خمــيــــس : قصةٌ قصـــــــيرةٌ ــ لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

 

منذُ عرفتُ هذا الرجلَ صارت أحوالي غريبة . كنتُ رباناً ذا سفينة صغيرة ، تصطفقُ ألواحها ، وهي تدبُ على الموجِ المشاكس وتتوغلُ في مساحات اليم البعيدة ، ويتجمعُ بحارتها الضعاف ، ذوو الهياكل العظمية المنحنية ، ويتساقطون في المياه كأنهم لن يرجعوا أبداً ، ويعودون بمحارٍ مليءٍ بالتراب والأعشاب ، يفلقونه لنجد لحماً متغضناً . ونعودُ بسفينتنا بأغانٍ كئيبة شاحبة لنقبعَ في برد الشتاء والدثارات الثقيلة .

في أحد النهارات القائظة ، ونحن نستعدُ لرحلةٍ بائسة جديدة ، وقف فوقي عملاقٌ أسود حجب الشمس ، وأراد أن يــُضاف إلى البحارة .

منذ أن صعد إلى ظهر السفينة تغير كلُ شيءٍ . أين ذهب ذلك القيظ الساخن ولماذا اندفعتْ الكفوفُ والحناجرُ لتشعل الشراعَ وتلتهبُ صفحةُ الماء ؟ وكيف بدا ذلك العملاق كأنه هو الذي يدفعُ السفينة جاثماً في مقدمتها فاتحاً دغلَ المياه الفوارة ؟

غاص في اليم طويلاً ، وذعرنا ، وخشينا أن لا يخرج أبداً ، لكن الرجلَ طلعَ فجأة ، بعينين حمراوين ، وكدس تلاً من المحار الكبير الغريب ، وما هو إلا نفس ، حتى عاد كرة أخرى إلى الأدغال الخفية ، وسمعنا كأن صوتاً جهورياً رخيماً ينسابُ في الأعماق ، هل كان يغني ؟ وما هذه الكتل المتعاظمة من المحار ؟ هل كان نجدة من السماء لإنقاذي ؟

في الليل شعرتُ بالسفينة تهتز ، نهضتُ . كانت الظلمة تخفي ملامحَ الأشياء والرجال . اقتربتُ من الأجساد المنهكة النائمة ، فلم أجده بينها ، وثمة وشوشة وهمس في المياه !

ارتعدتُ وأنا أندسُ في فراشي . أيقنتُ أن الرجلَ عفريت وتذكرتُ كيف بدا جسده الضخم ، وعضلاته القوية ، ونظرته الشفوقة الحنونة للمياه ، وكأنه سيذهبُ لمعانقة حبيبته ، وليس للانغمار في غبةٍ مليئةٍ بالضواري . وها هو الآن يثرثرُ مع أصحابهِ ، ويغني ، وربما غاصَ في الأعماق ، ونام في سريرهِ المائي بين قروش البحر وجنياته .

فتحنا محارَهُ لتدفق اللآلئ . كراتُ الضوء النارية تتفجر من بين اللحم الطري والرمل والأعشاب . تجمعتْ في يدي تلالٌ من الفضة المشتعلة ، ورأيتُ بيتي الصغير القزم المشوه يستحيلُ قصراً ، وأنا أغني في رحلةِ العودة ، والبحارة جسدٌ مشتركٌ من الفرح .

قربته مني ، أعطيته أغنى السمكات والأرز المضمخ بالزيت ، وضعته في صدارة مجلسي، تحدثتُ كثيراً عنه ، وهو صامتٌ ، هادئ ، تتراقصُ الطيورُ قرب عينه ، ذاهلٌ في ملكوتٍ خفي ، ربما كان يحدث أحداً الآن ، ويلقي بخيوطه لملكات الجن الساحرات ، ويبحرُ بين قصورٍ من ذهب ونار .

يداه العميقتا الغوص ، ملأتا خزانتي بالدرر ، لم تعد لي كوكبة من الهياكل العظمية الشائخة، بل جيوشٌ من الفتيان الضاجين بالصياح ، المندفعين إلى الأعماق ، وكتل من السفن العملاقة التي يرتجفُ البحرُ تحت خشبها الجبار .

ذهبتُ معه إلى الهند . أردتُ أن أفرحه بطعم النساء والمدن الغريبة . لكن الرجلَ كان يتركني ليتسرب إلى الأزقة ، ويصادق الحواة والسحرة والمهرجين . راح يخرجُ من جيوبه طيوراً وبيضاً ، ويمشي على نثار الزجاج ، والمسامير ، وهو يضحك . رأيتهُ مرة يطيرُ من نافذة الفندق . خفتُ . ارتعبتُ . هذا الرجلُ سيهلكني ويستولي على قصري وبناتي .

كانت الغرفة مغلقة ، وضوء المصباح الشاحب يرسمُ مارداً على الجدار . كان يراسل أجساماً لا مرئية ، وبدت بشرتهُ السوداء الصلدة كمنجمٍ ، أو غارٍ عميقٍ في الأرض .

ما الذي جعلني أثق به وأنام معه في غرفة واحدة ؟ عرقي غزير وهو لا يزال جاثماً على الكرسي ، يرفضُ أن ينام .

جاء الصباح المنقذ ، وذهبنا للميناء ، كان الجو صحواً ، بارداً ، وثمة هدوءٌ عميق ساحرٌ في الكون . قبل أن أركب السفينة أمسكني من يدي ، وهتف :

- لا ، لا يا عمي ، لن نذهب في هذا اليوم !

صرختُ به :

- ماذا بك ، هل جننت ؟

يدي كانت تحتجُ ، وفمي يضجُ بالشتائم ، إلا أنني كنتُ مرفوعاً على كتف هذا العملاق ، وحقيبتي الكبيرة بيده الأخرى .

حبسني معه في الغرفة . كنتُ ساخطاً لذهاب اليوم الجميل بدون البحر الأزرق الشفاف ، والمقعد في قبة المساء . غصتُ في الفراش اليابس المجعد وأحتسيت زجاجة كاملة .

كان الرجلُ كعادتهِ جامداً في مقعدهِ ، راحلاً في عوالمهِ الغريبة ، يتراسلُ مع فراشات نارية، ويجذف في مياهٍ بعيدة .

فجأة ارتعش المبنى ، اهتزت النافذة . تغير الكونُ كله ، رعودٌ وزوابعٌ ومياهٌ عنيفة تضربُ الجدران وتقلقل الأشياءَ . اختفى البحرُ وغاصت السفنُ في اللجج المجنونة .

نظرتُ إليه وصحتُ :

- من أنت ؟ من أنت ؟

نظر إليّ بدهشةٍ وقال :

- أنا عبدك خميس !

خميس ، هذه الأمساء الغريبة ، بزغت من مجاهل الغابات ورقصت في ساحاتنا بتعاويذها وصلواتها وحركاتها ، وضوعت بخورها في مسامنا الداخلية ، فرقصنا ورنا وانتشينا ، وغبنا ورحلنا في الأجساد الغضة ، وانهار الحليب والليمون والمسك ، أسيادنا وعبيدنا ، أشباحنا وكوابيسنا ، يواقيتنا وقمامتنا ، أواه . . متى تنتهي هذه العاصفة ؟

عدنا إلى البحر ومدينتنا . لا زال النضار الأبيض يتجمعُ في يدي ، صار الرجلُ هو الذي يمضي للبحر ، ويحصدُ بمنجلهِ الحاد اللؤلؤ ، ويلقيه في صناديقي . أضحك ، وأشعل أولادي ، واملأ البحر بالخشب والسواعد . .

وذات يومٍ لم يعد لهذا الذهب من قيمة ، صار تراباً . . غاصت السفنُ في القيعان ، وانطفأت السواعدُ وشحبَ البحرُ ، وفرغت الخزائن من الخبز والأرز . سرتُ في الطرق نادباً ، بيتي الشاهق لم يعد لي ، وعبيدي الذين يملأون الغرف هربوا ، ليس لدي سوى قروشٍ قليلة وعكاز قوي هو خميس أتوكأ عليه لنشر مراثيي .

سار بي هذا الجسد الصلدُ تحت مظلة الشمس ، وفي برارٍ بكرٍ ، وأنا مذهول لخطواته الحادة ، والأعشاب التي يحيلها إلى ماء ، والرملُ الذي يصيرُ ذهباً .

كانت جوقة كبيرة من الأجساد ، وحشدٌ هائلٌ من الأعمدة والقضبان والأكواخ والصيحات . ثمة أغرابٌ بيض يوزعون الأدوار ويبحثون في الأرض عن أشياء عجيبة .

انضم خميس إلى الجوقة ، وجثمتُ في كوخ أسجل الأنفار . كان يقودُ الجميعَ ويدورُ حول البئر ، ويغني صادحاً بأغنيات البحر ، يتحدُ الجميعُ وينهالُ المثقابُ في بطنِ الأرضِ ، ولا يظهر سوى ماءٍ وطين .

يحتار الأغرابُ في خرائطهم . خميس يسمعُ نبضَ الأرض ، يتذوقُ الأعشابَ والحصى ، ينصتُ إلى أصواتٍ عميقة ، ويدندن ، ويقودُ الجمعَ إلى بقعةٍ نائية . يحفرون . يتكتل البحر الأسمر الفاحم ، وتغتسلُ الأعمدة بالعرق والدم ، ويتفجرُ ماءٌ ثقيل أسود ، يرفع الأغراب قبعاتهم وزجاجاتهم ويشعلون الليل بالأنوار وأقواس اللهب .

يحيونني ، ويعطونني طاولة ودفاتر ورجالاً . خميس ينزفُ إلينا رجالاً من المصائد والأطلال ، وأنا أقودُ شاحنة مليئة بهم ، أقذفها تحت الآبار والآلات ، لتستحيل بيتاً كبيراً وسيارة سوداء كأنها ساحر ملموس .

الآن أتمدد في الظل مستريحاً ، أرقبُ طوابير الرجال وهي تقتحمُ الصخورَ ، أشرب الزجاجات الباردة ، أدخن غليوني بلذةٍ وأبهةٍ .

وذهلتُ ذات يوم ! كان ثمة ثلة من الرجال يحملون جسداً ممزقاً . لم يخطر ببالي أبداً أن يكون هذا المقطَّع هو خميس ذاته . خميس بلا ساق . ودم كالنافورة يشخبُ من ينابيعه الداخلية الفوارة . تجمدتُ . ماتت الكلماتُ داخلي . انطفأت المشاعر والأفكار .

من هذا الصائح النائح ، كتلة اللحم المهروسة ؟ أيعقل أن يصير خميس طعاماً لأسنان الآلة؟ أيغيبُ هذا النجمُ عن سمائي وأعودُ للرمل ؟

قدتهُ بالشاحنة إلى المستشفى . لن يعد قادراً على شيء . ربطوا ساقه ، وأقفوا النزيف الذي أحاله إلى ليمونة يابسة . اشتريتُ له فواكه وخضروات وخبزاً . دفعتُ له حقوقه المالية وأنا أرتجفُ من الحسرة . .

منذ ذلك اليوم انقطعت صلتي بخميس . بدا أن تعاويذه الجميلة انزرعت في أيامي . ازهرت منزلاً كبيراً . سافرتُ كثيراً . امتلأن خزائنُ شركاتي  ومتاجري بالمال . وفي رفةِ كلِ زمنٍ كنتُ أتذكرهُ ، وأتحسرُ على غيابه ، وأحنُ إلى وجوده الفائض بالنعم .

لكنني لم أذهب ولا مرة واحدة إلى منزله ، وحين تذكرتُ ذلك وأنا أدهس الأزقة الضيقة القذرة بسيارتي الكاديلاك العملاقة ، تشوقتُ إلى رؤيته .

قادتني الأيدي العصي للصبية إلى كوخٍ حقير مهترئٍ ، دهشتُ . سمعتُ بكاءً .

ثم رأيتُ خميساً على ناصية الشارع ، وهو يقودُ عربة بيع . كان ثوبه يستر جسده المقطوع، وذهلت عندما رأيته يجمعُ الصبية والناس ليرقص ويغني ويقدم ألعابه السحرية بكلِ حفةٍ ومرح !

ــــــــــــــــــــــــــــ

سهرة (قصص)، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1994 .

 

❃❁✾❈✤

القصص القصيرة:

1 - لحن الشتاء «قصص»، دار الغد، المنامة_ البحرين، 1975.

«القصص: الغرباء - الملك - هكذا تكلم عبد المولى - الكلاب - اغتيال - حامل البرق - الملاذ - السندباد - لحن الشتاء - الوحل - نجمة الخليج - الطائر - القبر الكبير - الصدى - العين».

2 - الرمل والياسمين «قصص»، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1982.

«القصص: الفتاة والأمير - علي بابا واللصوص - شجرة الياسمين - العوسجالوجه - الأرض والسماء - المصباح - نزهة - الصورة - اللقاء - لعبة الرمل- الأحجار - العرائس - الماء والدخان».

3 - يوم قائظ «قصص»، دار الفارابي، بيروت، 1984.

«القصص: الدرب - أماه... أين أنت - الخروج - الجد - الجزيرة».

4 - سهرة «قصص»، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1994.

«القصص: السفر - سهرة - قبضة تراب - الطوفان - الأضواء - ليلة رأس السنة - خميس - هذا الجسد لك - هذا الجسد لي - أنا وأمي - الرمل والحجر».

5 - دهشة الساحر «قصص»، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، 1997.

«القصص: طريق النبع - الأصنام - الليل والنهار - الأميرة والصعلوك - الترانيم - دهشة الساحر - الصحراء - الجبل البعيد- الأحفاد - نجمة الصباح».

6 - جنون النخيل «قصص»، دار شرقيات، القاهرة 1998.

«القصص: بعد الانفجار - الموت لأكثر من مرة واحدة! - الأخوان - شهوة الدم - ياقوت - جنون النخيل - النوارس تغادر المدينة - رجب وأمينة - عند التلال - الأم والموت - النفق - ميلاد».

7 - سيد الضريح   «قصص»، وكالة الصحافة العربية، القاهرة، 2003.

«القصص: طائران فوق عرش النار - وراء الجبال - ثنائية القتل المتخفي - البركان - سيد الضريح وتر في الليل المقطوعأطيافرؤيامحاكمة على باباالحارس».

8 - الكسيحُ ينهض «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: الشاهدُ.. على اليمين - الكسيحُ ينهض - جزيرة الموتى - مكي الجني - عرضٌ في الظلام - حفار القبور - شراء روح - كابوس - ليلة صوفية - الخنفساء - بائع الموسيقى- الجنة - الطائر الأصفر - موت سعاد - زينب والعصافير - شريفة والأشباح - موزة والزيت - حمامات فوق سطح قلبي - سقوط اللون - الطريق إلى الحج - حادثة تحت المطر - قمرٌ ولصوص وشحاذون - مقامة التلفزيون - موتٌ في سوق مزدحمٍ - نهاياتُ أغسطس - المغني والأميرة».

9 - أنطولوجيا الحمير «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: انطولوجيا الحمير - عمران - على أجنحة الرماد - خيمةٌ في الجوار - ناشرٌ ومنشورٌ- شهوة الأرض - إغلاقُ المتحفِ لدواعي الإصلاح - طائرٌ في الدخان - الحيُّ والميت - الأعزلُ في الشركِ - الرادود - تحقيقٌ - المطرُ يموتُ متسولاً - بدون ساقين - عودة الشيخ لرباه - بيت الرماد - صلاةُ الجائع - في غابات الريف - الحية - العـَلـَم - دموعُ البقرة - في الثلاجة - مقامات الشيخ معيوف».

10 - إنهم يهزون الأرض! «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: رسالةٌ من بـينِ الأظافر - الأسود - عاليةٌ - جلسةٌ سادسةٌ للألمِ - غيابٌ - عودةٌ للمهاجرِ - دائرةُ السعفِ - الضمير - المحارب الذي لم يحارب - الموتُ حُبـَأً - إنهم يهزون الأرض! - حـُلمٌ في الغسق - رحلة الرماد - أعلامٌ على الماء - گبگب الخليج الأخير - المنتمي إلى جبريل - البق - رغيفُ العسلِ والجمر - عوليس أو إدريس - المفازة - قضايا هاشم المختار - أنشودة الصقر - غليانُ المياه».

11 - ضوء المعتزلة «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: ضوء المعتزلة - جزرُ الأقمار السوداء - سيرة شهاب - معصومة وجلنار- سارق الأطفال - شظايا - الترابيون».

12 - باب البحر «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2020.

«القصص: وراء البحر.. - كل شيء ليس على ما يرام - قمرٌ فوق دمشق - الحب هو الحب - شجرة في بيت الجيران - المذبحة - إجازة نصف يوم - حادث - البائع والكلب - ماذا تبغين ايتها الكآبة؟ - إمرأة الربان - إذا أردتَ أن تكونَ حماراً - اللوحة الأخيرة - شاعرُ الصراف الآلي - البيت - حوت - أطروحةٌ - ملكة الشاشة - الغولة - وسواسٌ - مقامة المسرح - إعدام مؤلف - يقظة غريبة».


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من تقنيات القصة القصيرة عند القاص البحريني عبدالله خليفة (المكان في مجموعة سهرة أنموذجاً)

رواية «الأقلف» محاولة لتشكيل عالم مختلف