وراء الجبال : قصـــــــةٌ قصـــــــــيرةٌ ـــ لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة
حين يرمق يحيى ذلك الامتداد الشاهق لا يُصغي إلا إلى عزف الأساطير والصقور.
ليس ثمة فرحة من سهل، ليس ثمة بوابة للخروج، ليس ثمة نسر قادر على تجاوز هذه العمالقة الكبار من الحصار والرعب. ليلاً ونهاراً يعمل في هذه الآلة الغريبة وسط عريشه المفتوح للعيون الشكاكة والأيدي العابثة.
لم يأتِ أحدٌ منذ قرون إلى القرية. لا يوجد ساعي بريد. ليس ثمة قوافل تعبر الى هذا المكان النائي المعزول عن العالم.
لا يصدق أهل القرية إن هناك بشراً غيرهم وراء الجبال. وعندما صنع ذلك الجهاز الحساس الذي ألتقط أصواتاً غريبة دهشوا، وتحدثوا طويلاً عن معجزات السحرة الذين يشتغلون في كهوف الجبال.
هنا الأرضُ الخضراءُ الصغيرة المتشققة بين الأحجار، التي تنبتُ بدم، وتكتسحها السيولُ المدمرة، هنا الرجال والنساء المغروزون بين خناجر الأرض والشوك ولحظات الحب الوامضة في الليل.
هنا الأطفال الذين يطلعون مع ثغاء الماعز وروث البقر وضحك النجوم وإلتماعات الأشباح في الصخور.
ينغمس يحيى في المعدن المضيء.
هذه الآلة، التي تشكلت من بقايا المحاريث والصفائح، تضجُ في الليل والنهار، تقذف الهواء الساخن، وتدير المراوح القوية.
يقترب سامي ونوره منه، يحدقان في الخرائط الغريبة، واجهزة النداء والنبض والراديو، ويسمعان الأصوات، ويحركان الأضواء، وينبهران.
وفي كل مرة تنفجر هذه الآلة، وتنغرز العجلات بين الصخور والوحل، كانا يساعدانه في حملها وإعادتها إلى هذا العريش المفتوح للفضاء..
من الطمي، من الشوك، من الدفاتر الجلدية، من الكتب الصفراء المدفونة في المخازن والتراب، من أحلام الطفولة، من ذبذبات الضوء، من حفلات الأهالي الدموية، جمع السطور والمعدن والضوء والأمل، سنوات وهو يجمع الفلين والعظام والحديد والكلام.
يرون ضوءً غريباً يسطع في ذلك الكوخ، والورق يمتد، ويرسم الجبال ويحلق بعيداً.
يثرثرون في مجالسهم، يغضبون، يأتون إليه بفؤوسهم:
ـــ ماذا تريد أن تفعل.. لماذا تكلم الجن؟!
ـــ إنني أصنع شيئاً لعبور هذه الجبال.. أتعجبكم هذه العيشة الرهيبة كالضفادع والهوام؟ هناك وراء الجبال.. الأرض الخضراء والمدن والسعادة!
يندفعون إلي آلته، ويرفعون أدواتهم الحادة. يضع جسده فوقها. يصرخون:
ـــ منذ رحت تشتغل على هذا العفريت.. والأرض تبور، والمطر أنقطع، والجواميس نفقت.. أنت لعنة، وعملك سحر شيطاني! من أين طلعت لنا؟ كنا هنا في هناء. كانت الارض تمتلىء بالحبوب، والأطفال يملأون البراري.. والآن أكواخ رثة.. عراك مستمر.. جوع مضنٍ، يا لك من نحس!
كم مرة ركض إلى الكوخ وهو يشتعل! كم مرة ساعده الفتية ليجمع خردة الحديد وليخفيها آباؤهم! كم مرة سلم أضلاعه وسنواته للنار!
يحرق السحرة البخور في كهوف الجبال. يرسمون وجهه بخطوط الجمر والدخان. يكتشفون أسباب لعنات الماعز والنخل والخراف في معدنه الملعون.
يصرخ السحرة في مغاراتهم العديدة المتعادية. تتكون خطوطٌ من البارود والخنادق، تمتلىء القرية بحريق رهيب.
تبدو أعواد الأكواخ، والأسياخُ المنتصبة الحامية، وخطوط الدخان المترجرجة، وروائح الأرض والجلود المشوية، وأكوام الأشياء المُنقذة، مثل آثار الزيارات الرهيبة للنيازك، مثل حفلات الزار وانهيارات الجليد.
يصرخ يحيى في الليل، ويترنح لشواء البشر، ولقوافل الموتى، وللرجال المجانين الذين يبحثون عن مسارب آمنة في الجبال المعادية، فيتهاوون كطيور ميتة، ويغدون وجبات لذيذة للنسور.
يصرخ في العرائش المُغلقة المفتوحة للدخان والهلوسة، ولا أحد يأتي إليه سوى نوره وسامي، يتعكز على قواهما الفتية وضحكاتهما النقية.
وهو يصبح عجوزاً تشتغلُ الآلة بقوة. يبدأ الجسد المعدني بالانفصال عن إرث الروث والسحرة، لكنه يهبط مقعقعاً على النتؤات، مهتزاً، متالماً، يكاد يصطدم بالنخلات المبعثرات.
سامي ونوره يشعلان له المصابيح، ويسهرون طوال الليل يقرآن له المفاتيح والكتب، ويرون الجليد يملأ الجبال الجبال مضيئاً، مُغلقاً كل شقوق الأمل.
البشر انكمشوا في بيوتهم، تدثروا بألفحتهم الثقيلة العطنة، يحرقون البخور، ويبصقون في أفواه الاطفال، ويطعنون الخرز بالإبر، ويذبحون الديكة العوراء، ويختنون النساء، ويتبركون بالأحجار والأسماء..
يصرخ: ثمة طوفان قادم. ثمة جليد عارم جبار سيتدفق. ستكتسح الصخورُ المنازلَ والزرع، هلموا اليّ!
لكن الأبواب ولآذان تبقى مغلقة.
الربيع يقترب، والجداول الوحشية تتكون، والصخور تتقلقل، والظهور محنية، والعيون محدقة في النعال المقلوبة، والمزارات ممتلئة!
راحت الجبال العملاقة تهتز. الكوفيات البيضاء المسالمة فوق رؤوسها تغدو ثعابين من الوحل والحصى والجذوع المندفعة. دمدمة رهيبة تكتسح كل شيء. ويهتز الرعاة والغنم في فلواتهم. تغلق الكهوف على السحرة في الجبال. ويركض الناس للشرائط المعلقة على القبور.
راحت العجلاتُ ترتفع، وصمد الجناحان للريح، والشابان جثما خلفه، لم يكن ثمة سوى هذين الزوجين معه، ولكنهما كافيان لبدء حياة جديدة.
يتطلعون بأسى إلى أنهار المياه والأكواخ والرؤوس، وهي تتدفق نحو أسنان الصخور، وجثث البشر والماعز والبقر تطفو، والأيدي القليلة ترتفع من اللجج، والصرخات تتفجر ثم تغور في الضجيج المدوي..
الطائر المعدني الضوئي يرتفع فوق قمم الفيضان والطوفان، وينفتح المدى اللانهائي للنور.
ــــــــــــــــــــــــــ
7 - سيد الضريح «قصص»، وكالة الصحافة العربية، القاهرة، 2003.
❖ «القصص: طائران فوق عرش النار - وراء الجبال - ثنائية القتل المتخفي - البركان - سيد
الضريح – وتر
في الليل المقطوع – أطياف
– رؤيا
– محاكمة
على بابا – الحارس».
❃❁✾❈✤
✗ القصص القصيرة:
1 - لحن الشتاء «قصص»، دار الغد، المنامة_ البحرين، 1975.
❖ «القصص: الغرباء - الملك - هكذا تكلم عبد المولى - الكلاب - اغتيال - حامل البرق - الملاذ - السندباد - لحن الشتاء - الوحل - نجمة الخليج - الطائر - القبر الكبير - الصدى - العين».
2 - الرمل والياسمين «قصص»، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1982.
❖ «القصص: الفتاة والأمير - علي بابا واللصوص - شجرة الياسمين - العوسج – الوجه - الأرض والسماء - المصباح - نزهة - الصورة - اللقاء - لعبة الرمل- الأحجار - العرائس - الماء والدخان».
3 - يوم قائظ «قصص»، دار الفارابي، بيروت، 1984.
❖ «القصص: الدرب - أماه... أين أنت - الخروج - الجد - الجزيرة».
4 - سهرة «قصص»، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1994.
❖ «القصص: السفر - سهرة - قبضة تراب - الطوفان - الأضواء - ليلة رأس السنة - خميس - هذا الجسد لك - هذا الجسد لي - أنا وأمي - الرمل والحجر».
5 - دهشة الساحر «قصص»، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، 1997.
❖ «القصص: طريق النبع - الأصنام - الليل والنهار - الأميرة والصعلوك - الترانيم - دهشة
الساحر - الصحراء - الجبل البعيد- الأحفاد - نجمة الصباح».
6 - جنون النخيل «قصص»، دار شرقيات، القاهرة 1998.
❖ «القصص: بعد الانفجار - الموت لأكثر من مرة واحدة! - الأخوان - شهوة الدم - ياقوت - جنون النخيل - النوارس تغادر المدينة - رجب
وأمينة - عند التلال - الأم والموت - النفق - ميلاد».
7 - سيد الضريح «قصص»، وكالة الصحافة العربية، القاهرة، 2003.
❖ «القصص: طائران فوق عرش النار -
وراء الجبال - ثنائية القتل المتخفي - البركان -
سيد
الضريح – وتر
في الليل المقطوع – أطياف
– رؤيا
– محاكمة
على بابا – الحارس».
8 - الكسيحُ ينهض «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.
❖ «القصص: الشاهدُ.. على اليمين - الكسيحُ
ينهض - جزيرة الموتى - مكي الجني - عرضٌ في الظلام - حفار القبور - شراء روح - كابوس - ليلة صوفية - الخنفساء - بائع الموسيقى- الجنة - الطائر الأصفر - موت سعاد - زينب والعصافير - شريفة والأشباح - موزة والزيت -
حمامات فوق سطح قلبي - سقوط اللون - الطريق إلى الحج - حادثة تحت المطر - قمرٌ ولصوص وشحاذون - مقامة التلفزيون - موتٌ في سوق مزدحمٍ - نهاياتُ أغسطس - المغني والأميرة».
9 - أنطولوجيا الحمير «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.
❖ «القصص: انطولوجيا الحمير - عمران - على أجنحة الرماد - خيمةٌ في الجوار - ناشرٌ
ومنشورٌ- شهوة الأرض - إغلاقُ المتحفِ لدواعي الإصلاح - طائرٌ في الدخان - الحيُّ والميت - الأعزلُ في الشركِ - الرادود - تحقيقٌ - المطرُ يموتُ متسولاً - بدون ساقين - عودة الشيخ لرباه - بيت الرماد - صلاةُ الجائع - في غابات الريف - الحية - العـَلـَم - دموعُ البقرة - في الثلاجة - مقامات الشيخ معيوف».
10 - إنهم يهزون الأرض! «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.
❖ «القصص: رسالةٌ من بـينِ الأظافر - الأسود - عاليةٌ - جلسةٌ سادسةٌ للألمِ - غيابٌ - عودةٌ للمهاجرِ - دائرةُ السعفِ - الضمير - المحارب الذي لم يحارب - الموتُ حُبـَأً - إنهم يهزون الأرض! - حـُلمٌ في الغسق - رحلة الرماد - أعلامٌ على الماء - گبگب الخليج الأخير - المنتمي إلى جبريل - البق - رغيفُ العسلِ والجمر - عوليس أو إدريس - المفازة - قضايا هاشم المختار - أنشودة الصقر - غليانُ المياه».
11 - ضوء المعتزلة «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.
❖ «القصص: ضوء المعتزلة - جزرُ الأقمار السوداء - سيرة شهاب - معصومة
وجلنار- سارق الأطفال - شظايا - الترابيون».
12 - باب البحر «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2020.
❖ «القصص: وراء البحر.. - كل شيء ليس على ما يرام - قمرٌ فوق دمشق - الحب هو الحب - شجرة في بيت الجيران - المذبحة - إجازة نصف يوم - حادث - البائع والكلب - ماذا تبغين ايتها الكآبة؟ - إمرأة – الربان - إذا
أردتَ
أن
تكونَ
حماراً - اللوحة الأخيرة - شاعرُ الصراف الآلي - البيت - حوت - أطروحةٌ - ملكة الشاشة - الغولة - وسواسٌ - مقامة المسرح - إعدام مؤلف - يقظة غريبة».
تعليقات