على أجنحة الرماد : قصة ـ لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

تمشي مبروكة في الزقاق تحذرُ الأرواحَ وتلتقطُ أشياءَ مفيدة، وتسمعُ أقوالاً حكيمة، هدأتْ من غضبِ كناتها، ووضعتْ لهن خطط الغداء، وجادلتْ الحوشَ وأزاحتْ أوراقَ الشجرِ الصفراء.

تمشي في قلبها غصةٌ سقطتْ في الأعماق السحيقة، تحملها برفقٍ لئلا يتفجر البئر بالمياه.

ابنها أحمد الذي كتبتْ له الأحرازَ وكلمتْ الشيوخَ الحكماءَ وإستضافتْ الأخوةَ الغائبين، والقتْ الجمرات والبخور، لم تصلْ لسرهِ الضائع، ولكن المعلم أخبرها أن الحوت رجعَ من المحيط، يحمل يونس، وجواهر ثمينة، ولديه صورٌ عن أحمد وخيوط قديمة، العملاقُ الأب الأسود من الحارة، ظلَّ يحاربُ السمكَ والسرطانات ويحملها للسوق، ويفتضُ المصائد، والحيتان الصغيرة يحملها على ظهرهِ ويقطعها، ويصيرُ حداداً يضربُ الفلزات ويشكلها مثل القصائد، ما يزال يدور حولها بصمته وألغازه.

تؤنسنُ ترابَ الحارة بخفها، تتبركُ بحكاياتهِ الكثيرة، كيف إغتسلتْ بنبعهِ وهي صبية، وكَبُرت مع أحجاره، ورشَشَها دمُهُ وإختفاء شبابه ووحدها رمانة ظلت صفراء، جعلها السكر متضخمة البطن، بين أصابعها أكياس الحبوب.

تصعدُ سلمَها الصعب، طاول رأسُها السماءَ، وشعرها نجومه السائرات البليدات، ولم يشتعل، وبقى الحناء في رأسها، والشعل.

رمانة ضائعة بين الحمام والقهوة للبعل والتمر اليابس، وهي نفسها في تمرة ولم تذقها منذ سنين، وتحضنها بقبل الشوق، وسحبتها من مواعينها، وأطفاتْ القدرَ بأصابعها ولمساتها والأرز الأصفر والسمك ينتظر شهية الزوج.

إلى الساحاتِ، إلى الضجيج العارم، والصواريخ المشتعلة في السماء، إلى الشباب الهادر الضائع الملامح، والسنوات، والآمال.

عباءتان، قامتان، تمشيان بين السيارات، تصعدان بصعوبة الباص، تجثمان على المقعد، ومبروكة تطل على الشارع فرحة، بالمرئيات، ورمانة هاجعة، مغمومة، ابنها الفرح بالاحتفالات مثل مبروكة عاش طيفاً في فتوته، وشقياً في طفولته، في السنوات الأخيرة ظلت تنتظره.

ما هذه الروح التي تنتفض في مبروكة؟ أي امرأة كهلة مثل صبية تتدفق حناناً وفرحاً؟ ما الذي أخرجها من الكورة التي إستحالت أنفاقاً لعيش البشر، مثل الخنفساء التي إستحالت لفراشة، تطيرُ على الشاطئ، في منازل جيرانها وفرق الغناء وبكاء الأطفال وضجيجهم في الحدائق، تختنق بالعبرة ودخان القدور، تسبح في المياه، تضحك على البنات الشارقات بالماء.

كم طالعت الشبان بالذهول، هي التي أحضرها السندباد من البحر، ذلك البحار العملاق، من جزيرة أهلها، من مرتعِ النخيلِ والغنم والمصائد، حملها بصناديق سحرية، أقمشة تطير في رسوم اللآلئ، وبسيفٍ لا يزالُ يحملُ رمادَ القراصنة، وبأحجارٍ تتلاعبُ بالأقدار، وتوجها في الكورةِ وأغلقَ عليها الأبواب، فصارت مثل فحمة تحولتْ لماس.

أحمد طلع من مخزن الفحم شرارة، الولد الذي تلاعبت به صار يحملها بين ساعديه، الذي علمته الخرافات والقصص وسيرة جزيرتها وسندبادها الحاكم غدا بحار القارب الذي ينزل في الأعماق، يحملُ الأحياءَ وتخرجُ جثثاً، يرافقُ الأصدقاءَ ليختفوا معه ثم يصيرون سيراً وأرواحاً في الليل الساهر.

 في الليل يمشون، يتزاورون.

رمانةٌ صامتة، متعاليةٌ على الأشياء والبشر، وهي السائرةُ في ممرِ الغبار. قلبها طائرٌ يحوم على ابنها في الحبس. لا تهنأُ بزاد أو برحلة. لم يعد زوجها يطيق حالها. كل خيوطها تمضي وتنتشر بين السيارات والمارة والبيوت حتى تعلو فوق الأسوار وتدخل وراء القضبان.

كل دقة باب تظنها يده.

كل صرخة مذياع تظنها من أجله.

تطالعها مبروكة وتدخل في تضاريسها، تسألها عن ينبوع الديرة، عن الساحرة أم جان، لكنها تطالعها بعينين بيضاوين.

ألقتْ مرساتَها في قعر الشياطين.

- هل يقدر خالد أن يخرج ابني؟

سكنتْ مبروكة. سمعتْ الصمتَ في الليل، رأتْ الأولادَ يتحولون إلى رجال، سبحتْ في الفضاءِ وثوبها يشتعل، تحدقُ في الأولاد؛ نمر، فهد، ثائر، ثامر، باسل، علاء، عامل..

ليس لهم آباء، لم ترهم في الأسواق، وعند الحرفيين، في تلك الأنفاق المليئة بالشرر والرماد، لم يشتروا منها في سوق الأربعاء حيث تبيع.

عبرَ السعفِ والجريد كانت تنصتُ لكلماتِهم وحكاياتهم، تدخلُ حيناً عليهم تضعُ الشاي أو القهوةَ والتمر، وترتفعُ أصواتُهم بالشكر، وتظلُ تضعُ آذانَها على الفراغِ المحدودِ تُصغي لما يملأُ الفضاء، وتدهشُ للاشياءِ العجيبةِ التي يقولونها، ليس فيها ساحر ولا عملاق ولا بنت السلطان ولا السمكةَ المحققة للآمال. ودائماً يطلُ خالد المالود من فرجاتِ غيم السماء ومن الجموع، يعبرُ الأسلاكَ الشائكة على الأرض.

وتتعجب من خروجِهم المنفرد الصامت، ومن تلمسِ ابنها للطرق، وإصغائهِ للصمتِ أو الكلام أو نحنحة المارة، وفي الصيف يقعدون في الحوش يهمسون همساً لا يُسمع، وكانت الشجاراتُ في الحي رهيبة، ومجيء غرباء وإقتحامهم البراحات وحدوث صخب، وكان أهلُ الحي بأسمالِهم وقذاراتِهم وغوصهم في مقصبِ اللحوم ومستنقعات البحر مثل ريح عاتية في الأحياء الأخرى التي تواجههم وتحتكُّ معهم وتندلعُ الفوضى ونهش الكلاب للأجسام حيث الكلاب رفيقة دائمة لأهل الحي.

هدأتْ هذه الاحتفالاتُ الدمويةُ التي كانت تنطلقُ فيها باحثةً عن أحمد، خائفةً أن يقذفَ بنفسهِ في أتونها، وتجدهُ واقفاً شامخاً بين الفتيان الممزقي الثياب الصارخين الدامين، يُحيلُ بينهم وبين آخرين. تحاولُ أن تُخرجهُ من الحشودِ المتداخلة المتلاسنة الصاخبة، ثم هدأ الحي بإغفاءاتٍ وصحوات طويلة، الناس تمضي بهدوءٍ لأعمالها، الثيابُ تتغير، تلك السمادات إختفت، فِرقُ الكلابِ الشرسة المنقضة على الأعداء والغرباء زالت، تلك الشجارات تلاشت. السعف والجريد يختفيان وتتصاعد الأحجارُ إلا عندها. ماذا حدث؟

لا يكف الفتيةُ عن القدوم، وكلماتُهم تتجلى، وأصواتُهم تتضح، وغضبُهم يتعاظم، كلما دحروا عدوداً ظهر عدو، وقد يكون العدو في الداخل، في الحارة.

مشتْ لأدريس: يا بعلي أريد أن أخرجَ للدنيا، تعبتُ من النفخِ والطبخ والرماد، أريد أن أصيرَ فراشة، أن أنضم لعصافير المدارس!

يضحك، يقودها للعريش حيث الراقصون يدورون، حفاةً، يكلمون القمرَ والبحرَ والسفن التي جلبتهم من الأعماق.

- أنتَ لم تفهمني، أريدُ أن أجلسَ في صفوف البنات في المدارس!

يصرخ فيها:

- ماذا جرى لك؟ أمكثي في الدار ولا تخرجي؟

- أي دار هذه؟ هذا كوخ وسط البيوت والحصى، لماذا لا يكون لنا بيت من الحجر مثل الناس!

- ماذا أفعل؟ أنت ترين جسمي كل يوم، والآن كل شهر.

- يا أبا أحمد أريد أن أقرأ وأعمل!

- تعالي! تعالي! من أدخلَ في رأسكِ هذه الأفكار؟ أهو أحمد الطالب السائب؟

وراء الأكواخ وراء البيوت الصغيرة ظهرَ بيتٌ مضيء، بيتُ التاجر! شامخٌ، مضيءٌ، ذو حوشٍ واسع، ثم طابقان، في الأسفل ضجيجٌ، وفي الأعلى هدوء.

بحثت قدماها عن الترابِ المتقلقلِ ثم صعدتْ السلمَ المؤدي لقاعة، وكان ثمة ضجيج وجماعة من الأولاد وبضعة رجال متناثرين. إقتربتْ من الرجل الجالس في الوسط، يوزعُ الكراريسَ والكلمات ويضعُ إصبعَهُ على الحروفِ وآخرون يتهجون، تقترب أكثر، كأنها تدخلُ مسرحاً يدور، الأولادُ يشعون، وثمة آلاتٌ يُضربُ عليها، فكأنها تصيحُ وتنبعثُ أصواتٌ متألمةٌ ويصعدُ ورقٌ ولهب!

سمعتْ الرجلَ يتكلم:

- ماذا تريدين يا سيدتي؟

التفت وراءها، ربما يخاطبُ أحداً غيرها، سمعتْ أصواتاً غريبةً تطرطشُ حولها، إن الرجل ذا العوينات الزجاجية، القصير، الممتلئ، يخاطبها هي!

توقفتْ الآلاتُ بضع ثوان، صمتتْ الأفواهُ المغمورةُ بالأصداءِ، تطلعتْ العيونُ للمرأة ذات العباءة التي تخفي نصفَ وجهها بقناعٍ أسود تظهر منه عيناها واسعتين مليئتين عميقتين، قالت:

- أريد أن أتعلمَ القراءةَ والكتابة!

صارتْ في وقتِ العصر حيث لم يأتِ الليل المشبوهُ بعد، تمضي حيث الرجل الذي سألها بضعة أسئلة، ثم أعطاها موعداً لتأتي، جاءتْ وجلستْ والزحام الذي رأته خف، وثمة بضعةُ أولادٍ غارقين في صفحاتهم المفتوحة، والآلاتُ صامتةٌ ليس ثمة من يضربها لتتألم، والأستاذ التاجر أخرجَ كتاباً وراح يعلمها الحروف، وسرعان ما أدخلها بين صورِ البط والموز والثعالب، وراح يتهجى وهي ترددُ وراءه، ثم أعطاها الواجب لتأتي غداً في نفس الموعد!

صار الطريقُ تتحسّسهُ وتحبه والورقُ ينمو بين صدرها وعينيها، وترفرفُ عصفوراً يضربُ الحديدَ، ويزقزقُ بالحروف، تلثغُ، وتصرخ، وتضعُ في القِدر كميةً لاذعةً من الفلفل، ويأتي أحمد من المدرسة وينتظر الأكل، ويرى القراطيس مبعثرة، والحروف تطيرُ في فضاء الكوخ وتصطدم بالجريد.

- يا أمي أنا سأعلمك، لا داعي للذهاب للمدرسة، منظرك مضحك!

ويلتهب فمه من اللذوعة والملوحة، ويأبى الجلوس على السفرة، وتخففُ المَرقةَ، وتضعُ الأرز، وتتحسسَّ شعره المفلفل الخشن الذي لا تكاد تدخل أصابعها فيه، وتجذبَهُ للسمكة المشوية، فيندفع بقوة في سلخها وإزالة حتى عظامها.

- سأعلمكِ، سأعلمك، أطمأني!

لكنه ينام، ويشخر، حتى الليل، ثم ينقضُّ على الخبز والشاي، وتسحبه النداءاتُ من وراء السعف، فيلبيها، ويقولُ سأعود، لكنه لا يعود إلا في أعماق الليل البهيم، وهي تنتظره، وقد هدأتْ الذَكرَ الآخر بعلَها، بالأطباق والنارجيلة والفراش النظيف، فناوشها بشوكهِ وسخرَ من كتاب الأطفال، وراح يبكي على طريقتهم وكأنه بحاجة لمرضعةٍ والمرضعة لا تأتي فيزدادُ بكاؤه!

 الرجل الأعرج تزداد صعوبة مشيه، وجثومه على مفارق الطرق، وذهابه للبحر، لكن الجسد الهائل يعينه، يتجاوز الحصى، يطعن لخم البحر، يضعها على الصفائح السوداء المتوهجة، حتى هجم عليه قرشٌ، عضه ساقه، وادماه، وراح ينزف في البحر وحيداً، وأصواته تتعالى حتى وصلت الساحل، وإندفع الشباب وحملوه، وجثم على الفراش طويلاً.

يسألُ أحمد:

- هل تريدان أن أترك المدرسة وامضي للعمل، إذا كنتما تريدان ذلك سأفعله بطيبة خاطر!

بدا شامخاً يكاد يصل لسقف الكوخ، فكادت أن تبكي فرحاً!

للباص الطويل مشت، في غبشة الفجر، والمدينة تنفضُّ أرديةَ الخوف من الجن، ولعابَ البحرِ الساخن، تمشي العربةُ تتلوى بين الزمنِ والسحر والشجر، تأخذها بعباءةٍ وترجعها بسروالٍ مخبأ فيها، تنظف وتطبخ وتلمع أرضية الأوربيين اليابسين الذين لا يتركون ثمرة تسقطُ في جيبها من الشجر.

وأحمد يتلقاها وهي تمشي دائخة في الشارع الطويل يصفر تحيةً لها، ويحملها للعريش ويرقدها وهي تضحك وتضربه ولا تتغلغل أظافرها في ريشه.

يجافيها أدريس، يحضر أكداساً من السمك، ويجلس على الدرب يبيع، يبقى على الأرصفة مثل تمثال، وحينما يخلو الزنبيل من السمك، يحمله ويمشي متقلباً في الشارع نحو البيت.

ينثر هناك الحكايات في الشوارع وبذور نور الرحلات وإصطياد الجن واللآلئ ومصارعات الرجال. تحداه رجلٌ من مدينة بعيدة يحملُ على ظهرهِ كيسي رز ويمشي على اللوح الخشبي من السفينة حتى سيارة الشحن، لم يستطع الرجل أن يثني قطعة النقد لكنه هو إستطاع وكبّرَ كلٌ من في القهوة!

تلتفت مبروكة لرمانة الدامعة الملتفة بعباءتِها لا تكادُ يظهرُ منها شيء، والشوارعُ صاخبةٌ، زاخرةٌ، والركابُ يضحكون ويثرثرون، والأشجارُ تركضُ في وجوهِهم، هذه صديقتها التي تربتْ معها، جاءتْ من جزيرة المطر والشجر والسمك، مخدرةً في عطرها وثوبها الأبيض الفتان وتحتشد حولها المرايا والمناظر، زفها الربابنة والبحارة وسكنت في ذلك البيت الأبيض الرفيع، ساعدتها كخادمة، تشرف على المطبخ ولا تقطع البصل وتتذوق الأرز وتتذمر، تلوي بوجهها من تقطيع السمك والزفر والقشور والفلوس المتطايرة في الوجه، وتكاد تتقيأُ من الأمعاء، وتبدو باذخةً، وشعرُها مثل الليل العميق والأساطير والرمانتان الكبيرتان في صدرها مثيرتان، والساقان مكتنزتان يصعد فوقهما خصرٌ نحيلٌ ثم يتألق ذلك الصدر الناهد.

كثيرة هي الصحون التي لديها، عجائب من الأواني، والرفوف المغطاة بالزجاج، والشيء العجيب الموقد الذي يشتعل في عيون عديدة، والطبخ الذي يجري سريعاً بلا دخان ولا نار تهجمُ على الشعر.

في دبيبها الأول في البيت رأت رمانة صلدةً لا منافذَ فيها، مهتمة بالبقع الصغيرة من القذارة، بشكل مروع، لا تكلمها إلا أمراً، تصرفها حين تنتهي من واجباتها. أما هي فليمونة حقيقية تُعصر منذ الصباح وتُقذف في الظهيرة، محبوسة في المطبخ، تعمل مراقبة في بقية الغرف، تطل فيها لماماً، وتمسحها بيديها الصلبتين حتى تلمع، تتحرك بين الجماد بلا حس، تقطعُ صلتَها بالأسئلة والكلام، واللغةُ تنمو في داخلها بإتساع كبير، آذانها مرهفةٌ للأبِ والابن اللذين لا يأبهان بجسدها المتحرك المتراقص المنحني الزاحف الصاعد الذي تنغرز فيه مسامير صغيرةٌ فلا يتأوه، يدورُ بين الأشياءِ يأخذُ غبارَها وفتاتها وأحلامَها ووقتها.

كان الجسدُ مرمياً على الحجر، كانت الأوساخُ تضيء، الورقةُ تُخبأَ في عمق الصدر، رسومات التاجر وكلماته وكتبه تطير حولها، تهسهسُّ، تضربُ ليلَها الغافي، تتحركُ حول قنديلها المتراقص الذؤابة والعمر، زوج رمانة يتطلع فيها، يتحرك حولها في الغرفة، يلامسها وهي تذعر.

مرة غاب لبضعة شهور، الرجل الذي جاء نسي أشياء منظمة كثيرة، إلتاعت رمانة من غيابه، وأجلستها في البيت الباذخ، نامت على سرير مريح، قرأتْ على ضوءِ مصباح، عرفتْ سببَ إختلاجاتِ عينيها.

رمانة منهارة على المقاعد والأسرة، تأكلُ وتبلعُ الحبوبَ وتبكي، إنفجارتٌ مستمرةٌ من الزعيق فيها وفي ابنها، وحين جاء الزوج طارت من الفرح ولكن الزوج كان مختلفاً، عمّهُ الاضطراب، لم يلبث سوى بضعة أسابيع حتى إعتزم السفر.

سمعتْ بكاءَها وصراخَه في حجرة النوم.

- ماذا حدث؟ ماذا حدث لتترك البلد فجأة وتتركني مع سامي محتاجين إليك؟ كيف تفعل بنا ذلك؟ هنا كل شيء! ثمة مال خُذهُ، تاجرْ، أعملْ!

جاء صراخُهُ غريباً مروعاً، ثم كأنها سمعتهما يشتبكان، ثمة حراكٌ جسدي عنيف!

حقيبةٌ ووجهٌ متأثرٌ وغيابٌ طويل!

بعدها غدت رمانة سجينة الكرسي والجدران والأدوية.

حجرة الزوج مضطربة، أوراق كثيرة ممزقة، كتب ملقاة بإهمال، تضعها في أمكنتها، تحمل كائنات ممزقة، أولاداً يصرخون، حمامات تطير في عاصفة. وثمة صورة، ثمة صورة غريبة، خوفتها، رجل في البياض، في غيم وشجر، وفي هدوء ألغى أشياءَ العالم بعيداً وجثم في الإباء والشمم؛ صدر عريض وشاربٌ كثيف.

أين رأت هذا الرجل؟ راحت تبحث في أشياء ذاكرتها المبعثرة.

كانت الصورة ملقاة بين كومة ساقطة أمام مرايا وأشياء المكان الباذخ.

تحمل الصورة لتريَّ زوجها. تقتربُ من سريره ذي الحديد الذي أشترته وسوته له مكاناً للحلم. يجثم ظهرُهُ على الحديد والمسند وتحته السجائر والشاي والقهوة. يتمددُ ويتأملُ بشظايا وبقايا، هذا الجسدُ كان يعصفُ بالبحر.

ترفعُ الصورةَ وتسألُ عنها.

أدريس ساكن، ناء عنها، مجاف لها. يُلقي نظرةً سريعة ويعود لقوقعته. وجهُهُ ظل جامداً، لم يختلج لمرأى الصورة. ربما هو لم يره. لكنها متأكدة إنه مر ببيتها هنا.

تحاول أن تلتصق به، أن تحيي ذكورته، تمسح على صدره. لكن أجزاءه لا ترتعش أو تنتفض كما كانت تتفجر بالحياة. تعانقا طويلاً على هذه الأرض، بفراش تحتي، لا يزالُ يقاومُ صلابةَ وحصى الأرض، ولم يتفجرْ جسدُها حياةً سوى بأحمد، ظهرَ كعاصفة في جسدها ثم خمد. حاولتْ لكن شيئاً جديداً لم يحدث. أيكون أدريس قد عافها؟ أيكون الحب فيه قد ذبل ولم يعد يخلق عصافيرَ مجنحة؟

- من هذا الرجل؟

يحدق فيها وسيجارته تضيء وجهه المتداخل بالظلام، الوجه الصلد والرأس الكبيرة والشعر الخفيف الهارب، تحملق في الوجود، تتمتم بستبيحة، وبدت عيناه كأنهما تدوران حول الرجال الكثيرين الذين رأتهما. القباطنة والبحارة والمتعلمون الجدد الذين نزلوا في المقاهي والمكاتب، والموظفون ذوو الهيبة، إنه لا يتذكر أحداً منهم.

يفكرُ ملياً ويقول:

- من يكون؟ ترينه أحد هؤلاء المتعلمين المغرورين الذين تكاثروا هذه الأيام.

- كانت صورتُهُ في حجرة السيد عصام هذا الرجل المحترم..

لكنها لا تكمل. بصرها يطوف بالسطور وهي تهرب منه، الصفحات المليئة ليست مثل كتب الأستاذ التاجر المليئة بالصور والكلمات الكبيرة.

يلقي برماده في الفضاء القلق:

- أي محترم هذا الذي يتوارى ثم يسافر بل ربما يهرب من قضية ما!

تطالعه بدقة، تجوسُ خلاله، زوجها في البحر والموانئ والحمالة، جسد أُرهق بالعمل، وأُلقي في الساحات العامة وزوايا الشوارع ليبيع، رأسه موجهة نحو الأرض، يداهُ تخترقانِ الحضورَ والأسماكَ المتوحشة، فكيف سيعرف الكتبَ والمدارس والوجوهَ الغريبةَ الطالعةَ منها ومن الدواوين؟

السفن عرفها والقباطنة خضع لهم والقروشُ القليلةُ خيوطهُ بين بيوتِ السعف والدور والطبول، رأسه مليئة بالحكايات التي تذوب شيئاً فشيئاً مع عظامه، تتوهجُ مع سيجارة أو كؤوس من الكحول يشربها وراء السعف والصمت وبين الدخان والضحك، ساعات من البهجة يأتي إليها مغسولاً من التراب والرماد ويصحو متعكر المزاج قابلاً للخناقات.

كانت لحظات الفرح الليلية قوية لكنها لم تدم كثيراً!

نضبَ البيتُ من النقود، ثرثرةُ أدريس تتحولُ إلى شباكٍ لاصطياد الغبار، رمانة متجمدة على مقعدها لا تذهب لعمل وبنك، كأنها تزحف في البيت ولدها يضج بالصراخ ويتشاجران كل يوم.

جاءت بابنها ليساعدها. الحديقة مهملة، وورق الشجر حزين، وسامر ينفخ في البوق مهدداً زجاج النوافذ بالسقوط، وكومات الثياب القذرة عطنه، والمطبخ، والقدور، والجبن المتعفن في الثلاجة، ورمانة تغتسل وتحل الكلمات المتقاطعة.

فجأةً نُظفتْ قممُ الأشجار من الأعشاش القديمة، ظهرتْ أكداسُ الورق في تلالٍ سوداء تنتظرُ سيارة النظافة، وراحتْ الثيابُ ترقصُ على الحبال!

يقرأ لها أحمد مقاطع من قصةٍ وهي تطبخ، صورته تتخلل خيوط البخار، ولمسات أصابعه تحنو على بقع الزيت الشاوية لجلدها، والكرسي يضمهما وهي تصغي لصوته وتتذوق الطبخة الرائعة، وعيون سامي تتجول حولهما، ورمانة تتذوق الأرز جامدة الملامح تنتظر بلهفة نضج السمك المرتعش زيتاً وناراً.

يأكلان وحدهما، يسندها وهي تودعُ مساءَ البيتِ الغارق في الهدوء، الحارةُ تنتفضُ قبل المغيب، الأصحابُ كانوا ينتظرونَهُ ويتحلقون حول هداياه من الكتب والمعجنات وتنتشر بعدها اللغة السرية التي لا تفهمها.

في تقاربهما ظل سامي في عليائه ينظر لهما كحشرتين تسللتا إلى منزله.

يدمدم أحمد:

- لماذا تعملين هنا؟ أنتِ تحرجينني بعملك هذا. هؤلاء مجرد طفيليين!

ترفعُ رأسَها عن القِدر: ماذا يقصد بهذا الكلام؟ لم تر في كتبِ الأستاذ التاجر أية كلمة مثل هذه؟ صارت الآن كتبها أثقل. تستطيع أن تؤشرَ بأصبعها على سطور وتتهجأ.

تخرج من هذا البيت فأين تذهب ومتى يتخرج أحمد من هذه المدرسة ذات المدد الطويلة التي كأنها لا تنتهي!

يتجابه الديكان الفتيان، سامي يرفعُ إصبعه في وجهِ أحمد، ويعلو صوته:

- أنتم مجرد حثالة!

- وأنتم جماعة مدللة فاسدة!

يكاد ولدها يجرجرها عبر الشوارع التي تندفع فيها  السيارات وتصرخ الأبواق، ويشتم السواق، وهذا أحمد بقامته العالية ورأسه المتقلبة بكبرياء شامخة، وبجسده الضخم، يطرد الحشرات والأشياء والأصوات من حولهما بدوائر أصابعه، ويحميها من الحديد.

توقفت عن العمل وجسدها كله يتنمل. لا يكف إدريس عن الذهاب للبحر ولو طلعت كل قروشه على الساحل. ويصير مسحراتياً في رمضان ويتمكن من إيقاظ الناس وملء عربة من المكسرات والأرز في العيد.

لكن النار تخبو، والمعلم يريد أجرته، وأحمد لا تنتهي طلباته.

كان ثمة طرقٌ في بدايةِ السماء، وهي تتعكزُ على جوعِها وتفتح الباب برهبة!

 تتفاجئُ بالفتى سامي دون غيره. توقعتْ الأمَ لكن تلك ذات كبرياء سقيمة. لكن سامي، سامي دون غيره يأتي للحي؟ ويقف عند باب كوخ ويدق طالباً مقابلة السيدة في داخله؟ 

يسألها:

- لم تأتِ للعمل؟ أمي تسأل عنك؟ هل تدرين إن أبي عاد من السفر؟

كان خجلاً فرحاً، لم يمد يده ليصافحها بل بقيت عاطلة متوترة قرب فخذه.

  هزي جذعَ الحياةِ لتتساقط النجوم، هذا الكراس ينمو، هذا الدفترُ يمتلئُ بالكلمات، لن يُسقطَ المعلمُ هذه الأشياء، يتطلعُ إليها منبهراً، يأخذُهَا لترى الكتبَ العجيبةَ الكبيرةَ التي أحتضنتها الخزائنُ المغلقةُ بالزجاج، وترى على الأغلفةِ صورَ الطيور والسلاحف وبشراً غرباء خرجوا من الكهوف ذوي شعورٍ كثيفةٍ ويحملون عظاماً ليدرأوا الوحوشَ، وحين تفتحها بين صدرِها كله وترى الكلماتَ النملية تسيرُ نحو الرحيق، وهي لا تفهمُ هذ الدبيبَ الغامضَ لمملكةِ الحيوان نحو الحدائق والشعل البعيدة.

هل يمكن أن تخرجَ من الكهف، أن تستبدلَ السعفَ بريشِ الطيور؟

زحفتْ نحو زوجها الراقدِ على عرشِ الفحم، صنعتْ الأسماكُ مصيدةً له، نام في صَدفة الحظ، أُسر في السعف، هل تستطيع أن تطيرَ  معه أو بدونه؟

هل السماء فارغة أم ثمة صيادون يترصدون ببنادقهم؟

تري أحمد أوراقها، نعسٌ، سأمٌ، هذا الابن الذي يزحف للمدرسة، بين يديه سهام فضية توجه للطرائد، يتطلع للكلمات، ينتبه، يصحو، يتطلع فيها بذهول.

يحضنها، يقبلها، تضحك بين ساعديه المفتولين وأدريس يتعجب من هذا الغرام الخائب.

في سهرة الشباب عند القنديل، على تلك الأبسطة الرثة من غزل النساجين الموتى، الذين تدفقت الأمواجُ الصاخبةُ على حقولهم، يشعشعُ نورُ ورق، تتكدس رزمٌ غريبة، تستبدلُ القهوةَ والتمر بكتب، وأضلاع السمك بأقلام.

تتسعُ خريطةُ التمرِ لتصعد للقمر، الدُورُ تُنسجُ من البحر، والقرى تحلمُ بالملكوت.

حلمُ سامي أن يكون وحيداً، أن يدور في خيطه المقطوع. خارج دوامة الحياة، والأسرة، ورماد الأكواخ الشعبية المحترقة.

في ذلك الكوخ، حيث البراحات الواسعة، والتلال الرملية والمنخفضات، ثمة رائحة فظيعة للجسد.

الرجل الوسيم أشار إليه. فحَّ في الهواء وخلق دوائر من الشهوة. خاف. رفاقه بعيدون. والكرةُ في يده. جرى وشبحُ الكوخ يأخذُهُ لعطرهِ، عطرُهُ الغريبُ الفواح، يجعلَهُ في الفراشِ يتلاعبُ بجسده.

في الفراغِ الرجلُ وصوتُهُ: تعالْ!

ماذا سيفعلُ به؟

يرى جسدَهُ في مرآةِ الحمام، يبعثُ على رغبتِهِ الشديدة وإنتصابه.

في الفصل يجلس مع حسن مأخوذاً به. فتى أبيض ذو وجهٍ منمنمِ التقاطيعِ الدقيقة، ينبضُ نوراً هذا البدرُ، وهو يشتهي أن يقبله. ألا يسمح له؟ لماذا صار يفكر فيه ليل نهار؟

المهابة فوق طاولة الطعام، أبوهُ بقامته ومهابته يحتل القيادة، حتى لو لم يكن موجوداً يظلُ الكرسيُّ فارغاً، وهو كثيراً ما يكون فارغاً.

البسملة والصلاة والكائن الأعلى وجهنم المفتوحة للعصاة لم تدعه أن لا يفكر بحسن. أجملُ من فتاة. أنعمُ من فراشة.

يمشي على الشاطئ مع حسن. يزقزق قلبُه وهو يرى قدميه البيضاوين الناعمين. النوارس تصيح فوق القوارب، والموجات تضرب الأشياء وتنتحر على الرمل مخلفةً زبداً.

أحمد الأسمر العملاق يسبح عارياً، يضحك وهو يخرجُ من المياه والنورُ ساطعٌ جسده، حسنٌ يطالعه ويبتسم بغنج.

يأتي السربُ الأسمر، من أزقة المعادن الذائبة، من بقايا المصائد والنوى، من رائحةِ المقصبِ حيث الأبقار تجأرُ بالشكوى والأنين، يشمُ رائحةَ طريدة، تتقدم الثلة المبتهجة الراقصة، تتثنى وتتلوى على الرمال، وتهزُّ ساعدي حسن، ترفعه وهو يصرخ بدلال، يحاول سامي أن يمنعهم، يمسكُ بأسمال قزم صغير متجبر، القزم يحاول ضربه، يتعارك معه، يضعه على الرمال ويعصره والولد راح يصرخ بذعر!

حسن توارى وراء الشجر، وبدأ يبعث آهات شهوة مريعة!

يمشي مذعوراً.

بوده لو يحرق كلَ هذه الأكواخ. من النافذة يراها مستنقعاً ضوئياً. شجاراتٌ وسيلٌ بشري قذر، يمشي بينها، كوخُ البحارِ الأسود إدريس تنبثقُ من خصائصِ سعفهِ لمعاتٌ من النور، ثمة همسٌ وراء الخوص، يضع أذنه وقلبه يدق، كأن ثمة عرساً، الحفل البهيج يصعد للسماوات، أحمد من بين الموج يغني ويقود السفينة، كأن وجوه البحارة مضاءةٌ بألف شمس، أيمكن لمبروكة أن لا تسمع كل هذا الصخب وتصحو؟ ليس ثمة سوى هؤلاء الأولاد يحولون رمل الحوش لسجادة من الخرز الملون والطيور.

سمع صرخة:

- ألا ترون شيئاً هناك؟

- نعم، ثمة من يتنصت!

- أسرعوا!

إمتلأ بالخوف، ثورٌ أليفٌ كان يمشي في الزقاق ذاهباً للمقصبِ بكبرياء، عروسٌ وصاحباتُها المفعماتُ بالياسمين يطرنّ سرباً من الغمام، حرفيونَ منهكونَ أُطيحت بخرقِهم وأدواتِهم في موت المساء، وهو يبعثرُ الأجسادَ ويقتحمُ الثللَ الصديقة، ويسمعُ النداءات النارية وراءه.

الحارة على قابِ قوسين من هدبهِ وغدت ظلماء، طرقُها تفضي لذاتِها والأبوابُ والجدرانُ هي نفسها، وجدَ نفسه محاصراً في زقاق، الجمع كان في كل الجهات.

الضرباتُ والصفعاتُ قربته من التراب. يتطلعون فيه كولدٍ بنت. وأحدهم يخرج لسانه قرب خده!

يبتعد متألماً متقززاً. هوة كبيرة إخترقتْ داخله.

سيجدُ يوماً بعد يوم ماذا تعني أسلاك المدرسة، ونتف الطباشير، وورق الجرائد الممزق على حرابها الصغيرة. وجثومه وحيداً في زاوية.

يا إلهي كيف صار من ضربوه أبطالاً؟ يا له من جبان وهو يبكي، وهم يضحكون عليه ويتركونه للقطط تحدق فيه.

يمشي في ساحة المدرسة. أحمد في مقدمة الثلة يرفعُ رأسه للسماء، والأولاد يمشون وراءه وحوله كأنهم حرس.

مراراً يراهم مجتمعين، مثرثرين، غاضبين ضاحكين، لو علق بينهم لاتخذوه سخرية.

تشتعل المدرسة، الأولاد المسالمون يصيرون مثل الثيران الهائجة، شلالاتٌ من عظام ومياه وصراخ تضرب الأبواب. متقوقعون يصيرون جناً تطير في الساحة، وينزلون السلالم على خشبها المتلوي، ويقلعون الأبواب وهو صار همه أن يلتقط كراساته وكتبه، وتدفقُ المياهِ البشريةِ الساخنة من الأبواب يضربُهُ في صدره. حتى جرى بدونها، وعبر الساحة المضطربة بصعوبة، ورآهم يدكون البوابة ويصفعون الناطور المذعور الصائح، وتتعوى وتتمزق تلك البوابة من الشلال المعدني المتدفق الهائج، وتظهر الشوارع الخارجية، تظهرُ كنتفٍ من زجاج طويل، كصور لعمارات قليلة، وجزء من ساحة ذات لون ملحي، عليها آثار أقدام لاعبين، ثم تظهر رؤوس الطلبة موجات صغيرة متلاحمة مضطربة، بحر أسود على ثياب وسروايل، والهياج يعم ويصدم أذنه بحدة، والكتل تنازعه، والكثيرون أخذوا كتبهم وكراساتهم معهم، ويستغرب، والموج لا يدفعه للرجوع، وتظهر الساحة الخارجية الواسعة أكثر، ووراءها في البعيد ثمة خطٌ طويل من العباءات النسائية السوداء ومركز الشرطة شاهر سلاحه، ويعم الاضطراب الجسد الطلابي المتلاصق المشدود على التوتر وتتعدد أرجله وبحثه عن سبل للمشي الصاخب.

ظهر الانتفاخُ الطلابي كبيراً في الشارع، وروؤسُهُ مشدودة للخيول التي تحمحم وسط الساحة، وراح رأسٌ كبير يخترقُ الساحة صاخباً متوتراً، ثم تفكك وتناثر والخيول تجري نحوه!

ذهل سامي من هذه الاندفاعات المجنونة في كل صوب، وراح يجري بقوة، وكان الشارع بعيداً، وأفراد من الطلبة كانوا يركضون حوله وأمامه مرددين أقوالهم الصاخبة.

لا يزال الشارع بعيداً، وبدت الخيول والرجال فوقها بوجوه الصلبة القاسية والعصي المرفوعة في أيديهم كحصادي سنابل أو رؤوس يانعة القطاف، وكانت البنات على الضفة الأخرى من الشارع يصحن، والنسوة المتلفعات بالعباءات والبراقع يتوارى أي شيء منهن.

رأى طالباً قربه يسقطُ مضرجاً بدمه، جاءت له الضرية على الرأس، الرأس الصغيرة ذات الشعر الكثيف والوجه النحيف تحتها الأنف الدقيق، لمحه لمحة، وراءه البيوت والسماء والفارس والحصان.

لم تعد ثمة مادة صلبة فيه، راح يطير ويصل للطابور النسائي المتعدد الأشكال والملامح، المضطرب، المذهول، الممزق الصفوف ذو الصيحات المذعورة، وما تزال الخيولُ تجري، تحمحم، كأنها تشتهي الدم، هذه الكائنات الجميلة اللطيفة، كيف تحولت لوحوش؟

ثمة من يطارده، ثمة وجه أسود حانق لم يكل الاندفاع وراءه، إن يتقدم، يرفع عصاه، كأنه سوف يحصد رأسه المغمور بالنحو والنصوص والبلاغة والجغرافيا، وهو يرى الأرجل الأربع للحصان، لم يكن فرساً، ينحني، يقترب من الأرض، تتناثر الحصى قربه، ويضرب الفارس بعصاه، وهو ألتحم بالأرض وحركت العصا شعره، ومضى الحيوان الهائج عنه.

يمشي مضطرباً، توغلت الأحجار في ركبتيه، يحسُّ شيئاً من الفخر، بهذه الملابس الترابية، والهيئة الفوضوية.

المدينة في حالة فوضى، سكان الحارة تداخلوا والأحياء الراقية، الدكاكين مغلقة وانطفأت النيران في المخابز.

ثلة نساء قرب منزلهم، بانت مبروكة بعباءتها المتربة، وفاجأته صورة أمه بفستانها المضيء اللون.

جاءته مبروكة بوجل وقلق:

- ماذا حدث لك، أأصبت؟

لم يجب، حاول لحظة أن يظهر شكل البطل، لكنه إستعاد كل تلك الضجة والصراخ والدماء والركض والخيول، الخيول التي ما تزال تجري في أوردته، وفي هذه اللحظة اقتربت أمه مبتسمة لمرآه مشوشاً:

- أنظروا ولدي..!

صرخ:

- هؤلاء الطلبة قاموا . . قاموا بعنف رهيب!

تنظر إليه رمانة بقلق:

- أحدث لك شيء؟ هل أصبت و

راح يشير بيده، غمغم: الخيول، البوابة، الضجيج، الكراسات المليئة بالواجب المعرضة للضياع، الفتى الساقط على الأرض محطم الرأس، رأيت قشرة رأسه الدامية!

لم يأكل إلا شظايا من مواد لا تبلع، الحنان الكثيف المتفجر من أمه وأبيه وكلماتهم الصارخة عن الواجب، والوطن، جعلته في حيرة، إنطوى على نفسه يفكر بهذه الكلمات الكبيرة، وهو يرى عصا الشرطي تقترب منه  ولا تطال رأسه وفي النوم تضربه مراراً، ولا يصحو إلا على إنفجارات الديكة.

الأحياء لم تعد كما هي، الثللُ تقف عند المصابيح، حلقات الرجال تتسع في البراحات، ساحات اللعب بالورق والنقود الصغيرة إختفت، البيوت والأمهات تتداخل مثل ساحة كبيرة للصور الزاهية والقاتمة والمودة والدموع والصراخ المتفجر فجأة في هذا البيت أو ذاك.

مجلس البيت يضيء بقوة، أبوه يجثم مع رجال وشباب قلة ويتكلمون بهدوء حيناً وصخب في أكثر الأحيان، ويذهل من مجيء أحمد ومعه ذلك الفتى الذي تشاجر معه وحسن الذي أهتزتْ نفسه لمرآه!

يتتبعُ خيوطَ الكلمات ونثار الأزقة وتتبع أخبار المدرسة المغلقة، وتوجيهات الأساتذة السريعة والألغام المدسوسة بين السطور، ويبحثُ عن سببِ مجيء أولئك الأتراب المشاغبين في مجلس الرجال المحترمين، وتتلمسه أمه بحثاً عن ملامحه الضائعة وهو يحضنها خائفاً عليها من الغطس في بركة رماد كثيفة غريبة، ويدهش من تبدل ملابسها بسرعة شديدة، فتلك الفساتين الزاهية والبلوزات الوردية تبدلت إلى سراويل رمادية وقمصان عادية، وأبوه نزع الغترة والعقال والثوب ولبس البنطال وتضخم شاربه المحلوق.

يحب أن يعرف ماذا يجري؟ والمدرسة قد فتحتْ أبوابَها وخسروا شهوراً وعليهم أن يقدموا الامتحانات بعد أسابيع قليلة، وثلة أحمد تراجع قرب بستان وتصطاد السمك وتضحك وتسبح.

في هذا البيت لا توجد سجادة للصلاة. لم ير أمه وأبوه يسجدان. لم ير هؤلاء الغرباء وأحمد وثلته يصلون. من توفيره الصعب إشترى سجادة. قال له المعلم: إلهنا موجود في كل مكان، يمكنك أن تصلي على أي شيء، على التراب، على الحصير وتضع ثوبك النظيف أو كوفيتك، لكنه قتر على نفسه ليشتري السجادة حيث الحرم والنور.

خائف من نتائج الامتحان المقبل، يذاكر طويلاً، يصلي.

- ماذا تفعل يا سامي؟

صامتٌ، يقرأُ في سره، ويركع.

- ما هذه الحركات؟ أأدخلوك في هذه الخرافات؟

سحب السجادة من تحت جبهته وفوجئ بهذا التصرف الغريب!

أزاحهُ من مكانه من طمأنينته، من النور المقدس الذي دخل فيه، أحسّ كأن السماء تضطرب فوقه.

جلس معه، نثر ورقاً وكائنات تطير في الأعالي، تصفق باجنحتها، سرمديات أرضية سحرية مشعة تملأ الآفاق فوقها نور، أخرج له الكائن المتوحش من الكهوف، ونشر صور الكائنات في البحر والبر والفضاء.

كل ساعة فراغ ينفرد به، هذا الكائن الضخم المحيط به، المتلكم بقوة وثقة، يحرق خيام الصحراويين اللصوص، ويدخله مدنهم الملأى بالعبيد والجواري والمقطعة أيديهم وأرجلهم من خلاف،

- سيدي أن السماء تتزلزل ومدينتي كافرة وغداً سيكون الطاعون أو الزلزال العنيف! وأبي يدعوني للضلال!

يتسلل للمسجد، ينغمر بالحشد الترابي، يغتسل بمياه قدسية، يخرج ويرى رجلاً يسلم عليه ويدعوه لمساعدته في كتابة رسالة، يبدو أن الرجل غريب، والغرفة صغيرة ضيقة، وحين أغلق بابها شعر بقلق.

الرجل لم يأت بالورق والقلم، وإستند إلى سريره، الرجل طويل ويده تحرك بقع جسده اللامرئية، ويتطلع فيه بغرابة، ويخرج من تحت السرير زجاجة وكأسين، يصطكان في طبلة أذنه.

يمسك يده ويقول:

- تعالْ قربي!

- أين الرسالة؟

جسده يهتز، ويرتعش، ويحسُّ بإمعائه تتلوى في فمه، وينفض يده ويفتح الباب بصعوبة وهو خائف من هجوم الرجل الذي كاد ينقض عليه.

 في النادي ثمة جمع يحدق في الكلمات. ثلة أحمد كانت في مكان بارز. أجنحة الملائكة محترقة، لم تعد تطيرُ في السماء، الشباب على صدر مسرح ناري. يؤبنون الأموات، ويذهبون للمشرب يصخبون. هناك تطاح بالآلهة.

يحدق في الورق. مكتبة أبيه مليئة، والكتب لم تفتح، يرى الأفواه تتكلم، الرؤوس الوقورة تطلق النار، الحلقة الدائرية في النادي بهياكل الشباب العظمية الرقيقة تغزو المدن وتصرع الجيوش.

الشاب يتقدم منه، يدور حوله برقصة ديك، اسمه يدوي محمد الأسمر، حين يتكلم يخشع الآخرون، قاعة النادي تهابه، ومن بين الحشد الكثيف المصفق للضيف الغريب الأليف ينهض ويعترض. المكان يدوي، الوهج يأخذه وحيداً، كل تلك قامات كبيرة وهو عود ثقاب لم يشتعل، يسأل أباه عن محمد الأسمر، فيجلس قربه ويتكلم عن بحار تعلم وصعد أحجار الجبل وبنى.

- من الكلمات البسيطة تكون. من الخوص. كانت ثمة حشود ودوائر هائلة من البشر كلهم ذابوا في البحر والرماد والزبد، أشخاص قلة يبقون. محمد عاش في الأكواخ والغرف الصغيرة.

ثم رآه في الجريدة ميتاً. جثة ممزقة، ولونه الأسمر لم يبق منه شيء. أرتعد، تجمد، هذا الحي الوثاب، هذا الذي لم يزدهر شيباً وأولاداً يتحول لقصاصة في جريدة؟ سيكون السر عظيماً أقتلوه أم قتل نفسه؟ ما الفرق؟

ــــــــــــــــــــــــــ

9 - أنطولوجيا الحمير «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: انطولوجيا الحمير - عمران - على أجنحة الرماد - خيمةٌ في الجوار - ناشرٌ ومنشورٌ- شهوة الأرض - إغلاقُ المتحفِ لدواعي الإصلاح - طائرٌ في الدخان - الحيُّ والميت - الأعزلُ في الشركِ - الرادود - تحقيقٌ - المطرُ يموتُ متسولاً - بدون ساقين - عودة الشيخ لرباه - بيت الرماد - صلاةُ الجائع - في غابات الريف - الحية - العـَلـَم - دموعُ البقرة - في الثلاجة - مقامات الشيخ معيوف».

 

❃❁✾❈✤

القصص القصيرة:

1 - لحن الشتاء «قصص»، دار الغد، المنامة_ البحرين، 1975.

«القصص: الغرباء - الملك - هكذا تكلم عبد المولى - الكلاب - اغتيال - حامل البرق - الملاذ - السندباد - لحن الشتاء - الوحل - نجمة الخليج - الطائر - القبر الكبير - الصدى - العين».

2 - الرمل والياسمين «قصص»، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1982.

«القصص: الفتاة والأمير - علي بابا واللصوص - شجرة الياسمين - العوسجالوجه - الأرض والسماء - المصباح - نزهة - الصورة - اللقاء - لعبة الرمل- الأحجار - العرائس - الماء والدخان».

3 - يوم قائظ «قصص»، دار الفارابي، بيروت، 1984.

«القصص: الدرب - أماه... أين أنت - الخروج - الجد - الجزيرة».

4 - سهرة «قصص»، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1994.

«القصص: السفر - سهرة - قبضة تراب - الطوفان - الأضواء - ليلة رأس السنة - خميس - هذا الجسد لك - هذا الجسد لي - أنا وأمي - الرمل والحجر».

5 - دهشة الساحر «قصص»، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، 1997.

«القصص: طريق النبع - الأصنام - الليل والنهار - الأميرة والصعلوك - الترانيم - دهشة الساحر - الصحراء - الجبل البعيد- الأحفاد - نجمة الصباح».

6 - جنون النخيل «قصص»، دار شرقيات، القاهرة 1998.

«القصص: بعد الانفجار - الموت لأكثر من مرة واحدة! - الأخوان - شهوة الدم - ياقوت - جنون النخيل - النوارس تغادر المدينة - رجب وأمينة - عند التلال - الأم والموت - النفق - ميلاد».

7 - سيد الضريح   «قصص»، وكالة الصحافة العربية، القاهرة، 2003.

«القصص: طائران فوق عرش النار - وراء الجبال - ثنائية القتل المتخفي - البركان - سيد الضريح وتر في الليل المقطوعأطيافرؤيامحاكمة على باباالحارس».

8 - الكسيحُ ينهض «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: الشاهدُ.. على اليمين - الكسيحُ ينهض - جزيرة الموتى - مكي الجني - عرضٌ في الظلام - حفار القبور - شراء روح - كابوس - ليلة صوفية - الخنفساء - بائع الموسيقى- الجنة - الطائر الأصفر - موت سعاد - زينب والعصافير - شريفة والأشباح - موزة والزيت - حمامات فوق سطح قلبي - سقوط اللون - الطريق إلى الحج - حادثة تحت المطر - قمرٌ ولصوص وشحاذون - مقامة التلفزيون - موتٌ في سوق مزدحمٍ - نهاياتُ أغسطس - المغني والأميرة».

9 - أنطولوجيا الحمير «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: انطولوجيا الحمير - عمران - على أجنحة الرماد - خيمةٌ في الجوار - ناشرٌ ومنشورٌ- شهوة الأرض - إغلاقُ المتحفِ لدواعي الإصلاح - طائرٌ في الدخان - الحيُّ والميت - الأعزلُ في الشركِ - الرادود - تحقيقٌ - المطرُ يموتُ متسولاً - بدون ساقين - عودة الشيخ لرباه - بيت الرماد - صلاةُ الجائع - في غابات الريف - الحية - العـَلـَم - دموعُ البقرة - في الثلاجة - مقامات الشيخ معيوف».

10 - إنهم يهزون الأرض! «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: رسالةٌ من بـينِ الأظافر - الأسود - عاليةٌ - جلسةٌ سادسةٌ للألمِ - غيابٌ - عودةٌ للمهاجرِ - دائرةُ السعفِ - الضمير - المحارب الذي لم يحارب - الموتُ حُبـَأً - إنهم يهزون الأرض! - حـُلمٌ في الغسق - رحلة الرماد - أعلامٌ على الماء - گبگب الخليج الأخير - المنتمي إلى جبريل - البق - رغيفُ العسلِ والجمر - عوليس أو إدريس - المفازة - قضايا هاشم المختار - أنشودة الصقر - غليانُ المياه».

11 - ضوء المعتزلة «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: ضوء المعتزلة - جزرُ الأقمار السوداء - سيرة شهاب - معصومة وجلنار- سارق الأطفال - شظايا - الترابيون».

12 - باب البحر «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2020.

«القصص: وراء البحر.. - كل شيء ليس على ما يرام - قمرٌ فوق دمشق - الحب هو الحب - شجرة في بيت الجيران - المذبحة - إجازة نصف يوم - حادث - البائع والكلب - ماذا تبغين ايتها الكآبة؟ - إمرأة الربان - إذا أردتَ أن تكونَ حماراً - اللوحة الأخيرة - شاعرُ الصراف الآلي - البيت - حوت - أطروحةٌ - ملكة الشاشة - الغولة - وسواسٌ - مقامة المسرح - إعدام مؤلف - يقظة غريبة».

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من تقنيات القصة القصيرة عند القاص البحريني عبدالله خليفة (المكان في مجموعة سهرة أنموذجاً)

رواية «الأقلف» محاولة لتشكيل عالم مختلف