المـــــــــــوتُ حُبــــــــــَــــاً : قصة قصيرة ــ لـ عبدالله خليفة

 


(الإهداء: إلى ذكرى محمدِ الماجد)


- (سيدتي الساحرة المحرقية أدخليني في بخوركِ وعطوركِ واصنعيني ثانية. تعبتُ من هذه الهيئةِ وهذه الكينونةِ، أرمِ عليّ الجمرَ وأشعليني، أصيرُ طفلاً ثانية، وأحبو على تلةٍ في الرفاع، أو أصيرُ قنينةً في زمنِ الوردِ القادم.)

المرأةُ المتغطيةُ بورقِ الشجرِ وخرائطِ الأفاعي صاحبةُ بيتِ العقود في ملكوتِها. مضى قرنٌ على ذبولِها، وحولتْ غابةَ الأطفالِ في هذه الدروب إلى شياطين.

- (يا محمد!)

غاصتْ في قلبِ النارِ، وغرفتْ منه بنفسجةً وأعطتهُ إياها.

تأملَ يديه فوجدَ أشواكاً.

يعبرُ نحو المدينة الأخرى.

- (ليعطيني هذا الجسرُ بَعضاً من تألقهِ ومحارهِ، سأصنعُ من تفردهِ لوحةً، وهذه الموجاتُ المتلألئاتُ سوف أخلدُهَا في أبياتي، فلتغفُ المنامةُ على وسادتي، أنا من فكَ قيودِ أسرِها، وعَطَّرَ خدودَها بالقبلاتِ)

انفجرَ إطارُ الدراجةِ واهتزتْ وأسقطتهُ بقوة.

طالعهُ ركابُ الباص وكان بعضَهم يضحكُ عليه!

صاح غاضباً:

- (أوغاد!)

توقفتْ سيارةٌ وطلعَ رأسُ السائقِ وقالَ وانتزعهُ من بريةِ الجسر الملعونة. ثمة شيطانٌ يلاحقه، والعجوزُ الحارقةُ لا تشفي قلبه.

يضعهُ السائقُ في محلهِ، بين دراجاته، هذه الهياكلُ الحديديةُ الرقيقة تحبهُ، لتمضِ بين الدروب ترنُ أجراسُها، وتلتهمُ السيقانُ بها المسافات. وكلُ الأولادِ باقةُ وردٍ ذاتُ أشواكٍ تخزُ أصابعَه.

- (كيف لي وأنا الذي يحتضنُ (الوجودَ والعدمَ) في ليلِ المدينةِ الموحشِ أن أصلحَ هذه الأجراسَ وأصبَ الزيتَ على الحديد الصدئِ؟ وأجمعَ هذه القطعَ المعدنيةَ الصغيرة لأمضغ خبزاً؟)

رثُ الثيابِ، في الزحامِ البشري القطيعي، لا تختلفُ هذه الرأسُ المثقلةُ بالشعلِ عن أيةِ بهيمةٍ تعبر. متأنقون في بدلاتهم، متحنطون في سياراتهم الفخمة، البنايات الكبيرة ترتفعُ فوق العظام البشرية، سقطَ عاملٌ من فوق سقالتهِ على فوضى البناءِ والمواد. تجري نحو مقهى، تنهالُ على الورقِ ضرباً، عيونُ الرواد مفتوحةٌ على عجبٍ وإستغراب وسخرية.

تُلقي بدمائكَ على المائدةِ الباردةِ لرئيسِ الجريدة.

- (كيف يمكنُ لهذا الرجلِ القادمِ من البرية، الذي سقطَ في امتحان التاريخ، أن يلتقطَ شرايينَ العامل المفتتةِ في كلماتي؟ في دخانِ غليونه، والشحم الذي تراكم من جلساتهِ تلالٌ صحراويةٌ غريبةٌ عن ضجيجِ البحر.)

**


- (يا محمد!)

للمرة الأولى ينهضُ باكراً، يمسكُ خيوطَ الصباحِ الرقيقة، ويَخرجُ من حجرتهِ البائسةِ في أعماقِِ الزقاق، ويجري إلى الشارع الكبير، يمشي في السوق الذي يلتهمُ الأرغفةَ والأحبةَ والدموعَ والضلوع، يخطفُ الصحيفةَ من البائعِ المذهولِ وترقصُ أوراقُهُا في أصابعهِ حتى يرى كلماته؛ قطعُ كبدهِ الناريةِ تنزفُ عبرَ السواد!

ها هو الآن يجثمُ وراءَ مكتبِ الحريةِ والبروق، بعد أن نَزفتْ أصابعُهُ من دبابيسِ عداداتِ الكهرباء وكتابة الفواتير، بعد أن اضاءَ ليلَ المدينةِ القاتمِ بخيوطٍ شحيحةٍ من النور، وبعد أن غدا خبيراً في الدراجاتِ المنقرضة.

- (عندما أكون هنا، قربَ نافذةِ الحروفِ والزجاج والغضبِ السري أختنق، دفنني الأستاذُ محمود في تلالٍ من رسائل القراءِ البليدة، وعلي أن أعثرَ على خاتم سليمان في هذا البحرِ من القواقعِ والأعشابِ الميتةِ والأنات الخافتة).

محمود!

إنه هادئٌ، بحرٌ من المناورات، يداومُ على حضورٍ متأخر، يعصرُ الورقَ والمطبعةَ لحبيباتٍ صغيرةٍ من الذهبِ تتراكمُ هناك في بيتهِ العملاق، وأراضيه التي تنمو في البرية.

ظنَّ أنه سيعطيه منصباً!

لكن ها هو يدخلُ تلةً من رسائلِ القراء، يَردُ عليها، يجري في الأزقةِ مُنتزعِاً الأحشاءَ المصهورةَ للبشر، يضعُها على الطاولة، بين أسنانِ الآلة، بين أشداقِِ الحوتِ الذي يعبرُ بها للمجهول.

يصرخ:

- (ماذا تفعل بكلماتي؟ أنا أنزفُ، أجري شبه حاف، تقطعتْ أصابعي، ثم تخربشُ بقلمكَ الأحمر على روحي، لم تبقِِ أسنانٌ لحروفي!)

محمود أدمنَ السيرَ بين قوافل التاريخ، عاشَ مرةً في الاحتفالاتِ الهائجة وفي أعراسِ الحرية، قذفَ حجارةً صماء على النوافذ المسترخيةِ في الظلال، طردوهُ في سفينةٍ للشاطئ الآخر، أعتزلَ الصخبَ في غرفةِ مصرفٍ يَعدُ النقودَ والأرباحَ لغيره.

يسيران معاً في البستان، يجلسان تحت العرائشِ المتدليةِ للعنب، يحدقان في مياهِ البركةِ المتموجةِ، يضعُ الخادمُ الكؤوسَ المترعةَ بماءِ الفضةِ، ينتفضُ محمد جالباً الدموعَ والأظافرَ المقطوعةَ للأزقة، لقصاصاتِ الورقِ التي يوزعُها ويكتبُها وسطوراً من تلالِ الكتبِ التي يقرأها والقادمة النائمة في المكتبات، المياهُ المترقرقةُ في الكؤوسِ تجعلهُ أكثرَ صخباً وحزناً وضجيجاً.

يعترفُ في الفضاء:

- (لستُ قادراً على مهنةِ الحروف هذه، لا بدَّ لي أن أعودَ حِرفياً صنائعياً في تلك الدروبِ البسيطة، مع أولئك البشرِ الذين لا يتساءلون عن الوجود، وعن الذات الذائبة، يحترقون ويشعلون أعواداً صغيرةً من الكبريت ويملأون الأزقةَ بالصراخ والأولاد، لماذا إنعزلتُ عنهم؟ لماذا صرتُ غيرهم؟ ربما كانت المرأةُ العجوزُ في عمق أزقة المحرق قادرةً على شفائي!)

**


تتدحرجُ روحهُ في أزقةِ المحرق، الأبنيةُ الكبرى للسحرةِ ومشعلي الطقوسِ صارتْ خرائب. المرأةُ العجوزُ انتعشتْ أعمالُها وخادمُها نصيب يفتحُ له البابَ، ليضيعَ جسدَهُ في الاحتفال، من روحِ الزجاجةِ صارَ فراشةً، ومن عبقِِ العطورِ عادَ للطفولة، وراح يحضنُ البشر ويضحكُ، ويعلنُ: كلما أطحنا بالعقلِ نجونَا من المصائد. الناسُ تدورُ في الفراغِ وهؤلاء يدورون في الوجود، عَظمةٌ تكتسي لحماً ثم تنفرجُ عن دود، فلماذا لا تغدو الزجاجةُ إقلاعاً نحو الخلود؟ المرأةُ المريضةُ من هجومِ الأرواحِ الشريرةِ تدور، تلتصقُ به، تلامسهُ ويداعبُهَا، الظَهرُ والمؤخرةُ البارزة والساقان القويتان تهيمنُ عليه في الدوران، يختفي البشرُ الظلالُ والصراخُ الجنوني والوعيد بقدوم النار والوعد تحقق بإحتضان ثمرة ثورة الأجساد، والصباح يظهر مفاجئاً مثل سيخ ناري، والهاتفُ يريدُ قِطعاً من لحمه، والورقُ صار يطالبُ بنصيبهِ من عروقه، ويرى إنه مع امرأةٍ ليستْ غريبةً، في عشِ معبدٍ من حجر، وثمة غرفتان ومطبخٌ يصهلُ بالماء والأرز والشاي والقدور والصداع والغثيان، وزوجتهُ تصرخ: إنهضْ يا محمد!

- كانت غلطةً سحرية! في أجواءِ تلك العجوز الشيطانية تمَّ جَرِّي للأسرةِ، الأفعى سحبتني للشجرةِ، ونظرَ الثعبانُ إليّ وقال: حسناً ما صنعتما! وكلُ يومٍ عليّ أن أخرجَ من متاهةِ المحرقِ، ولولا خميس رفيقي في دروبِ المتاهةِ الحجريةِ والحروفِ الدامية لما كنتُ أعبرُ الجسرَ إلا غريقاً. الصداقةُ تعطيكَ لحناً آخرَ غيرَ قفصِ الزواج، ثمة يدٌ تمسكُ الكتبَ والأسطواناتَ وتسمعُ السيمفونياتَ في زارِ الحارات معك، ثمة رأسان تتنادمان، ثمة روحان تطيران سعيدتين فوق نيران المدينة. ياه حين أجلسُ وخميس على شاطئِ المحرق وبيننا زجاجةٌ ألسنةُ البحرِ تغازلُها، تطفو روحي مثل اللآلئ والورقُ الأخضر الكبير الذي تجلسُ عليه الملائكةُ وكهنةُ آمون ويقذفُ سارتر بألغازهِ وأسرارهِ في وجهي.

تصيحُ زوجتهُ وهو يتشققُ في فراشهِ ظهراً:

- (أي زوجٍ أنت؟ ليس ثمة شيء في البيت، وأنا الحاملُ عاجزةٌ عن الذهاب للسوق. يا ربي كل ليلة سكر سكر!).

- آه من أشعة الشمس الحارقة! وينتظرني طريق جهنم للجريدة، والصداع والغثيان.. أين خميس لينقذني؟

- (جاءك خميس وسيارتهُ توقفتْ في الطريق وطرقَ البابَ ولكنك أغلقتَ الغرفةَ عليك.)

- (يوم آخر من عبث الوجود، الطعامُ الذي لا لذةَ فيه، والبروقُ لم تزلْ تضيءُ الرأس، والكأسُ تتلألأ، لكن عليّ أن أصحو وأشربَ هذا السائلَ الحقيرَ الذي اسمه الشاي، وأكادُ أتدحرجُ على عتبةِ صاحبةِ الجلالةِ المومس الجريدة!)

يندفع إليه خميس ويكاد يحضنه:

- (صاحبتك التي تبعثُ إليكَ بكلماتِها وقصصِها وقصصاتِها الحارقة).

- (ماذا بها؟ أنطقْ! قلبي عصفورٌ دائخٌ بين أصابعك المفترسة!)

- (وردةٌ هنا!) 

- (وردةٌ هنا وأنا بهذه الهيئة الخريفية الذابلة؟)

- (أمض! هذه هيئةُ كادحِ كلمةٍ حقيقي!)

يتجمدُ، يتلعثمُ، يجلسُ محترقاً على مقعده، والفتاةُ السمراءُ الهادئةُ بسيطةٌ في ألوانِها، تدفقتْ نحوه بحميميةٍ؛ كيف قرأتَ كلماتي؟ أطراؤكَ كان مروعاً! أي سحرٍ تبثهُ فيَّ هذه الكلماتُ اليومية؟ الناس تنتظرُ هذا اللسعَ وهذا النورَ وهذا الجَلد!

- (لا يمكن لهذا العالم البخيل القذر أن يعطيني كل هذا! هذه فاتنة تصحو على هذا النمل الناري الذي ينسلُ من عظامي، كأنها تمسكُ بتلابيبِ روحي، تأخذني إليها، والسوقُ المليئةُ بالبقايا والسيارات والمارة تنفتحُ فجأةً ممراً لعاشقين، لسائِرَين نحو نافذة تطلُ على البحر، في جنةٍ تحدقُ في الجَمال، وأطير، أنسى المحرق، أنسى الأزقةَ الحجرية المطبقة على عظامي، أنسى الزحامَ البقري وأطيرُ على تلةٍ في الرفاع، بيتُ أهلي، فرحٌ غامرٌ بالتقاءِ فسيفساء العائلة، ووردةٌ هنا لا تريدُ أن تتركني، تأكلني بنظراتِها، تعرفُ أقدامي المنغرسةَ في الطين، جيوبيَّ المثقوبة، يدي المضروبتين بمسامير الكلمات المُباعة..).

- (.....)

- (ثم أجدُ نفسي وحيداً، عليّ أن أعودَ لزوجتي، سوف تهجم عليّ بكلِ مخالبِها، ستمزقُ جلدي. خميس سوف يُسّوقُ كذبي: ذهب إلى احتفال ولم يقدرْ على العودة للبيت ثم إنسابْ كالعادة نحو حانة، فتصرخ: أتتركني وحدي هنا؟ ليس معي سوى الجدران وبعض عطف الجارات، بل لم تكن وحدها، كانت تلدُ، النسوةُ أسعفنها، هناك البيوتُ والنوافذُ تتبادلُ الدموعَ والخبز والإبر. ثمة ابنٌ لي، أنا اللامنتمي صرتُ أباً، أنا الضائعُ في هذا الوجود مَددتُ جذوراً في الأرض الواسعة، لم أعدْ نطفةً، بل قبيلة.)

**


الورقُ يتناثر، المراجعُ تحني الطاولة، الورقُ يتألق، القلم يفيضُ: الخَيّامُ يغني في أزقةِ المنامة، تَظهرُ أصابعُهُ الورديةُ في نسيجِ بني جَمرة الدامي وبغرقِ العذارى في البحر، القِصصُ تنطلقُ وتتفجر، تَتكشفُ الكاهنةُ الساحرةُ وألاعيبُها وخطفُها لقلوبِ الصبية، الأسواقُ الشعبيةُ تبكي في سطور الجريدة، ومحمود يحدقُ في حممِ هذا البركانِ التي تمشي وتكادُ تصلُ لمكتبه.

- (أنا بين فيوضٍ عدة!)

كلُ ليلةٍ قرب أصابعِها، ثمة امرأةٌ تتكلمُ في الفلسفة، زوجتهُ المشغولةُ بالطفلِ والفجلِ وصنعِ الأحرازِ للقبضِ على روحهِ الهاربةِ لا تكادُ تمسكُ ضلوعَهُ المتواريةَ في غابةٍ من العطورِ والحبقِِ والياسمين المخصصة لوردة، دَخلَ حديقةً وضاعَ فيها، رأى التلالَ، اقتربَ من السماء، عرفَ الفروقَ بين الحضيضِ والربيعِ، تفجرتْ كلماتٌ يوميةٌ كلها شجنٌ وحبٌ ونداءٌ لامرأةٍ ملفعةٍ بالضبابِ والأنوارِ، خميس يفجرُ بالوناً أمامه:

- (من هذه المرأة؟ وردة ليست هكذا، وردة كائنٌ بسيط، لماذا تحولُها إلى أسطورة؟!)

وحدهُ يشتعل.

- (أخشى أن وردةَ ليستْ من عالمِنا. طيفٌ نوراني قادمٌ من الألق، لحظةُ عطفٍ كبرى قدمَها الإلهُ لشخصٍ فقيرٍ معوزٍ إلى الحنانِ منذ أن ماتتْ أمهُ وضاعَ في الأزقة، لو أننا نستطيعُ أن نميزَ هذه المخلوقات، نُعطى إشاراتٌ لتمييزِها!)

خميس يلحقُ به. يرسمُ له لوحات كاريكاتيرية للبشر:

- (وردة أمها تهتم كثيراً بالأكلات الشعبية الدسمة، طلقتْ الخرافةَ سبع طلقات وتشبثتْ بالدراهم.)

الحانةُ المُحلِقة قربَ الغيوم تجمعهما وخميس يحولُ كلَ مارٍ لنكتة، وبصورتهِ المضحكةِ ذات الوجه الواسع والأذنان الكبيرتان، ينتزعُ من كآبتهِ انفراجة.

ويصبُ عليه ماءً ساخناً:

- (لو أنكَ أبصرتَ يا محمد نصيبَ مديرَ الأعمال لصاحبتك الساحرة وكيف صار مقاولاً وصرافاً لبكيتَ على حظوظِنا في هذه الجريدة).

- (حَجَّموا قصتي من أجل إعلانه!)

- (أتوقع أن يعينونه مديراً لوزارة الأبحاث والعلوم!) 

**


- (سيدتي حينما تأخذكُ الأشياءُ مني، تتخفين وراءَ الأغصانِ اليابسةِ، تطلقين الرعودَ من السماءِ الكريمةِ بالجمرِ والصواعقِِ، حينما يخدعكِ المهرجون وباعةُ الذهبِ المغشوشِ والصرافون المتاجرون بالأنينِ البشري، وتتصحرُ المدينةُ فجأةً من الطفولةِ والألعابِ وتنتشرُ فيها أشباحُ الشكِ والخداعِ والمناوراتُ الحقيرةُ للسياسيين القساةِ وتكفُ الينابيعُ عن الحنانِ وحتى قلوب الأمهات تغدو من صخور، سيكون قلبي لكِ واحةَ حب، سترينهُ مُشّرعاً لأقدامكِ، مثل الحشائشِ الساكنةِ تنتظرُ ملمسكِ الرقيق، مثل خدِ طفلٍ يحبُ القمر، أو فراشة تصلي للضوء أو مثل محمد عاشقكِ ينتظرُ المطر).

* *


- (منشقٌ بين واحةٍ وإعصار، أظافرُ زوجتي راحتْ تتجولُ في صدري، تكتبُ خرائطَ حمراء، تهذي: أتتركني وأنا تحملتُ كلَ شيء، حينما كنتَ تمشي إلى عملك، حينما كنتُ أتسلفُ لكَ ثمن زجاجاتِ السمِ التي تشربُهَا؟ كنتَ تكاد تموتُ جوعاً وبكَ وحشية للجسد، ثم تنساني؟! أحضنُهَا بقوة: أحبك، أحبك، ولكن ثمة حبٌ أقوى تملكني! أنت بدايتي، حبي الطاهر الأول، فتخربشُ جسمي: بل قلْ عتبتكَ بعد عالم البغايا القذر الذي نقعتَ فيه. أردُ والدموعُ تنسابُ: بل أنت مثل أمي، أنت المرأة البسيطة التي رعتني بلمساتِها الحانية، بعفويتِها النقية، وكوتني بغيرتِها المجنونة، وقلبي لم يعدْ لكِ فقط، أنا أحبُ وردة، وسوف أتزوجها!).

يقبضُ على روحِهِ خميس:

- (ماذا تفعل؟ أتتزوج وردة وتترك هذه المرأة التي حنّتْ عليكَ وآوتك؟ وأي حب هذا الذي تتكلمُ عنه؟ وأين الشعارات النارية.. هل أحضرُ لكَ أبانواس؟ أكشفْ بالوعتك، تعرَّ، لست سوى حيوان!).

- (كفْ! يكفي هذا التمزق الذي أعيشه، كلُ جزءٍ من جسمي في مكانٍ بالأرض، على جبلٍ تأكلهُ النسور، وعند البر تفترسهُ القروش. لماذا لا تفهم زوجتي هذا الوضع؟ هذه المرأة العامية الأمية تريد المساواة المطلقة أيضاً؟!).

**


- (بين الكبار أجدُ نفسي، بستانٌ وحفلٌ، وكؤوسٌ مترعةٌ تمشي فوق (الصواني)، والبدلاتُ الأنيقةُ والثيابُ العربيةُ الصحراويةُ منتفخةٌ بالهواءِ والغرور، ورؤوسٌ كثيرةٌ فارغة، ومحمود يقدمني لشخصياتٍ متفحمة تطلقُ آخرَ حرارتها، ولا ينقذني من العذاب سوى خميس الواقف بعيداً قرب شجرة يكاد يتوارى بها من الخجل!).

- (بين الصغارِ أمشي وأستنطقُ آهاتَهم، أكشفُ وجوهَ الحِرفيين في زقاقٍٍ طويلٍ معتم، وضرباتُهم على المعادنِ تثقبُ أذني.)

- (محمود يقول: أنت مدير التحرير وهذا مكتبك! أمسكُ القلمَ الأحمرَ وأشطبُ خطوطَ حريرٍ في وجوه الشباب. أمسكُ قصصاً مليئةً باللهبِ ونمورِ الغاباتِ المستأنسة وألقِ بها في السلة الضاجة بالمعاناة. في البستان أشربُ زجاجاتٍ مجانية، ومحمود يضحك، وثمة رجلٌ يرقصُ كامرأة، وثرثرة تصيبني بالغثيان).

يصوبون أصابعَهم نحوي، ينشرون وجعي، يضحكون عليّ هؤلاء المسوخ وهم يتتبعون كلماتي على الورق!

السيارةُ المليئةٌ بالوردِ وخميس يسوقُ ويضحك والموكبُ يصعد نحو تلة من النور، والبيتُ في الرفاع يجثمُ بين الشجرِ وحشدٌ من الصبايا والشباب والقمرُ يقفُ فوقَ الرؤوسِ على مرمى حجر، ووردةٌ هناك: أضحي بكلِ عمري من أجلِ أن أراهَا هكذا مبتسمةً جذلةً تتدفقُ بالحنو والألقِِ والوجود كله تحت قدميها!

- (فليحسدني العالمُ كلهُ، ورقي يطيرُ سعيداً منتشراً في كل مكان، سيمفونيات من وجوهٍ وألحان ونور تُرقصُ السيقانَ والأرواح، يا ليلتي العظيمة).

- (أصابعٌ حانيةٌ تلمسني برفق، الشمسُ لم تفجرْ نارَها بعد، الظلمةُ تمشي فوق الأرواح الناعسة، وردُ العرسِ مازالَ يعطرُ الأجواءَ بقوة، السريرُ ينتشي حباً، ماذا بكم تدقون عليّ الباب؟ لماذا تنزعونني من خلوتي؟ من هذه الليلةِ السحريةِ ونحن نحلقُ في عالمٍ آخر، نضحكُ ونثرثرُ ونقبلُ ونمضي معاً، لماذا أرى في وجوهكم البؤسَ؟ الأصباغُ إختلطتْ بالدموعِ والحفرِ في الوجوه؟ يقولون كلمات لا أسمعها، يهمسون بموتٍ في لحظةِ الولادةِ العظيمة، كأنهم مرعوبون من النطق، حتى أنتزعَ الضبابَ والبراكينَ من رأسي أحتاجُ للجلوس على هذه السجادةِ التي اكتوتْ بأقدامٍ وأحذية الفرح، حتى أستطيع أن أسمعَ عليَّ أن أنقعَ في ماءٍ من الثلج، وجوهُهم كبرتْ حتى صارت بأحجامِ شاشاتٍ واسعة، وأصواتُهم لا تجيءُ إلى سمعي، عن أي موتٍ يتحدثون الآن؟ خميس..! ما بهِ؟ وَدعني وهو مغمورٌ بنشواتِ الفرح، يمسكُ دفةَ القيادةِ ويرفعُ ذراعَهُ ويقذفُ وَرداً وقبلات في الهواء. مات!؟).

السيارة ترنحتْ في الطريق ورحل!

- (لو أنهم يَسكبون عليّ نفطاً! لم يجدوا إلا ذاتي الوديعةَ ينفذون عليها كل ما سجلتهُ الألواحُ القدريةُ البشعة؟! لمَ لمْ يختاروا شخصاً آخر؟ أأنا ينفذون بي حكم الأعدام في ليلةِ عرسي؟ لمَ لمْ أقل له نمْ هنا، تمسكْ بهذا الكرسي الواسع وابتعدْ عن الموت الذي أقامَ مصيدةً لك على بعد شارع! يا لأنانيتي نسيتُ كلَ شيء وقتلتُ رفيق عمري!)

- (لم أعد قادراً يا وردة على الذهاب للعمل، وشرب شاي الصباح، أبعدي يدكِ عن الزجاجة، لم أعد قادراً على النوم، كل هذه السوائل والحبوب والسجائر ورأسي مفتوحة للضجيج، أريدُ أن أسمعَ كلمةً واحدة فقط إن زوجتي لم تنتحر، إن ناراً غبية شبتْ في المنزل فجأة. إن تلك المرأة لم تمتْ من غيرةٍ أو كراهية، تلك الأصابع التي إنتشلتني من زقاق العبث، ماذا حدث؟ لماذا حين أحببتكِ قامتْ عليّ أعاصيرُ القدر؟ ماذا بقى لي، أنتِ، أنتِ، ابنائي الصغار، أنت تحضتينهم! حملتكِ كلَ أعبائي وكوارثي! ليلة العرس مأساة ويمتد خيط الأيام المرعبة بعدها!).

- (أغلقي البابَ يا وردة، النورُ يَصدمني. أريدُ أن أنام. البارحة زارني خميس، كان ممزقَ الثياب، مفتتَ العظام. السيارةُ إنقلبتْ به، وجثتهُ قفزتْ من الزجاج! ليس ثمة عدالة في هذا الكون، ثمة فوضى، ما فائدة العمل؟).

تحمله وردة إلى الشاطئ، يرى أن الشمسَ لا تزال موجودةً فوق البحر، أولاده يلعبون، الأسى الناقع في الأعماق مثل أمواج المحيط، الزجاجةُ لا تفارقُ أصابعه، ينهض، يمشي، يجري لصيد الكرة من أقدام صغاره.

- (يأخذني الليلُ وحيداً، الناس كلهم ناموا، وردة في غرفة أخرى لم تستطعْ أن تتحملَ كلامي وصمتي ودخاني. لم تعد تكلمني. تصيحُ بي: الثلاجةُ فارغةٌ، البيتُ بلا نور، ماذا بك؟ إلى متى تسكر؟ كلما قبضتَ على مالٍ إنطلقتَ لشراء الزجاجات الملعونة. احضنها بحبٍ غامر، تبتعد، انحني لأصابعها الرقيقة، لضوئِها الغامر، لجسدها حين يرتعش ويمتلئ بنور الصباح، لأصابعِها وهي تقدمُ الطبق، لكأسِها وهي تنادمني على التلة، على كرسيين يحيطنا الظلامُ والسماءُ والشجرُ والأشباح).

- (يدمدم محمود: محمد ماذا بك؟ كنتَ تشرب وتلهو ولكنك كنتَ تكتب، كنتَ تبدع، تتفجر طاقةً وحيوية، أما الآن فتجيء للجريدة وأنت أشبه بعجوزٍ محطم، تكادُ تزحفُ على يديك! ماتَ خميس منذ زمن، حادثٌ وانتهى! هل تظل تندبُ طوال حياتك؟ ماتَ عندنا مناضلون كثيرون في الأحداث، ماتوا بسببِ كلامنا، فهل نظلُ نبكي طوال العمر؟ الشرطةُ جاءتْ بسبب مقالك العنيف في الهجوم على القدر والسماء، وبحثتْ عنك، قلتُ لهم أنا الذي أمرتهُ بالكتابة وتحملتُ عنك!).

تلملمُ وردةٌ أشياءها، تبحثُ عن كتبِها وورقها، إسطواناتها، هدوئها، سكينتها، يدي تتغلغلُ في روحِها، تنفضها، تحضنها فتضرب ساعدي بعنف، تصرخ: لم أعدْ أحتملُ رؤيتك منذ الصباح وأنت تسكر! تفتحُ الثلاجةَ لتخطفَ الزجاحة، أكلمُ الأشباح هنا، تغضنتَ مثل حية، وصرتَ تعرج، غدا وجهك المنير السابق متغضناً، أذهبْ عني، أبحثْ عن مقبرة غيري، أريد أن أنقذ نفسي من هذا البيت الخراب!

- (من يداوي روحي غيرك، أمشي في بريةٍ موحشة، في مدينةٍ تصحرتْ وصدأتْ وصارت هياكلها البشرية من الحديد والرصاص، يقولون: وردةٌ هربتْ منك. فتحتُ لها أحضاني وعالمي وكلماتي ولكنها لاذتْ بالفرار من الجسد الذي تسكنهُ أرواحٌ متمردة، كلها تضجُ في الليل والنهار، لم تستطعْ أن تسمعَ صراخي بعبادتِها، فأنا لم أُولد إلا لها، لم أبقْ على ظهرِ هذه الحياة البائسة إلا من أجلِها، فلماذا تعاقبني على حبي؟ إنها تقدرُ أن تعيشَ بعيداً عني، أن تحرقَ رسائلي، وتقطعَ الهاتفَ في وجهي، وتحبَ غيري! كيف تستطيع أن تحبَ غيري؟!!).

- (أين أنا؟ أنا في خرابة كبيرة، ما هذه الجثث التي تمشي، خميس يحدقُ في وجهي ويقول: لماذا أنت مصر على هذه العيشة؟ بين السجاد القذر والعيش الدنيء، وفي مجتمع الغربة واللاكرامة؟! استطعتُ أن أنبضَ، ولدٌ هنا، كتابٌ هناك، سراجٌ مكسورٌ ساقطٌ في زقاق، إستطعتُ أن أزحفَ في ممر الجثث، أراسلُ وردةَ كل يوم، أكتبُ عنها سطوراً ينتفضُ الناسُ من أجلها، لكنها لا تعبأ بي. لا أستطيع أن أعيشَ بدونها!).

- (فلتعطني السفرات تحليقاً بعيداً عن بلدة النسور والأفاعي. أتسول التذكرةَ وأحلق، المالُ يتبخرُ بين أصابعي، بين الغيم والكؤوس والشجر والزحام والخمارات الصاخبة والنساء الراقصات والأبقار المقدسة أتجول، أتحدُ بطمي الأرض، بالمطر، أكتبُ مرئياتي، أرسلها، محمود مات أيضاً، كان ينصحني بالكف عن السفر والشرب والوحدة مع الوجود! من كثرة الأكل وضخامة الجسم مات! وأنا عود شفاف سيموت أيضاً، مللتُ هذا العالم، سئمتُ تكرارَ كل هذه المرئيات، جنتي كانت مع وردة، احتضانها، الحديث معها، العيش قربها، حين أخرج رأسي من الظلام وأراها قربي يهدأ قلبي، كل غليان رأسي يبرد).

- (من هذا الكائن الشبيه بالضب ويلبسُ بدلةً قديمة؟ هذا الذي تعبَ من الأمراض والعمليات والغياب عن الوجود؟ هذا الذي توقفتْ أصابعهُ عن العزفِ على الكلمات؟ هذا الذي يشرب شاحنةً من زجاجات النبيذ الأحمر؟ لا يأكل ويتركُ أمعاءَه تتمزق من السكاكين؟ هذا الذي يرحل في المادة والغثيان والنأي عن المحبوب؟ أتصلُ مراراً بها ولكنها لا تجيب، هذا الذي لم يعد ثمة شيء يفعله، ويموت وحيداً، مثلما كان وحيداً في رحلته الطويلة المتعبة، يلتصق به الآخرون لكن لا يقتحمون قوقعته، وحدها دخلتْ إليها. الخط يُفتح، ثمة حركةٌ في الجانب الآخر من هاتفها، صوتٌ يقترب مني، لعلها هي! أرجو! أموتُ من أجلِ كلمةٍ منها، لكن هذا الحس ليس صوتها، إنه زوجها.)

يا للخيبة!

- (نعم؟ من أنت؟ ماذا تريد؟)

- (أنا محمد..)

- (كيف أنتَ؟ لماذا لم تعدْ تكتب؟)

- (كنت أودُ أن أسمعَ صوتَ وردة.. صوت وردة، صوتها، وأموت!)

- (للأسف أنها ليستْ هنا.)

- (أيمكن أن تجيء؟ هل هذه خطواتها؟)

- (لا.)

- (بلغها تحياتي، أنا أغادر هذا العالم ولازلتُ أحبها.)

ينزفُ نبيذاً، يحلق، يسقط، يتقطع، الثلاجة مفتوحة خاوية، العمر ممتد خاو، الهاتفُ ساكن، يشرب، يشرب، ينزلُ الليل، يضيءُ النهار، تصيرُ الغرفةُ دامية، يتقطع، حتى يذوب ويتحد بصورتها.

22 مارس 2014

ــــــــــــــــــــــــــ

10 - إنهم يهزون الأرض! «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: رسالةٌ من بـينِ الأظافر - الأسود - عاليةٌ - جلسةٌ سادسةٌ للألمِ - غيابٌ - عودةٌ للمهاجرِ - دائرةُ السعفِ - الضمير - المحارب الذي لم يحارب - الموتُ حُبـَأً - إنهم يهزون الأرض! - حـُلمٌ في الغسق - رحلة الرماد - أعلامٌ على الماء - گبگب الخليج الأخير - المنتمي إلى جبريل - البق - رغيفُ العسلِ والجمر - عوليس أو إدريس - المفازة - قضايا هاشم المختار - أنشودة الصقر - غليانُ المياه».


تعليقات