رجب وامينة : قصةٌ قصـــــــيرةٌ ـ لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

 

كنا في حي واحد.

من يصدق أن أمينة، الطفلة المشاكسة، التي تقذف عجلاتنا الحديدية الفارغة من إطاراتها، والسائرة بدفع الجريد، والمندفعة على خطوط القار المتآكلـة، بما وسـع يديها من قشـور البرتقـال والمـوز، ستغدو هذه الفتـاة جهنمية الجمال؟

لو كنت أستطيع في ذلك الوقت، لربما غدت من نصيبي؟ ولكن كيف لي أن أقدر وأنا الغارق في أوراق الدراسة والكتب والجداول؟!

كنا، نحن أولاد الحي، نتجمع قرب العين، حيث بناء كبير، جزؤه الشمالي للرجال، وجزؤه الجنوبي للنساء، ونحلم بالفتيات، والمال، ولكن الضمائر الحارقة تنجز كل شيء، فلا تبقي سوى أظافرنا تتغلغل في وجوه بعضنا، وسوى مجموعة من الكلاب نجرها لتتصادم وتتناهش ونحن نتراهن عليها.

أو كنا نتمتع بمشاهدة معارك التي لا تنتهي، حيث قفز الشاب الوسيم أحمد عدة بيوت ونزل في بيت الجارة الجميلة، ذات الزوج الصامت أبداً، والغائب دائماً، أو عندما أمسكوا مؤذن الحي في بيت "ظبية" ذات السمعة السيئة.

أمينة نبتت في بيت ظبية هذه، التي كان أزواجها يتبدلون بسرعة لا تمكننا من معرفتهم، وحيث كان يطلع الأطفال بصورة جعلتنا نتشكك في كتبنا المدرسية التي تقول إن المرأة تلد مرة واحدة في السنة.

كان هؤلاء الأطفال القذرون يلبسون مزقاً ملونة من الثياب، ويختلط فيها المخاط بعصائر قشور اللوز والرمان والعصائد، ويطلعون من تحت الأسِّرة، ومن قفف الثياب ومن "كارتونات" الحليب والطماطم.

كان على ظبية أن تُطعم هذا الجحفل، بكدح لا يعرف الهدوء والاستسلام. فتظهر من بيتها منذ الصباح الباكر، وتأتي في الظهيرة مكدودة الحيل، محّملة بقراطيس السمك والأرز والشاي، وحينئذ نسمع هبة عاصفة العيال حولها، وصيحاتهم الرهيبة، وأصوات المواعين المحذوفة، ونرى الأطفال المتناثرين في الهواء.

وفي بدء المساء، تعود إلى خروجها.

وكنتُ أدهشُ كثيراً من نوبات العمل هذه، وأسأل عنها الأولاد، فيضحكون عليّ.

وكان أزواجها المتعددون والمتعاقبون يؤلفون مدينة عمل فهذا حلاق وذاك صباغ، وهؤلاء نجارون وبقالون وأولئك صيادو سمك وحفارو قبور.

وأخيراً استقرت على صنف جديد هم الدلالون والسماسرة وأصحاب سيارات الأجرة. وقادني ولد إلى مكان عملها. فرأيت بيت سعف ذا[كُبر]*  كبير. ودهشت، ورحتُ أسأل صديقي: أين المكائن وأشياء العمل.. إنني لا أرى سوى نساء متبرجات "متعلكات" ثرثارات؟

وجاء رجال وراحوا يختلون بالنسوة. وكانت ظبية، بوجهها الضخم، وعينها الناتئة الوحيدة، آخر الداخلات. فسألت صديقي: ماذا يفعلون في الداخل؟

ضحك عليّ، وأخيراً فهمت!

أصبتُ بصدمة عاطفية، وبكيتُ وصحتُ في وجه الفضاء.[من لك يا أمينة في هذا العالم القاسي؟].

لكن صديقي هدأني، وقال إن ظبية تعمل جيداً، حين يعم الظلام، وتنطفئ حتى مصابيح الأكواخ القريبة، وينتشر السكارى الذين لا يميزون بين أعمدة الأسِّرة والسيقان.

وأذكر حينذاك أنني استجبت لدعوة أستاذ اللغة العربية لكتابة موضوع عن [العطف على المساكين] بقوة، فاندفعت لصياغة عبارات مثل "انظرْ إلى هذه العائلة المسكينة وكيف تعمل الأم منذ الصباح في السوق لبيع الفلفل. إن العرق الغزير ينهمر من جبينها لكي توفر اللقمة الهانئة لفراخها الصغار" وقد نلت على هذه الكلمات الدرجة  الكاملة.

كانت أمينة تذهلنا بشقاوتها، تصعد فوق سطح العين، وتكمن هناك وتنصت لحكاياتنا، ومنشارنا الذي يقطع عظام الأشرار والأخيار، حتى يفاجئنا وجهها الضاحك الطفولي متدلياً من السماء وهو يفرقع بالأصوات، فنتجمد مرعوبين خائفين.

نتابعها وهي تكبر، يتدلى شعرها كسحابة سوداء، ويتكور صدرها، وأرجلها البيضاء تقفز الحبل بخفة، وتضرب "القيس" في المربعات، قافزةً الخطوط والأيام والأنام، ونسأل: نصيب من ستكون؟ ويتنطع ضارب طبل أو صبي جزار، للإجابة على السؤال، ولكنني كنتُ أدرك أنني الأفضل بين الجميع، فأنا ابن موظف، وبشرتي متفتحة وليست معتمة ككل أصحابي.

وكاد أحدهم أن يدهس أمينة بجسمه على جدار العين، فأبعدته وأطلقتها حرة، فأهدتني نظرات جميلة.

وصرتُ أشبه بالمحامي والمدافع عن هذه الحمامة الغريبة في الحي البشع، الضاري، فأمشي قربها حتى تشتري الخبز، أو أحمل إليها الحليب وطاسات الفول، فتتقارب خطواتنا وأيدينا وكلماتنا..

تقول لي في ضفاف الليل الهادئ الساحر الخالي:

- رجب.. إنني خجلة من بيت أمي.. إنه عار يغطيني.

- اصبري.. واصمدي.. وانتشلي هؤلاء الصغار من هذا المستنقع.

- إنني أعاهدك.. على أن أكون شريفة إلى الأبد، لأخلص أخوتي من الشر!

كانت النسائم تدغدغ حواسي وتلهبها، وكأنها حنان سماوي، ولايزال ذلك الفضاء البهي، ذو النجوم الوضاءة، مستقراً في أعماقي حتى الآن، وكأنه نداء أو رسالة غير منشورة.

أعطيها "عبرات" و"نظرات" المنفلوطي، فتأتي دامعة العينين، مغسولة الشفتين، محمولةً على أجنحة ملائكية، وتقول:

- يا أخي، يا مخلصي، عرفت الآن الطريق!

حين وضعت العباءة على كتفها، تاركةً جسدها المتراقص في فضائها، حراً، أيقنت بأن أمينة بدأت تجفف المستنقع، وأن صدرها البارز، ووجهها المتألق، وعينيها الواسعتين المخيفتين، كافية لصرع الفقر.

ولم يكن يجبني فيها ذلك الكسل الغريب، فهي لا تصحو سوى في الظهيرة، وتدع أخوتها يصنعون الغداء، الذي يكون عادة مضطرباً، تذوب فيه الأسماك، وتنشب عظامها في الحلوق الآكلة المتسرعة، وهي بالكاد تتصفح الكتاب الذي أعطيها إياه، وتنام بعد ورقتين. ثم غدت مجنونة بالأصباغ والمساحيق والمرايا والخواتم والحقائب اليدوية، دائمة الشكوى من تقتير أمها وقسوتها وكثرة صراخ إخوتها وشغبهم الدائم وفوضى المسكن وأزواج أمها المتغيرين الذين يترصدون طيفها من وراء الستائر.

- أنت أختهم الكبيرة وتستطيعين أن تتعلمي وتعملي..

- أي علم الآن وأي عمل! إنني لا أنتظر سوى ابن الحلال ينتشلني من هذا الجحيم!

وأتخيل نفسي متأبطاً ذراعها، وهي في حلة بيضاء ناصعة، ونحن داخلان نادي الحي، وحشد من النساء الصادحات وراءنا، يضربن الدفوف والطبول، وينثرون الياسمين والنقود الصغيرة، والنجوم مثل المصابيح معلقة قرب رؤوسنا.

أدخل على أبي في غرفته، وهو جالس وراء مكتبه، يدقق في الأوراق، ويشطب بقلمه على التقارير والمذكرات، فيضع نظارته على الطاولة، متسائلاً عن سبب مجيئي المباغت..

- يا أبي.. إنني أريد أن أتزوج!

وعلى طريقته الساخرة الفظة يقول:

- ومتى.. إن شاء الله؟!

يضعني وجهه في فوضى داخلية غريبة، فتتبخر كل المقالات التي دبجتها على كرسي الدراسة.

- لاشك أن مهر عروسك.. من صندوق الادخار الذي كسرته في الأسبوع الماضي.. ومن هي صاحبة السعادة التي استولت على قلبك؟

- إنها أمينة..

وتوقفت، ولما لم أكن أعرف اسم أبيها تماماً، فقلت منساقاً لما هو شائع:

- بنت ظبية..

ولم أُكمل، لكنه أكمل:

- العوراء! هذا رائع! انظروا.. ابني خطب فتاة كاملة. أصبحنا نتشرف بالانتماء إلى عائلة ظبية العوراء. الابن الذي نعده ليكون مديراً لمدرسة أو لمصنع ينتمي إلى أسرة لا يعلم بأمرها إلا الله. وسيغدو أنسباؤنا الكرام هؤلاء..

وراح يقذف ألفاظاً رهيبة في سمعي، كانت تفتت النسيج النوراني الأخضر المغزول بأرق الليالي وخيوط الحب والدموع، فأُضيء كوخ اللذة المحرمة بأنوار الكشافات، وجاء حفل الزواج السكارى المتعتعون وانفجرت ضحكاتهم في وجهي، وراحوا يستعيدون أولادهم من حضن زوجتي وبيتي.. وتساقطت قطع الحلم شفرات زجاجية على رأسي.

واقتربت من يد أمينة المهتزة في الهواء، حاولت أن ألتقطها لكن الأصابع فزت بعيداً، والتفت إليّ جامدة، وصاحت:

- ماذا تريد.. يا رجل؟

اهتزت أعصابي.

- ماذا بك، ماذا جرى؟!

- أنا لا أستطيع أن أكلم الرجال الأغراب في عرض الطريق. أليس لديك أخوات؟ ألا تخاف على عرض؟

وسارت بهدوء، وبهذا الاهتزاز الجسدي المتراقص الجديد، وعطرها يخلب لبي وذاكرتي. وصحتُ: هل معقول إنها لم تعد تعرني، ماذا أصابها؟

سألت السماء أن تساعدني. انتزعت مصروفي وكسرت بيضتين في مسجد "الخضر" ونذرت أن أخطفها من جوف الوحش مهما كان الثمن..

ولكنني التزمت بدروسي، ونجحت، وواظبت على الأكل المغذي، وصرت أراقبها من بعيد، خائفاً من ثوراتها العنيفة التي بدأت تتفجر في كل مكان، وعلى المارة الباصقين، والمتحرشين الأغرار، وإخوتها، وأمها، واستولت على البيت طاردة أزواج أمها وأشباحهم إلى الأبد وبغتة بدأت أحوالها تتغير.

من يمكن أن يعرف هذه الصبية الحسناء، التي تقود السيارة الصغيرة الحمراء، ذات المقعدين، التي تنفتح مصابيحها مثل العيون الساحرة، وتنزل نوافذها "لوحدها" وتتدفق موسيقى راقصة تلوك اللبان؟

الفتاة النازلة ذات بنطلون ملون، وكعبها العالي يتأفف من حصى المكان، ونظارتها السوداء ستار لسخرية واستعلاء وإغراء!

كانت عجلاتها تدوي قربي، وترفس الغبار والتراب عليّ، فيصب الأولاد متعجبين متفاخرين بابنة حيهم الغنية الجميلة!

من يصدق أن كل اللغات انقطعت بيننا؟ كانت تمضي في الليل كالسهم الناري، وتتوارى كالشبح في النهار. ورحت أكلم الكلاب والجدران، فلا تجيب، وأترصد السيارة الحمراء وأجري وراءها فأمسك دخاناً.

ومرة رأيتها مع رجل. السيارة تجمعهما في شارع، وأنا واقف على الرصيف كأنني أعطي إشارات المرور للعشاق.

يا إلهي.. ما الفرق بين الوعود والأكاذيب؟ ما الذي يحيل الزهرة إلى أفعى؟ كيف تصير الرموش الطيبة منشاراً؟

نقلنا أبي في ذلك الوقت من الحي، الذي بدأت بيوته تتراكم قرب بعضها البعض، فتشكل تلالاً من الحصى والحيوانات النافقة.

لقد درست وتخرجت وتوظفت، ولم أزل محتفظاً بكلمتي، كاشفاً الأخطاء والنواقص في أي مكان تتشكل فيه، حتى راح رؤسائي ينقلونني من المكاتب إلى المخزن والمحاجر والمنافي، كما مضيت أتنقل بين بيوت الإيجار، والشقق والعمارات المزدحمة، مرافقاً العمال الأجانب، مصراً على أبحاثي وأوراقي، ونبضات الضوء الأولى.

وكان أبي يقول:

- لقد انتدبت نفسك لتخريب عالمي.. وتشويه سمعتي!

وذات مرة اتصلت من أجل السكن في عمارة كبيرة، وكان الإيجار مرتفعاً، وقد أخذني السمسار إلى الطوابق العليا، متجاوزاً بخبث الشقق السفلى الخالية.

اتصلت بصاحبة العمارة، فجاءني صوت نسائي مألوف غريب. كان يمتد إلى قلبي يسلك ذي ضغط عال، وراحت مركبات الكربون تتفاعل في مائي. سألت بدقة:

- من أنت؟

- أنا صاحبة العمارة يا قليل الذوق..!

- أعرف، لكنني أصر على معرفة الاسم!

- سآتي إليك وأربيك يا جحش!

جاءت سيارة مرسيدس أكبر من آخر غرفة سكنتها. ونزلت امرأة محجبة، ذات ملابس حديثة زاهية. وكانت لا تزال تتحدث في تليفونها النقال بألفاظها المتفجرة.

وصاحت وهي تدخل مكتب السمسرة:

- أين هذا الرجل.. قليل..

وحين وقع نظرها عليّ تجمدنا نحن الاثنان.

جلست أمينة قرب مقعدي، وطالعنا نفسينا بذهول وحزن. كانت نظراتها تتلمس شعري الأبيض، ووجهي ذا النتوءات والحدة العظمية، والنظارات السميكة، والشوارب الغليظة، وأنا أفحص وجهها الذي لم يزل وسيماً، رغم التجاعيد الخافتة الزاحفة وعمليات الشد الخفية.

جلسنا برهةً نتبادل عظام اللغة المحطمة، وصور الأمس المدهوسة، وأقول لها إنني لا أزال محتفظاً بصورتها القديمة، وبكلمتها وراءها: ]إلى رجب.. عسى أن تكون الصورة ناقوساً يدق ظلام الأيام[.

تقول:

- وأنا أذكر سؤالك المستنكر: كيف تكون الصورة ناقوساً يدق الظلام؟

وراحت تضحك.

استطعت أن أحصل على أفضل شقة وإيجار في العمارة، وحين تتوقف مضخة المياه، ويمتلئ الوجه بالصابون، أو يتشقق السقف وتكاد تسقط قطع "السراميك" قرب راسي، تنفجر أنابيب دورة المياه، ويتشقق السخان، كنت أسمع صوت أمينة، وأدهشُ من حاجتي الدائمة إليها..

وبدلاً من أن نتحدث فقط عن الحنفيات والأسمنت والقطط الكثيرة في العمارة، نقوم بجمع خيوط الحي الممزقة، وحكاياته المتشظية، فنعرف كيف يمضي أحمد سنوات حياته الباقية في السجن بعد أن خنق عشيقته، وكيف تحول مؤذن الحي "مبارك" إلى صاحب فندق بعد طرده من الوظيفة، ثم تقوم بتعداد إنجازاتها المذهلة في الحياة: كيف حولت أخواتها إلى ربات عمل وصاحبات شركات ومخازن، وإخوانها وأبناءها إلى مدراء في أكبر البنوك ومحامين وموظفين، وعدد أملاكها فدار رأسي.

ورغم الغم أعود إلى أبحاثي، واكشف تلاعبات جديدة في الصرف الصحي، وأنشر مقالات دقيقة عن الأنابيب، مما أدى إلى فصلي من العمل بصورة مباغتة وعجيبة.

وظللت عدة شهور وأنا أتجول في أدغال الشقة بين أنين زوجتي وشقاوة عيالي، حتى رن ذات يوم جرس الباب، وفوجئنا بدخول أمينة وضمها للأولاد وثرثرتها اللطيفة مع أمهم.

كانت مستغربة من عدم دفعي للإيجار مدة طويلة، ووعدتها بتسديده في أقرب فرصة. وهنا أخبرتها زوجتي بطردي من الوظيفة.

ولا أعرف لماذا تحسنت أحوالي فجأة، فحصلت على وظيفة ممتازة، وأُعطيتُ أرضاً بتسهيلات بسيطة، ولكنني لم أهمل رسالتي، فواصلت التدقيق في مأساة الصرف الصحي، حيث كانت البلد كلها تتحول في أيام الأمطار إلى مستنقع كبير.

وبغتة، سُرقِ ذلك الملف من شقتي، وجننت في البحث عنه.. اندفعتُ إلى فيللا أمينة في بر الحمام، فراعني ذلك البناء الواسع، وكم الحدائق، والبلاط المتعدد الألوان، وأطباق البث  الفضائي، والبرك، ورأيت أن كل الموظفين المرتشين الذين خربوا الأنابيب كانوا هناك، يقرعون الكؤوس، ويقطعون اللحم المشوي من ذبيحة كبيرة.

صرختُ نحوها:

- لماذا فعلتِ ذلك؟!

تطلعت إليّ بحزن ممض، وفجأة قهقهت، فانفجر الجمع كله بالضحك. رأيت أترابي هنا: بعض الطبالين، والجزارين، والمتلصصين على الحرمات ولحظات العشق.

- لماذا تفعل بنفسك هكذا.. تعال واشرب وانس الماضي!

وصبتْ إليّ كأساً، وتَقَدّمتْ كالماسة.. الزائفة!

- [أجببتك!]...

هذه الصرخة الملتاعة لم أطلقها. كانت تلف في ردهات روحي. كنت أدفنها بذوراً وأحلاماً، وكان وجهها النبيل يزود أيامي التعسة بزاد الصبر. كانت عشقي الخفي وتعويذتي.. كانت لعنتي..

تقدمتُ وأمسكت أصابعها. واغرورقت عيناي بالدموع، ولم أعد أرى سواها، مثلما كانت عروساً في البحر الصافي وبين الرمال البيضاء. ركعت، قبلت يدها.

صحتُ:

- من هو زوجك الآن، أتعرفينه.. ماذا تختلف أمينة عن ظبية؟ هل أنت راضية حقاً؟ إنك لم توفي بعهدك وقسمك أبداً، أبداً! كانت السماء شاهدة عليه!

شيعتني الضحكات إلى الخارج.

عزّلت من الشقة، ووزعت أسرتي على أقاربي، وداومت على بحثي، وأعدت كتابته مرة أخرى، ونشرته، فتطايرت رؤوس، وانهالت علي رسائل الثناء والتقدير، فانتعشت.

ومرة أخرى وقعت في محنة. أصيب أبي بمرض خطير، ورحت أجري من دائرة إلى مركز لأجل نقله إلى الخارج، أوصدت كل الأبواب في وجهي.

كانت الجدران أمامي، ورأسي تدكها بعنف، ولا تنفتح كوى.

صحتُ: لو استبدلت كلماتي بقطع معدنية! لو بدلت أوراقي وخطواتي.. لو بعتُ الرقيق أو المسحوق الأبيض.. لو خنت!

وترنحتُ قرب قدمي أمينة.

كانت تطالعني مثل ملكة متوجة على الأذلاء والمغمورين والمشوهين. كانت مسافة شاسعة بيننا تتقطعها أخاديد من الألم وعصارة الكبرياء المسحوقة والعجز. كأنني كنت أسلم جثتي لجزار.

في اليوم التالي، كنت أصعد مع سرير أبي المحمول إلى الطائرة، وكان يتمتم شاكراً لأبناء الحلال الذين أنقذوه!

ــــــــــــــــــــــــــــ

* حجرة من الطين.

6 - جنون النخيل «قصص»، دار شرقيات، القاهرة 1998.

 

❃❁✾❈✤

القصص القصيرة:

1 - لحن الشتاء «قصص»، دار الغد، المنامة_ البحرين، 1975.

«القصص: الغرباء - الملك - هكذا تكلم عبد المولى - الكلاب - اغتيال - حامل البرق - الملاذ - السندباد - لحن الشتاء - الوحل - نجمة الخليج - الطائر - القبر الكبير - الصدى - العين».

2 - الرمل والياسمين «قصص»، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1982.

«القصص: الفتاة والأمير - علي بابا واللصوص - شجرة الياسمين - العوسجالوجه - الأرض والسماء - المصباح - نزهة - الصورة - اللقاء - لعبة الرمل- الأحجار - العرائس - الماء والدخان».

3 - يوم قائظ «قصص»، دار الفارابي، بيروت، 1984.

«القصص: الدرب - أماه... أين أنت - الخروج - الجد - الجزيرة».

4 - سهرة «قصص»، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1994.

«القصص: السفر - سهرة - قبضة تراب - الطوفان - الأضواء - ليلة رأس السنة - خميس - هذا الجسد لك - هذا الجسد لي - أنا وأمي - الرمل والحجر».

5 - دهشة الساحر «قصص»، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، 1997.

«القصص: طريق النبع - الأصنام - الليل والنهار - الأميرة والصعلوك - الترانيم - دهشة الساحر - الصحراء - الجبل البعيد- الأحفاد - نجمة الصباح».

6 - جنون النخيل «قصص»، دار شرقيات، القاهرة 1998.

«القصص: بعد الانفجار - الموت لأكثر من مرة واحدة! - الأخوان - شهوة الدم - ياقوت - جنون النخيل - النوارس تغادر المدينة - رجب وأمينة - عند التلال - الأم والموت - النفق - ميلاد».

7 - سيد الضريح   «قصص»، وكالة الصحافة العربية، القاهرة، 2003.

«القصص: طائران فوق عرش النار - وراء الجبال - ثنائية القتل المتخفي - البركان - سيد الضريح وتر في الليل المقطوعأطيافرؤيامحاكمة على باباالحارس».

8 - الكسيحُ ينهض «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: الشاهدُ.. على اليمين - الكسيحُ ينهض - جزيرة الموتى - مكي الجني - عرضٌ في الظلام - حفار القبور - شراء روح - كابوس - ليلة صوفية - الخنفساء - بائع الموسيقى- الجنة - الطائر الأصفر - موت سعاد - زينب والعصافير - شريفة والأشباح - موزة والزيت - حمامات فوق سطح قلبي - سقوط اللون - الطريق إلى الحج - حادثة تحت المطر - قمرٌ ولصوص وشحاذون - مقامة التلفزيون - موتٌ في سوق مزدحمٍ - نهاياتُ أغسطس - المغني والأميرة».

9 - أنطولوجيا الحمير «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: انطولوجيا الحمير - عمران - على أجنحة الرماد - خيمةٌ في الجوار - ناشرٌ ومنشورٌ- شهوة الأرض - إغلاقُ المتحفِ لدواعي الإصلاح - طائرٌ في الدخان - الحيُّ والميت - الأعزلُ في الشركِ - الرادود - تحقيقٌ - المطرُ يموتُ متسولاً - بدون ساقين - عودة الشيخ لرباه - بيت الرماد - صلاةُ الجائع - في غابات الريف - الحية - العـَلـَم - دموعُ البقرة - في الثلاجة - مقامات الشيخ معيوف».

10 - إنهم يهزون الأرض! «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: رسالةٌ من بـينِ الأظافر - الأسود - عاليةٌ - جلسةٌ سادسةٌ للألمِ - غيابٌ - عودةٌ للمهاجرِ - دائرةُ السعفِ - الضمير - المحارب الذي لم يحارب - الموتُ حُبـَأً - إنهم يهزون الأرض! - حـُلمٌ في الغسق - رحلة الرماد - أعلامٌ على الماء - گبگب الخليج الأخير - المنتمي إلى جبريل - البق - رغيفُ العسلِ والجمر - عوليس أو إدريس - المفازة - قضايا هاشم المختار - أنشودة الصقر - غليانُ المياه».

11 - ضوء المعتزلة «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: ضوء المعتزلة - جزرُ الأقمار السوداء - سيرة شهاب - معصومة وجلنار- سارق الأطفال - شظايا - الترابيون».

12 - باب البحر «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2020.

«القصص: وراء البحر.. - كل شيء ليس على ما يرام - قمرٌ فوق دمشق - الحب هو الحب - شجرة في بيت الجيران - المذبحة - إجازة نصف يوم - حادث - البائع والكلب - ماذا تبغين ايتها الكآبة؟ - إمرأة الربان - إذا أردتَ أن تكونَ حماراً - اللوحة الأخيرة - شاعرُ الصراف الآلي - البيت - حوت - أطروحةٌ - ملكة الشاشة - الغولة - وسواسٌ - مقامة المسرح - إعدام مؤلف - يقظة غريبة».


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من تقنيات القصة القصيرة عند القاص البحريني عبدالله خليفة (المكان في مجموعة سهرة أنموذجاً)

رواية «الأقلف» محاولة لتشكيل عالم مختلف