتَ أن تكونَ حماراً - اللوحة الأخيرة - شاعرُ الصراف الآلي - البيت - حوت - أطروحةٌ - ملكة الشاشة - الغولة - وسواسٌ - مقامة المسرح - إعدام مؤلف - يقظة غريبة».


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من تقنيات القصة القصيرة عند القاص البحريني عبدالله خليفة (المكان في مجموعة سهرة أنموذجاً)

رواية «الأقلف» محاولة لتشكيل عالم مختلف