اللقـــــــــــــــــــــــاء : قصةٌ قصـــــــيرةٌ ـ لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة
1
رآه يحدقُ بهِ وقد استندَ على جدارِ بيتٍ شائخ . ساعدتهُ عصاهُ في الوقوف ، وأخذ يتفرسُ فيه ببصرهِ التعب ، وقد وضع يده فوق عينيه مظلة من عظامٍ ناتئة .
كانت الشمسُ قد مالتْ قليلاً عن كبدِ السماء ، وامتد البحرُ الساخنُ إلى أفقٍ لا يحد .تراقصتْ أضواء الشمس في أ‘ماقهِ فصار ينتفضُ بالبريق من وقتٍ لآخر ويلهثُ بأنفاسٍ حارة لافحة .
تلطع غلى البيوت فأبصرها مغلقة وقد راحتْ مكيفاتها تهدرُ في الطرقات . ليس ثمة سوى مجموعةٍ من الأطفال يلعبون تحت ظلِ عمارةٍ كبيرة وكأن الشمسَ ضربت الحصارَ على المدينة فاقفرت الطرقُ وأغلقت الأبواب .
سحب القاربَ ببطءٍ وشم جلد البحر الناضج . مسعَ الموجَ يوشوشُ الأحجار . كانت أصابع الماء البيضاء تظهرُ في الأ‘الي وتظلُ تتقدمُ حتى ترتمي واهنة تحت اللسان الحجري الممتد في الماء أو على الشريط الأسمنتي الذي تقفُ عليه المنازل ، تتلمسُ الأحجارَ لحظة ثم تتفتت وهي تضحكُ كأطفالٍ يصلون إلى نهاية سباقٍ طويل .
وضع السطلَ في القارب . دسَ يدَهُ في الماءِ فارتعش من برودته . وتلمس العلبَ وهي مترنحة فوق بعضها البعض فوجدها تسبح ثم تغطس بسعادة . تخيل الأصدقاء وقد تمددوا على رملِ الجزيرةِ الصغيرة ، وقد تصاعدت النشوة في رؤوسهم فتراقصت أضواءُ المدينة البعيدة كفيلمٍ تمثله ساحرات فاتنات . أتت الأمواجُ واستقلت بين اقدامهم وراحت تدغدغها . .
رآه يتزحزحُ عن الجدار ، هيكلاً عظمياً يتقدم بعسر . ساعدتهُ العصا قليلاً والأرضُ المتسوية . أين يريدُ أن يمضي ؟ بل ما الذي دفعهُ إلى التحجر عند الشاطئ وترك حجرته الآمنة ؟ !
وضعَ صندوقَ الأكلِ وغطاه جيداً . تسربتْ رائحة اللحم إلى انفه فودَّ لو تبدأ الرحلة الآن كي يتمضمض بالبيرة ويحكُ ظهرهُ برمل الشاطئ وهو يشمُ رائحة الشواء وينصت إلى الأحاديث الشجية . .
إنه يقتربُ ، قد قامر بصعود اللسان الحجري ، وبدا كمن يجمعُ أنفاسهُ المبعثرة ، وفي بالهِ هدفٌ جليلٌ لا بد من تحقيقهِ . .
كيف سارت الحياة هكذا ؟ أهذا الرجلُ المشوهُ كان ذات يومٍ عملاقاً لا يُردُ له قرارٌ في المنزل ؟ ! أهو نفسه الذي ابعدهُ عن الجامعة والقاهُ في الغابة الوحشية ؟ !
ووقفَ فوق رأسه . طقطقتْ عصاهُ فوق الأسفلت وتصاعد زفيرهُ ، وتلمستْ عيناهُ القاربَ بحنو ، لعلهُ يريدُ نقوداً . إن نقودَ التقاعد التي حصل عليها لا يعلمُ بها أحدٌ . خبأها في بنكٍ من البنوك ومضى يتسلفُ منهُ ليصرف على لذاتهِ الصغيرة المخبأة . والآن ماذا يريدُ ؟ إذا مدَ يدَهُ من أجل المال فسيشتمه .
أحس بأنفاسِ الشمسِ المتلهبة تخزُ وجهَهُ . أبعدَ عينيه عنه وتطلعَ إلى الشاطئ فرأى مجموعة من الألواح المحطمة والثياب تطفو فوق الماء وتقتربُ من البر . سمعَ الأمواجَ تؤنبُ الأحجار . وصاحَ طيرٌ حزينٌ في السماء .
- ماذا تريد . . . ؟
ودهش لأنه تلفتَ نحو البيوت ، لكأنهُ يخافُ أحداً من التنصتِ إليه ! ولكأن العزيزة المفقودة حطمتها السنون بفؤوسها القاطعة .
تطلعَ إلى وجههِ فرأى حجراً بحرياً درسهُ الموجُ والرياح العاتياتُ وسكنتهُ الكائناتُ الجائعة الضارية . . وبدت العينان الصغيرتان كقنديلين متوهجين في غبةٍ ظلماء .
ورآهُ يرمقُ البحرَ كعاشقٍ اضناهُ الهوى . تدلى الصمتُ ، وودَّ لو يريحهُ بطلبهِ المعتاد حتى يقذف في وجههِ النقودَ ويمضي مبتعداً . لا بد إنه يريدُ شراءَ زجاجة أضنتها الأيدي في بيتٍ من بيوت السعف . سيخبئها في جيبهِ ويسيرُ متمهلاً في الأزقة حتى يبلغَ المنزل فيدلفُ إلى حجرتهِ ويغلقُ الباب . سيتصاعد صوتُ نهامٍ قديم ، وسترفرفُ طيورُ البحر ، وربما تصاعدت غمغمته ويرتفعُ غناؤه فجأة !
لا بد إنه تعاطى مادة غريبة فجعلته يهذي . أكانَ لا بد للصمتِ والسكون أن يتصدعا بهذه الصورة ؟
- خذني إليه يا ولدي . إنني لم استعطفك مرة واحدة ، ولم امد يدي إلا الآن . إنني أشحذُ قطرة من الماء ولمعة صغيرة من الضياء . إنني اشحذ لمسة يدٍ في هول البحر ونهمة نهام في سكون الليل . أنس الأصحاب والأحباب وتذكر إني جئت إليك ابغي كلمة حب . كلمة حلوة في هذا الويل ، في هذا القيظ . أبغي نظرة وداع .
شيئاً فشيئاً جلس على الأرض وتمدد . وتألقتْ عيناه بدمعةٍ حائرة . يا له من جفنٍ تحجر ! كيف تسربتْ الدموعُ من هذا الجلد الناضب ؟ وأحس بشيءٍ ينمو في اعماقه . اطل كالبراعم ورفعَ رأسَهُ إلى السماء ، اشرأب إلى النور وبدأ يرتفعُ عن الحضيض . . تذكر لياليَّ الشتاءِ وصدرَهُ الواسع وحكاياتهِ عن البحر والأسماك والأعماق الغريبة ، والقهوة التي راح يحتسيها بلذةٍ . وأبصره يقودهُ إلى المدرسة وهو يرتجفُ خوفاً ولكنه يهدأهُ ، ويريهِ الحقيبة والقلمَ الطويلَ فيختفي في حضنهِ ، ورآهُ قادماً من العمل متسخ الثياب فتعلقَ بساقيه وبحثَ عن ثمرة ، عن عروسةٍ نصفِ محطمة . . وهو يضحكُ ويخبئُ الشيء بين يديه وخلف ظهره .
تطلع إلىالقاربِ والسطلِ والصندوق وتذكر أصدقاءه المنتظرين والليلة الرائعة والساحل الناعم الأبيض ووشوشات القمر وقطعَ الحطب المحترقة تحت اللحم وألسنة النار الفتية وأسراب الشرارات المتطايرة ، وهذا العجوز المتق ولغته التي استعارها من وهجِ الخمرةِ وانطفاءِ العمر . . فنهضَ وفكر في المساء القريب ، وتطلعَ غلى البيوت التي بدأت تفتحُ أبوابها ، وإلىالناس الذين اخذوا يسربون إلى الطرقاتِ فأيقن إنه يجب أن يتخذ قرارَهُ بسرعة .
ركبَ القاربَ فشاهد الأخشابَ وقطعَ الثيابِ تحاذيه ، كانت الملابس ممزقة . ويبدو إن عاملاً قد أصيب . إنها زرقاء قاتمة متسخة ببقعِ القار والزيتِ والدم .
- تعالْ أنزل ْ !
جاء العجوز بين الألم والفرح ، واستقر في المقدمة ز اهتز القارب وتكسرت المياه من تحته . .
2كان يغرفُ الماء بيده ، ويدعهُ ينسابُ من بين أصابعهِ ويرنو إلى الأزرق الممتد كما لو كان بيتاً قديماً عاد إليهِ بعد غربةٍ طويلة . أخذت المدينة تتضاءلُ خلفَهُ ، وراح البحرُ يتمددُ ويتسع ، وهبتْ نسائمٌ منعشة ، بينما تراخى قوس الشمس المشدود وتساقطتْ سهامها بعيداً .
كان يتفرسُ في الماء مدققاً ، وكأنهُ يقيسُ أبعاده أو يتعرفُ إلى ملامح وجهه القديمة . ثمة بسمة فرحة ترفرفُ في عينيه ، كرجلٍ يطرقُ بابَ اصدقائهِ القدامى ، فيشعُ وجههُ بالبشر منتظراً بين لحظةٍ وأخرى أن يبرزَ وجهٌ عزيزٌ حبيب .
اختفتْ المدينة ، وتمطى البحرُ في كل الجهاتِ ، وتراقصَ الزبدُ وراء القاربِ كخطٍ أبيضَ من طيورٍ تغوصُ قليلاً قليلاً . ودسَ يدَهُ مجدداً في السطل ووجد أن البرودة لم تفترْ بعد . أي ضيقٍ سيصيب أولئك المعلمين نتيجة لتأخرهِ ؟ ! لا بد انهم سيغرقن في الضحك حين يعرفون الطابعَ المجنونَ لنزهتهِ .
وولكن ها هي الطمأنينة تدخلُ قلبَ العجوز وها هو يمتعُ ناظريهِ باطلاله غير المرئية . ها هو يتلمسُ بقعة من الزيت . يتطلعُ إلى كلِ الجهات ، لا أحبابَ هنا ، ولا سفناً ولا لآلئاً ولا تحيات للجميع ولا زغاريدَ فرحٍ .
ايقن إن العجوزَ قد شبعَ من الذكرى فقال :
- ها قد انتهينا . .
فقاطعهُ على الفور :
- لا ! ليس بعد .
قالها كبحارٍ فتي يبحثُ عن مغاصةٍ جديدةٍ ملآى بالدرر . ربما بعثَ فيه البحرُ بعضَ القوة التي امتصتها المدينة . إنه يتمددُ بمهابةٍ ويحدقُ في الموجِ كأنهُ يقلبُ صفحاتهِ ويقرأهُ بيسر .
- اتجه إلى الشمال . . أدر الدفة قليلاً إلى اليمين . .
أين يريدُ أن يمضي ؟ هذا كلهُ ماءٌ ، فلا تختلفُ أية قطرةٍ عن أختها ، والقاعُ بعيدٌ مظلم لا يُرى ، والأعماق مجهولة للمبصرين فكيف بالشيوخ المعشيين ؟ !
إن رائحتهُ تفوحُ بالخمر وهو الذي أضناهُ بالضرب لعقبِ سيجارةٍ رآهُ في يدهِ . أين أبحر ذاك الزمانُ البعيد ؟
كان قد اختفى عن الناس ، واضطجعَ وراء القارب المقلوب على الساحل ، وأخذ يعدد الأمواجَ التي راحتْ تتسابق في الارتماء نحوه . ورشحَّ واحدة ضخمة بالوصول إليه . وقبل أن تصل رأى شيئاً يندفعُ نحوه . وإذا بعملاق يقفُ على أنفاسهِ ويمسكُ يديهِ ويربطهما بحبلٍ غليظ ويضربهُ على كفهِ ومعصمه فيرى العصا الغيظة ترتفعُ وتهوي بسرعة و(نوها) القاسي المبيض ينغرسُ في لحمهِ ، جاء صناعُ الشباك على أثر الصراخ وتدفقَ صبية من زقاق قريب ، نحوهما . صاح طالباً الرحمة ولكن كان الرجل قد جن .
يا له من وحش !
أخرج علبة دخانه الحديدية وتناول واحدة من سجائر اللف وأشعلها ويداهُ ترتجفان .
- ألم ننتهِ بعد ؟
سحب نفساً عميقاً . . عميقاً وبدا كما لو كان ملكاً يعودُ لعرشهِ .
- إن مقصدنا بعيد يا ولدي .
وغمغم حانقاً وفكر بأن ينفذ خاطرة قديمة عوت في نفسهِ . إن تنفيذها لا يحتاجُ سوى ضربة واحدة بهذه العصا الثقيلة التي يحملها هو ذاته ، ضربة تهوي على الرأس بقوةٍ وعنفٍ فيرتخي الجسدُ العظمي ويغوصُ في الأعماق . إلى متى يبقى هذا الشيخُ يطوفُ في الطرقات ويلقي بظلاله السوداء على الحياة ؟ متى يتلاشى برغباته الدنيئة وآماله المحبطة ؟ متى يزولُ بتسكعهِ وحشرجاتهِ وعكاكيزهِ ؟
- في هذا الطريق سرنا إلىالغوص للمرةِ الأخيرة . هي لحظة راسخة في النفس ، عميقة . تبدو لي الآن كما لو كانت تحدثُ حقاً . إنني أمسعُ أصوات الرجال وهم يجدفون . ها هي المجاديف تصفعُ الماء ، وأنفاس الرجال وأصواتهم تدبُ فوق البحر ، وصوت النهام ينطلق كأنه يصل إلى الشمس الحارقة . المجاديف تدفعُ السفينة والغناء والماء والآهات . . ألا تسمع الأصوات حقاً ؟ ألا ترى السفينة ؟
ونظر إليه . أهو يتحدثُ معه ؟ إنه يغمغم كما لو أصيبَ بهذيان مفاجئ ، والتفت فرأى سفينة بعيدة قادمة ، ولكنها ليست خشبية هزيلة ، بل سفينة حديدية ، لا شك أنها هائلة . إنه يقتاتُ على رممِ الأحلام ، ولكن متى يرحل ؟ إن الحجرة التي يشششغلها يمكن استغلالها كدكان . ومن يدري لعل لديه ثروة مخبأة . إنه مصرٌ على القاء حتى يرثَ الأرض . إن لديه طاقة غريبة على الصمود . .
- أظن إنها ليست سفينة من سفن الغوص . لقد مضى ذاك الزمان ، (النوخذا) و(الطواش) و(الغيص) واللآلئ والشطآن البيضاء والمصائد والينابيع والكلمة الطيبة . . كلها ولت . . كلها . .
اقتربت السفينة فرأى شاحنة زيت عملاقة . سمع أصواتاً حادة تتردد ، ولاحظ انبوباً يسكبُ زيتاً في البحرر ، تأوه طائرٌ غريبٌ متعبٌ في السماء ، ورفرفَ لحظة فوقهما ثم رحل بعيداً . واتجهت الشمسُ للغربو وانتشرت غلالة فضية في الماء والتهب الشفقُ وأوشك حريقٌ أن يشتعلَ في الأعالي . .
فكرَ بأن يرجع . إن الأصدقاء قد يئسوا الآن . ويجب ا، يعود . إن الأمر يحتاج إلى تصرفٍ قاسٍ فهو بمجرد أن يدير الدفة يكونُ كلُ شيءٍ قد تغير . لقد تورط بإطاعة هذا العجوز الأحمق ، الذي جاء ليجتر ذكرياتهِ في صحراء شاسعة بلا أطلال . ربما تدلت كلُ الرمال . تغيرت الأعماقُ فتكدس الحديديدُ والحصى وعظامُ العمال . . ولكن . . تذكر تلك الليلة الباردة التي دفعهُ فيها خارج البيت ، وظل يرتجفُ برداً ويدقُ البابَ بألم . . وراح يصرخ (افتحْ ، أفتحْ) لكنه تركهُ ، وتجمع الجيرانُ وتساءلوا عن جرمهِ ، وتطوعت امرأة عجوز لإيوائهِ داخل بيتها ، لكنهُ رفض ، وحين ابتعد الناسُ وتراكضت الأشباحُ في الأزقة ، وبكتْ الغيومُ فوق رأسه ، وزمجر رعدٌ شرس في الظلام ، انطلق إلى بيت المرأة العجوز وهو يفتت قلبه كرهاً . . تذكرَ سيرَهُ الوئيد في ساحة المدرسة ، وكيف اضطرب حين رآهُ في سيارة الشحن . ابتعد عن مكان العمل ، وتبينهُ وهو ينزلُ من السيارة ببطءٍ . ثم وهو يحملُ رفشه ويبدأ برفع الأنقاض .
وجدَ نفسَهُ فجأة يغازل العصا . ضربة عنيفة واحدة وينتهي الأمر . لمس طرفَها فأحس بها ثقيلة قوية . لا أحدَ في هذا الامتداد الشاسع والسفينة مضت إلى حيث لا يعلم . ضربة واحدة وينتهييي كلُ شيءٍ . المخاوفُ والأزعاج . ضربة واحدة وتنتقم لآلامك ، لذلك البؤس الذي انبتك فيه شجرة ملعونة . ولمسَ العصا ، وحدق في العجوز الذي بدا إنه اكتشف مغاصتهُ القديمة ، دعه يكشفُ قبرَهُ ، أما شبع من عصرِ ماءِ الحياة ؟ وابتسم وأشار إليه وتلاقت نظراتهما . وإذا به يرى المجاهل القديمة وبيوت السعف المنتشرة كالرمال والسواعد السمراء والأجسامَ الهزيلة وأدوات الكي والدور والصواري الدامية . .
ارتعشتْ يدُهُ .
- أريدُ أن تقتلني ؟ !
أحس بيدهِ تضغطُ على رقبته ، وشعرَ بألم عميق يحرقُ جوفَهُ . وبرقت العريضة التي لم يوقعها في بالهِ وفكر بأن قتل العجوز لن يحل مشكلته ، بل إن لا يتسطيع أن يرفع عينيه في وجهه .
- يف تصورتَ ذلك يا أبي ؟
- ولكن هذه النظرات . . وهذا السكون الغريب . . إذا كنتَ تريد أن تتخلصَ مني فالأمر بسيط ، ولكن لماذا ؟
- لا تتخيلْ أشياءَ وهمية . . إنني فقط كنتُ أتحسسُ العصا .
- منذ زمن طويل وأنت تريدُ أن تتخلصَ مني .
- كيف اتخلصُ منك وأنت . . ؟
- هذا ما كنتُ ألاحظهُ . أولادك تبعدهم عني ، وأنت لا تقل لي كلمة واحدة ، بل تتذمرُ وتتشكى من وجودي ، هل حسبتني ميتاً أو مجنوناً !
أوقفَ المحركَ فسار القاربُ قليلاً ثم سكن فوق الماء . ذاتب الشريطُ الأبيض الخلفي في الأزرق . . وتدلتْ الشمسُ فوق الأفق وكأنها غطستْ في اليم فاشتعل . . وسمعَ صوتَ طائرٍ كئيبٍ إلا أنه لم يجدهُ . وأبصر المغاصة القديمة وهي تتوهجُ بضوءٍ أحمر بهيجٍ . .
3
أنتفضَ العجوزُ فجأة وقال :
- دع ذلك الآن وانظرْ عالمنا . هنا وقفنا آخر مرة لم نجد سوى لآلئ صغيرة . . وكان (النوخذا) يعرفُ أثمانها جيداً . . وتساقط الرجالُ تعبين مشرحين . إنهم لا يستطيعون أن ينقذوه من الدين ، من بيع السفينة ، وتطلع النوخذا إلينا غاضباً ، ونظر إلى الموج بحنق . نحن أيضاً مكبلون بالديون والبحر والسفينة . وتناول سوطـَهُ وظل يلسع الأجسادَ العارية . اندفع صراخُهُ ، وكنا منهارين من التعب والألم ، وانتفض سوطهُ فوق وجوهنا وكنا صامتين ساكنين . .
سكت وتناولَ سيجارة من علبتهِ ، رآهُ يعودُ إلى هدوئهِ ، ولاحت منه إطلالاتُ فرحٍ غامضٍ ن فميا كانت الشمسُ تغوصُ وراءَ الأفق ، والظلامُ ينتشرُ في الماءِ والسماء .
طالعَ وجهَهُ وأضواءُ الغروب تكفنهُ فدهشَ لأنه نسي إن هذا الرجلَ قد أخرج لآلئ كثيرة مجهولة ، وأشاد بيوتاً عديدة ، وشق طرقاً . . ولكنهُ سيمضي بعد حينٍ دون أن يأبه به أحدٌ ، بل أن الفرحَ سوف يغمرُ قلبَهُ ، وسينظفُ حجرته الوسخة الكئيبة ويعدها كي تكون متجراً لائقاً .
وسمعهُ يسعلُ بشدةٍ ويبصقُ في الماء وبدا كما لو أنهُ نسي المغاصة وأخذ يحلمُ بزجاجةٍ رائعةٍ تنسيه الشقاءَ وتجعلهُ يضحكُ بسرورٍ يطفحُ من القلب . اقترب منه وأحسَّ فجأة أن هذا الرجلَ . . أبوه . هذا الإنسان المعروق ليس شبحاً ، وأضاءت السيجارة عينهي فرأى الهدوء فيهما . هذا الإنسان المطحون ليس خائفاً . ولمستْ يدُهُ شيئاً بارداً فتذكر الأصحابَ والرحلة والرمل والأإاني والنار . . لكنه أدرك إنه لن يذهب . سيبقى حتى يضحك العجوزُ ضحكته الأخيرة .
- وصرخ النوخذا (هيا انهضوا! ) واستمر سوطهُ في لسع الظهور والأكتاف ، ولكن فجأة انتزع أحدنا السوط . كاد النوخذا أن يسقط . قذف السوط في البحر . غضب بشدة واتجه إلى صندوقه . انتبه الرجالُ إلى الخطر . كنتُ قريباً ورأيتُ وجهه الساخط الأعمى يبحثُ عن مسدسه . اندفعتُ إليه وضربتهُ فوق يدَه . أحاط به الرجالل . قذفتُ مسسده في البحر . إن مسدسه غريب جداً ، وأظنُ إنه لا بد أن يلمع حتى بعد مرور هذه السنين !
ابتسم وراح يحدقُ في الماء الملظم ولكن لا شيء في هذه البقعة التي استلت الشمسُ روحَها . ترددتْ أوصاتٌ مبهمة فيها ، ولم يبق سوى البحر يسيرُ دائباً وقد أخذ يطلقُ حرارته الدفينة في الجو .
تعجب من البحث المضحك عن ضوءٍ في الأعماق ، وتذكر الورقة التي القاها أحدُ الملعلمين تحت ناظريهِ . رأى اسماء عديدة ، وقرأ سطوراً ملتهبة ، لكنه أبعدها . أنكمش حول دفاتره ومضى مبلبل الفكر . . وفجأة لمع ضوءٌ في القاع كأنه يسخرُ منه . تطلع غليه الزملاءُ ، فأحس بعرقٍ يلهبُ جلدَه ، ثم أخذ كتاباً وخرج من الحجرة .
تلمس عَرقاً ينمو فوق جبهته ، وأبصر أباهُ متمدداً بارتياح في مكانه ، وكأنه امتلك البحر ، ووجد مسافة كبيرة تفصله عنه ، ونما العرقُ في جسدهِ وطالع القسوة الواعية تنتصبُ أمامه بعيونها الماكرة ، شعر بالرغبة في البكاء ، وأبصر صدر أبيه مفتوحاً للنسائم البخيلة ، ووشوشت الأمواجُ صدرَ القارب وقالت شيئاً مؤلماً .
وتلمستْ يدَهُ شيئاً بارداً يميلُ للفتور ، فدسها في السطل وتذكر الرحلة المشنوقة والأصحاب والمدرسة والصغار والظلامَ والرعدَ والمطر وأعقاب السجائر والمسدس المتكلس في الأعماق ، فأخرج علتين وشعر ببرودتهما وسمع استياءهما ، فنظر إلى أبيه الصامت وهز العلبتين قليلاً قليلاً ثم فتحهما بحنو . . تطلع إليه بدهشةٍ . هل سيعنفهُ كما كان يفعلُ سابقاً ؟ ابتسم ، فقال له :
- ما رأيك أن نشربَ معاً يا أبي ؟
7/ 11 / 1978.
ـــــــــــــــــ
2 - الرمل والياسمين «قصص»، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1982.
❃❁✾❈✤
✗ القصص القصيرة:
1 - لحن الشتاء «قصص»، دار الغد، المنامة_ البحرين، 1975.
❖ «القصص: الغرباء - الملك - هكذا تكلم عبد المولى - الكلاب - اغتيال - حامل البرق - الملاذ - السندباد - لحن الشتاء - الوحل - نجمة الخليج - الطائر - القبر الكبير - الصدى - العين».
2 - الرمل والياسمين «قصص»، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1982.
❖ «القصص: الفتاة والأمير - علي بابا واللصوص - شجرة الياسمين - العوسج – الوجه - الأرض والسماء - المصباح - نزهة - الصورة - اللقاء - لعبة الرمل- الأحجار - العرائس - الماء والدخان».
3 - يوم قائظ «قصص»، دار الفارابي، بيروت، 1984.
❖ «القصص: الدرب - أماه... أين أنت - الخروج - الجد - الجزيرة».
4 - سهرة «قصص»، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1994.
❖ «القصص: السفر - سهرة - قبضة تراب - الطوفان - الأضواء - ليلة رأس السنة - خميس - هذا الجسد لك - هذا الجسد لي - أنا وأمي - الرمل والحجر».
5 - دهشة الساحر «قصص»، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، 1997.
❖ «القصص: طريق النبع - الأصنام - الليل والنهار - الأميرة والصعلوك - الترانيم - دهشة
الساحر - الصحراء - الجبل البعيد- الأحفاد - نجمة الصباح».
6 - جنون النخيل «قصص»، دار شرقيات، القاهرة 1998.
❖ «القصص: بعد الانفجار - الموت لأكثر من مرة واحدة! - الأخوان - شهوة الدم - ياقوت - جنون النخيل - النوارس تغادر المدينة - رجب
وأمينة - عند التلال - الأم والموت - النفق - ميلاد».
7 - سيد الضريح «قصص»، وكالة الصحافة العربية، القاهرة، 2003.
❖ «القصص: طائران فوق عرش النار -
وراء الجبال - ثنائية القتل المتخفي - البركان -
سيد
الضريح – وتر
في الليل المقطوع – أطياف
– رؤيا
– محاكمة
على بابا – الحارس».
8 - الكسيحُ ينهض «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.
❖ «القصص: الشاهدُ.. على اليمين - الكسيحُ
ينهض - جزيرة الموتى - مكي الجني - عرضٌ في الظلام - حفار القبور - شراء روح - كابوس - ليلة صوفية - الخنفساء - بائع الموسيقى- الجنة - الطائر الأصفر - موت سعاد - زينب والعصافير - شريفة والأشباح - موزة والزيت -
حمامات فوق سطح قلبي - سقوط اللون - الطريق إلى الحج - حادثة تحت المطر - قمرٌ ولصوص وشحاذون - مقامة التلفزيون - موتٌ في سوق مزدحمٍ - نهاياتُ أغسطس - المغني والأميرة».
9 - أنطولوجيا الحمير «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.
❖ «القصص: انطولوجيا الحمير - عمران - على أجنحة الرماد - خيمةٌ في الجوار - ناشرٌ
ومنشورٌ- شهوة الأرض - إغلاقُ المتحفِ لدواعي الإصلاح - طائرٌ في الدخان - الحيُّ والميت - الأعزلُ في الشركِ - الرادود - تحقيقٌ - المطرُ يموتُ متسولاً - بدون ساقين - عودة الشيخ لرباه - بيت الرماد - صلاةُ الجائع - في غابات الريف - الحية - العـَلـَم - دموعُ البقرة - في الثلاجة - مقامات الشيخ معيوف».
10 - إنهم يهزون الأرض! «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.
❖ «القصص: رسالةٌ من بـينِ الأظافر - الأسود - عاليةٌ - جلسةٌ سادسةٌ للألمِ - غيابٌ - عودةٌ للمهاجرِ - دائرةُ السعفِ - الضمير - المحارب الذي لم يحارب - الموتُ حُبـَأً - إنهم يهزون الأرض! - حـُلمٌ في الغسق - رحلة الرماد - أعلامٌ على الماء - گبگب الخليج الأخير - المنتمي إلى جبريل - البق - رغيفُ العسلِ والجمر - عوليس أو إدريس - المفازة - قضايا هاشم المختار - أنشودة الصقر - غليانُ المياه».
11 - ضوء المعتزلة «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.
❖ «القصص: ضوء المعتزلة - جزرُ الأقمار السوداء - سيرة شهاب - معصومة
وجلنار- سارق الأطفال - شظايا - الترابيون».
12 - باب البحر «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2020.
❖ «القصص: وراء البحر.. - كل شيء ليس على ما يرام - قمرٌ فوق دمشق - الحب هو الحب - شجرة في بيت الجيران - المذبحة - إجازة نصف يوم - حادث - البائع والكلب - ماذا تبغين ايتها الكآبة؟ - إمرأة – الربان - إذا
أردتَ
أن
تكونَ
حماراً - اللوحة الأخيرة - شاعرُ الصراف الآلي - البيت - حوت - أطروحةٌ - ملكة الشاشة - الغولة - وسواسٌ - مقامة المسرح - إعدام مؤلف - يقظة غريبة».
تعليقات