أطيــــــــــــــاف: قصة قصيرة لـ عبدالله خليفة

 



ـــ1ـــ

جاءه شبحٌ في الحلم وهتف به :

ــ أأنت مؤمنٌ أم كافر؟!

صرخة مدوية لم يسمعها جيداً ، فلم يُجب. رأى صراطاً على جانبيه لهبٌ ، وامرأة مجللة بالسواد .أدرك بعدئذٍ إنها أمه ، ثم جاء الدوي جلياً ، و دهش لأن الشبح يصعد على سلالم أعضائه .

أستيقظ على حصى تضرب نافذته المشروخة في أكثر من موضع .عثمان كان يتطلع  فيه بهيئته المرحة الساخرة. يقول:

ــ ألا تريد أن تنزل ؟!

ــ هيا أطلعْ..

ــ لا، لا، سأنتظرك هنا.

كانا قد جاءا في الليلة الماضية وأحدثا ضجةً ، فأستيقظ أبوه و لسان زوجة أبيه..

يسيران نحو الفندق. أمين يتطلع إلى عثمان بود ودهشة. منذ سنين حلم بهذه المشية ، وبهذا الوجه العظمي ، والجسد الهزيل ، منذ أن حُوصر في الصندوق الخشبي وسط الصحراء ، في ذلك المربع الرملي ، بين أنصاب التلال الحجرية والشمس المسنونة الحراب..

هذا الوجه الحبيب يعرفه ، إلتحما في معهد المعلمين ، بين الكتب والأشجار والسجائر ، تعاركا حول أخطر الكلمات في العالم. حين كان يزوره تفرح به أمه، ويقوم بالثرثرة معها في شئون الأكل والدجاج  و السحر ، وهو الذي علمه كيف يخترقان السوق ليدخلا شركة المشروبات الكحولية ، ويشتريان ست علب بيرة باردة ، لاتزال رطوبة معدنها اللاصقة بالكيس تبلل ريقه..

بعدها كانت الثرثرة عند دار الحكومة ، حيث كان البحر ملاصقاً لها وقتذاك ، وكانت السرطانات الصغيرة الطالع من الشقوق ، السوداء ، الكالحة ، الباحثة عن رزقها وحل الجزْر ، ترمقهما بحذر..

لم يدريا ما لون السماء ، ورائحة الغد المُفعمة بالرماد والنار ، مكتفيان بأرجلهما التي  تقودانهما إلى الباص والزقاق .

والآن هما معاً ، كأنه لم يفقد عمراً وأحباباً ، ويدخلان ليس دكةً من حجر تحتها أسراب سراطانات وقواقع ، بل بناءً عالياً ، كأنه معول هائل غائص في التراب ومندفع إلى الفضاء ، شكل قبيح، ومزوق  بالأقواس والأصباغ و الزجاج اللامع و البلاط المرهف .

يجلسان قرب الموسيقى والماء المتدفق في خيوط لؤلؤية متكسرة ، وعثمان يحدق فيه بنظرة غريبة ، انعكاسات وإلتماعات أشتعلت مع زبد البيرة ، كأنه ثعلب ينتظر غزالاً صغيراً ساذجاً عند النهر، أشياء صعدت في نفسه لم يحبها ، ثمة أمر محير لا يدري به ، هل لأنه لا يدفع، أو لأن عثمان يتباهى بالنقود ، أو لأنه يغازل النادلة الفليبينية بابتذال ؟!

شيءٌ ما صعد إلى رأسه ، شيءٌ ساخن ، من هذه الطاقة البخارية النارية التي تندفع إلى مسامه ، وتكهرب روحه..

يسأله:

ــ لماذا لا تشرب ؟

يُمسك خده ، و يحس بأذنيه تنتفخان .

ــ لماذا جئنا هنا ؟

يقول عثمان بحماس غريب :

ــ أشرب ! أنس ما تعلمته.. طالع الآن تجربة جديدة . لم تعد تلك الأفكار تعني شيئاً الآن. كل شيء تبدل. طالع بعينيك ، وأسمع بأذنيك ..أستخدم حواسك لتقرأ العالم !

يُحضر على غير رغبته عدة علب فتتكدس فوق الطاولة ، يشعل سيجارة وراء سيجارة ، الخيوط تلفهما ، وأمين لم يتعود مثل هذا الشرب ، قبل سنوات كان أقصى ما يشربه ثلاث علب ، وفي العلبة الخشبية المرمية في الصحراء كان  يحلم بزجاجة مشروب غازي ، والآن علب كثيرة وموسيقى ونساء من شتى الألوان ، وفساتين غريبة ، وعطور ثمينة ، وأغراب ممتلئون بالنقود والثياب والحقائب ، وبنايات تنمو في كل مكان ، وعدة مثاقيب تحفر في الأرض وفي رأسه وفي عمره ، وبينهم عتيق خرب ، وهو ضيف ثقيل في غرفة مكسورة الزجاج ، مضمضته مكروهة عند زوجة أبيه. السرير البسيط الذي كان يتصور إنه سيجده ، وينام عليه، حالماً به كامرأة ، لم يره، وعاث الخراب بغرفته ، وضاعت كتبه وأوراقه ، والآن أين سيذهب؟

لم يتكلم ، لم يقذف مشاعره بحبه لهذا الصديق ، الذي يقول كلاماً غريباً، وهو وعده أن يكمل أطروحته عن نيازك الأفكار في الصحراء العربية ، وهو الذي توحد بصورة باتريس لوممبا ، وبلاد الثلج الحمراء ، ماذا به؟ لا يفيق إلا ليسكر ، ولا يسكر إلا  ليهذي؟!


ــــ  2ــــ


حيه يغدو ورشة عمل ،البيوت الصغيرة الواطئة الجدران ، ذات الغرف الصغيرة التي تسمع هسهسة أسرتها في الدرب ،تثقب أمعاؤها ، تنثر أشياؤها الأليفة الرهيفة كالمصابيح القديمة ، مثلما كانت تنثر ملابس الموتى عند البحر ، خطواته مبعثرة ، وروحه مُلقاة عند أكثر من فوهة زقاق.

هنا كان المطوع ، هنا كان ذلك الكوخ الذي يُحفظ فيه القرآن ، وحوشه الرملي ، وزوجة المطوع التي كانت تغلي الأرز وتدعهم يكنسون البيت و"يسفطون " السمك ، ذلك السمك الرخيص ، وهو يشرد من عصا المعلم ولم يحفظ شيئاً ، وأخذته الكتب الجديدة ، ولم يُعد إلى القرآن .

والآن في هذه الليالي الموحشة ، حيث اختفى الرفاق ، ولم يعد يجد أحداً ، وكلما مر على طريق رأى خليةً محترقة، جذوة عتيقة انطفأت في عاصفة المعادن، في هذه الغرفة القديمة التي شهدت كل الوجوه، والأحذية السوداء، وانتزاع الكتب والقصاصات الثمينة، راح يقرأ القرآن، يحاول أن يجد في دروب الصحارى وجوه فتيانه، والسر في سيادة الرمل والقلاع.

تصبح خطوات أمين أثقل، وجيوبه فاضية، ويدهش من انتشار شعره الأبيض ، يرى في المرآة شظايا من وجه أمه. ذلك الصدر المفتوح المترهل الممصوص من ضغط الدم والسكر. ويسمع زوجة أبيه تغمغم في المطبخ، وتعدد القذارات التي يتركها..لا يعرف لماذا لا تحبه هذه المرأة، رغم كل هدوئه وعزلته ؟

يُباغت بضربات الحصى على النافذة .جاء عثمان إذن .وجاءت السكرة حتى الصباح، فلينقشع وجه زوجة أبيه، وليستقبل عثماناً وأصحابه المحشورين في السيارة المندفعة، وروائح  السجائر والبيرة  وتكة اللحم والبقل تفوح .

يقول له أحدهم إن صورته كانت معلقة على جدران جامعة باتريس، وأنهم الآن يهابون الجلوس معه، ولكنه يبدو..عادياً متواضعاً، وتساءل باستغراب : فلماذا حبسوك كل هذه المدة؟!

يعسكرون في خمارة رخيصة، صاحبها أحضر كل النفايات القديمة من أدوات  معدنية وكتب وأشياء، ووضعها على الرفوف المختلفة، المتغلغلة كالعروق في جسد الحانة المبعثر في الجهات ودروبها الضيقة الملتوية ، وظلماتها المتداخلة بأنوار شاحبة ، وبحماماتها الصغيرة الكريهة ، وسجادها العتيق النخر..

أصحابه مندفعون في سلاسل من الضحك والتعليقات التي لا تعطي منولوج عثمان فسحة للصعود. في إنكسارات الضجة القليلة يسمعه:

ــ ألقِ بالماضي في البحر. لم يُعد يفيدنا أولئك الأجداد ، وإلا لأعطونا شيئاً في مواجهة كل هذا الركام .. ليس سوى العصر ، أنظر زجاجاته وموسيقاه وأبنيته وجمال نسائه.. ماذا لدينا. .البراقع والدراويش وأسمال الفكر!؟

يندفع بقوة أحصنة العرب ، يغزو فراغ عقله، يُحدث فيه وشوشة معدنية ، وكل ٌ يتكلم عن مغامراته وخداعه للفتيات ، فيتناثر لعاب السوق السوداء ، والتجارة ببنطلونات الجينز وعلب الملبارو..

وكان الرجل الأشيب في الحزب يقول له: يجب أن تبقى في الوطن ،لا تفكر أنت بالسفر والدراسة !

الشلة تضحك على رجل ملتح دخل المكان خطأ ، تمتلئ الطاولة بالعلب والسجائر والطفايات الممتلئة بالبقايا المهروسة ، وتمسك الأيدي أجساد الأثيوبيات المقدمات للشراب اللواتي يضربن الأكف بدلال وغضب محسوب .

دخل رجلٌ قصير قوي وجلس قربهم ، وبدا مكفهرا حانقا و هو يرمقهم.

بدأ  أمين يدخل سرداب اللذة السري ، حين تتحول الفقاقيع إلى نشوة وتمرد ، وأحس إنه لا بد أن يضع حداً لإزعاج ممض فيه ، ألم العودة والإفلاس ، والغربة ، الغربة الفظيعة حيث يدور على البيوت المهجورة ، والمدينة ممتلئة بالأغراب ، وقلبه يسقط على الرصيف ولا ينتبه أحدٌ ، حنق كبير على هؤلاء الضاحكين النزقين..

لا يجد سوى أن ينهض ، ويغادر بغتة، تاركاً الجمع مذهولاً.

وفيما بعد، عرف عن الشجار الذي وقع ، واندفاع الرجل القصير القوي بزجاجة فارغة مسنونة الرأس نحو عثمان لأنه سمعه يشتم الإله..


ــــ  3ــــ


الطريق طويل إلى المجلة ، الحر فظيع، والضاحية التي يخترقها كانت بساتين وصارت مساكن لغرباء وموظفين مرفهين ، ورئيس التحرير المنتفخ لحماً يعتبره صيداً في  مجلته المدعومة من سفارة عربية. الصحفيون السودانيون مشردون مثله ، وكانوا غيمة باردة في وهج الصيف ، وتركوه ينزلق إلى أرض الحمى والقرى ، مصوراً العجائز وبقايا الفلاحين الذائبين في الأرض والأملاح ، المتبخرين مع الرطوبة النارية الصاعدة من البحر..

يختلط بموكب حسيني ، وتأتيه طرطشات الدم ، هنا يحلق عروة مذبوحاً في الصحراء ، وكل البدو الرعاة لم يصلوا إلى القصور، والسجاجيد مرسومة بخيوط الذهب وعروق المزارعين، ولم يستطع أن يتخلص من الزحام الحسيني ، وهو يرى السلاسل تغوص في جلد الظهر ، حافرةً خرائط عربية عميقة ، تمتد من الكوفة إلى روح الحسين ، يصير في النهر الفائض بالأشلاء والدماء سورة ،  يترنح من الرائحة و الألم و الشوك الذي ينغرز في العينين ، يتأمل النطع و السيف و رأس الزقاق المقطوع ، ويسمع صرخة الحلم فجأة " أأنت مؤمن..؟ " ، ورأى السور الكبير الذي قسم روحه ، وأشلاءه في كل الجهات ، ودهش هل هو الذي قطعت رقبته فها هو دمه في كل مكان..!

خلصه باص مزدحم من فوضى عارمة ، ورأى الطرق المتقاطعة ، وجلس على طاولة عثمان كأثاث فرعوني مستعمل ، ولم تنعشه الباروكات وزجاجات العطر والبيرة، وأحس بالقعر العميق الذي يملأه..

أسطوانة عثمان تدور:

ــ دعك من ..

تأتي امرأتان شقراوان وتخرجانه من الزمن الرملي .عثمان يدفق لهما المشروبات والخضروات والتعليقات الساخرة والنزقة ، وبقايا جرح الرجل القصير لا يزال فيه ، فيتلفت حذراً ، وأمين يتحلحل وينغمر في بشرة الزبدة المضيئة ورقائق التفاح وفيض الكمثرى بالضوء والحنان ، ويخرجون في كتلة متداخلة من السواعد والأفواه والأطياف ، ويحلون في تعريشة من النخيل و القبل والأطباق ، وتأتي زخات القرى المُحملة بالرطوبة والأنين ، فيضحك عثمان ويدغدغ المرأتين المنفجرتين بالصياح ، ويسمعون من ميكروفون ذكرى وفاة إمام.. ، ويرى أمين أسلاك برق ونار و رجالاً يعبرون المدى ، والشرق ذبيحة. أغفى ونام وصحا .

رأى ثلة كبيرة تحيط به . أمه وأبوه ورفاقه وجلاد وه وعثمان والمرأتان والعلبة الخشبية ، ومياه الشتاء النازلة عليها و ابلاً صارخاً ، وأشتد الكلام :

ــ حتى لو كانوا يؤمنون بالخرافات فهم أهلك !

ــ أنظر إنهم .. يتبركون بالوحل!

ــ تمائم وخرز وجيوب ملآى بالدم !

ــ يا سيدي أنفجر الهدى من السماء !

ــ الأرض تبعث والقيامة قريبة!

لم يفهم أمين لماذا سار وحيداً. وجد نفسه في أدغال القرى ، بين غابات النخيل المذبوحة التي صارت جذوعاً وقصوراً ، والشوارع المبلطة النظيفة المضاءة المحفوفة بالفلل ، تقود إلى أمعاء القرى ، إلى الدروب المفقؤة الأعين ، والى أزقة الأولاد العراة ، وكتل الحصى والسعف و العظام وأسلاك  الكهرباء المُعلقة فوق الرؤوس و" سلندرات " الغاز المتناثرة عند الجدران و المخابز الرثة وقدور الفول والحشود التي تغرف و الهياكل الشاحبة التي تسير بأزرار الأقراص و الإبر والأدعية .

جثم عند غرفة لها حوش بسيط . حدق فيه المالك العجوز بذهول . وظل ساعات هائماً في الحقول ، يغترف هواءً نقياً ، و يقيم صداقة مبكرة مع العصافير الوفيرة .

في الغرفة العارية العاطلة من السجاد والستائر ، على الحصير الذي اشتراه ، أمام التلفزيون الصغير المستعمل الذي بالكاد يقبض على شيءٍ من أجسام الفضاء ، وضع الأكلة الزاهدة وراح يمضغ ألذ وجبة بارتياح . وحينئذٍ سمع راديو الجيران وصوت المقرئ الذي نفذ إلى عظامه :

«ألم يجدكَ يتيماً فآوى » ؟ 

كان صوت أمه يشتعل واحتضانها يصهره : « أترك كل هذا، سأموت بسببك ! » . ويرى جسمه خلف قضبان " الجيب" بين هرم الكتب التي نزفها من رواتبه ، وهي تحترق ، فيغور في رمال الصحراء ، في عيس لا يصل إلى شيءٍ ، في صندوق خشبي ، عند التلال الحجرية والجنود يصوبون على أهدافهم البشرية ، والعالم ثقب صغير ، وقلم «ناشف» مُهرب يذكره بزرقة البحر والحرية..

كأن العمر كله ذهب هباءً ، و ها هو صمت عميق يلفُ الأرض ، والناس ثور الساقية الأبدي يجتر البرسيم ، ويعيد إنتاج السماد البشري ، فيدهش من هذا الحضور الخالد  لمعاوية، والغياب الدامي للحسين..


ــــ  4 ــــ


لم تتبدل أحواله بسهولة. يرى عثماناً ينثر آلاف الدنانير في سفراته المستمرة إلى تايلند ، و هو يجمع الأوراق القليلة من قروح جلده ، ويرمم عينيه بنظارات ، ويحتضن عثماناً العائد بحكايات غابة النسوة الكثيفة الملونة ، والجزر الفضية ذات  المياه  الزرقاء اللامتناهية و صخور الجبال العملاقة ، وكأن صاحبه يستمتع بتعذيبه وهو ينشر أسنان رحلاته في لحمه.

كلما عاد أمين توحد بالفراش ، وبغمغمة ميكروفون المأتم ، وكأنها منولوج تاريخي مع الألم والدم ، فيرسل سطوراً إلى الجهاز فيبتلع أصابعه .

يدور على الأحياء، يصادق الفتية والبرسيم والنمل ، ثم يتوحد بالفراغ .

يخاف على عثمان وصحته و نقوده فيحضنه خائفاً ليدفعه بغضب :

ــ أنت بلا جواز ، بلا مال ، بلا نساء ثم تدفن نفسك في كهف معتم.. وخرابة نخيل !

يراه  مُحاطاً بثلته الكبيرة ، القدور الممتلئة، والعُلب تغطي الطاولات ، يستلم عثمان أول دفعة من النساء الروسيات، فيصرخ :

ــ بدلاً من أن نتغرب ونُلاحق .. الآن هم هنا !

ثم يقول مداعباً إياهن جميعا وبالروسية:

ــ أهلاً بالرفيقات !

صور التلفزيون لا تشد النسوة المنغمرات في الدخان ، وساحة الكرملين الثلجية ملآى بالمتسولين. يندفع عثمان بين القدور التي تبقبق والممتلئة بالسمك والجمبري ، بين حشده الضاري ، يده لا تسقط العلبة أبداً، والسيجارة في زاوية فمه ، وبدلة المكتب الأنيقة ، ورباط العنق المُحكم ، وضحكاته الحادة المتقطعة ، غريبة...

يطالع كم صار هيكله عظمياً ناتئاً ، وامتصت السهرات كل بريقه ، وغدت ثرثرته مُنهكة، وتتصل حتى أذان الفجر  ، ولديه سيوف كثيرة يغمدها في الأصدقاء الذين خانوا، وفي الملتحين الذي تكاثروا رغم كل خطب جولاته في الفنادق ، وتتقطع السهرات بشجارات حادة ، وبالبكاء ، وبشحوب متصاعد للذاكرة..

يذهب إليه في مكتبه الصباحي . بدلة أنيقة و جليد. لا رفة من إبتسامة ولا زهرة من روح . تلاشت روائح المطاعم الرخيصة التي يندفع إليها مع الشلة الفائرة بالصحة والعضلات والإفلاس . وهو لا يكاد أن يأكل شيئاً ، وعلبة البيرة يخبئها دائماً في جيبه ، وتظهر من تحت المقعد ، وتتسرب كل نقطة إلى الوجه الحجري الظامئ أبداً ، وحين تلقيه السيارة يدخل البيت جامداً ، موقراً أباه أو أمه ويمضي إلى غرفته بهدوء مطبق.

يجمع عثمان أغراضه من المكتب ويقول:

ــ قدمت استقالتي..

ويعرف إنه فُصل! يأخذه بسيارته إلى الفندق.يحاول أن يجره بعيداً دون جدوى . يطلب نقوداً. يمضي محني الظهر نافخاً الدخان بشوق إلى العلب!


ـــــ 5 ـــــ


كانت القرية أدغالاً بشرية تتحرك نحو الشوارع ، كتلاً من الشعل تتساقط على البيوت والطرق..

ليس ثمة خبز أو ضوء ، والشوارع تحتلها فرق متضادة عنيفة ، والرؤوس تتفجر ، ويتراكض رجال صارخون في أعماق الحقول. يقذفون كتل النار . يرى الفلل تتوهج ، ثم تدوي سيارات الإسعاف والإطفاء..

لم يعد في بيته شيء ، والجنود يقتحمون المنازل ويضربون بالهراوات. وفي الليل يهجم المقنعون على كل ما يدب. امتلأت غرفته بدخان الإطارات المحترقة والقنابل المسيلة للدموع . وجهه ملفع بقماش مبلول ، وأصابعه تبحث عن الأسطر في الظلمات .

أنقذه «الفاكس» في التراسل مع كائناته المادية وراء خطوط النار.

عبر «النقال» راح يبحث عن عثمان . أحس بحاجته الغريبة إلى هذا المُفكك والتائه. وكانت الأصوات والعلامات تأخذه من بار إلى غرفة مؤجرة ، إلى فندق رخيص ، وإذا به يسمعه بعيداً ، هارباً من مطاردة الدائنين. 

جاءه صوته هادئاً ، منكسراً ، لكنه أستعاد مرحه ببساطة ، وكأن الغربة و الإفلاس والبطالة والملاحقات لا تهز فيه شعرة .لا يزال يسمع الموسيقى وثرثرة النساء ، يشرب الكؤوس الكثيرة ، وينام في غرفته الرثة ، ثم يصحو متحجراً ، ليبدأ في الظهيرة مشواره المخيف..

عثمان بدوره كان يصغي إلى المخبأ الذي ورط نفسه فيه ، ويضحك من نيران الحرية المتفحمة ، ويقول : ألق بالماضي ، فيصرخ: كيف، كيف؟!

رأى أمين نفسه كأنه في قعر العالم ، نازلاً إلى الأشباح و جثة تموز ، مدققاً في ملامح  المصلوبين ، وعثمان  فوقه بعيداً ، في قمة فندق مشتعل بالضوء ، وغاطس في المياه العميقة.

رقد محموماً ، سمع دقات من جاره ، وثمة أسياخ تنمو في بطنه ، كأن أحداً يطبخ البشر في قدور كبيرة ، ويوزع رؤوسهم الناضجة فوق أطباق الرماد .

يُرسل أوراقه و هو يرى الضوء الخافت و يسمع رنات حروفه وهي تتساقط في العالم الحي ، وتأخذ أصابعه المقطوعة وأسطوانات الغاز المتفجرة الصاعدة إلى عنان السماء في احتفال مدوٍ توزع لحم الفقراء على الملائكة ، ومولدات الكهرباء  وهي تغذي النهار بالنار والليل بالظلمات..

وإذا بثلة ملثمة تقتحم الغرفة ، تتوغل فوق أوراقه وكتبه ، تتطلع إلى بعضها البعض بدهشة ورعب ، تحدق  في أوراق الفاكس وتسحب الثعبان الطويل النائم ، وتقرأ وهي تسكب الكاز في إنحاء المكان ، تحيطه ألسنة النار و تكتب سطورها على جسمه ، رأى نفسه في العلبة الخشبية وسط الصحراء يكتب على ورق الصابون ، ويبصر الأشياء من ثقب خرقه مسمار صغير.  

ــــــــــــ

7 - سيد الضريح   «قصص»، وكالة الصحافة العربية، القاهرة، 2003.

 

❃❁✾❈✤

القصص القصيرة:

1 - لحن الشتاء «قصص»، دار الغد، المنامة_ البحرين، 1975.

«القصص: الغرباء - الملك - هكذا تكلم عبد المولى - الكلاب - اغتيال - حامل البرق - الملاذ - السندباد - لحن الشتاء - الوحل - نجمة الخليج - الطائر - القبر الكبير - الصدى - العين».

2 - الرمل والياسمين «قصص»، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1982.

«القصص: الفتاة والأمير - علي بابا واللصوص - شجرة الياسمين - العوسجالوجه - الأرض والسماء - المصباح - نزهة - الصورة - اللقاء - لعبة الرمل- الأحجار - العرائس - الماء والدخان».

3 - يوم قائظ «قصص»، دار الفارابي، بيروت، 1984.

«القصص: الدرب - أماه... أين أنت - الخروج - الجد - الجزيرة».

4 - سهرة «قصص»، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1994.

«القصص: السفر - سهرة - قبضة تراب - الطوفان - الأضواء - ليلة رأس السنة - خميس - هذا الجسد لك - هذا الجسد لي - أنا وأمي - الرمل والحجر».

5 - دهشة الساحر «قصص»، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، 1997.

«القصص: طريق النبع - الأصنام - الليل والنهار - الأميرة والصعلوك - الترانيم - دهشة الساحر - الصحراء - الجبل البعيد- الأحفاد - نجمة الصباح».

6 - جنون النخيل «قصص»، دار شرقيات، القاهرة 1998.

«القصص: بعد الانفجار - الموت لأكثر من مرة واحدة! - الأخوان - شهوة الدم - ياقوت - جنون النخيل - النوارس تغادر المدينة - رجب وأمينة - عند التلال - الأم والموت - النفق - ميلاد».

7 - سيد الضريح   «قصص»، وكالة الصحافة العربية، القاهرة، 2003.

«القصص: طائران فوق عرش النار - وراء الجبال - ثنائية القتل المتخفي - البركان - سيد الضريح وتر في الليل المقطوعأطيافرؤيامحاكمة على باباالحارس».

8 - الكسيحُ ينهض «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: الشاهدُ.. على اليمين - الكسيحُ ينهض - جزيرة الموتى - مكي الجني - عرضٌ في الظلام - حفار القبور - شراء روح - كابوس - ليلة صوفية - الخنفساء - بائع الموسيقى- الجنة - الطائر الأصفر - موت سعاد - زينب والعصافير - شريفة والأشباح - موزة والزيت - حمامات فوق سطح قلبي - سقوط اللون - الطريق إلى الحج - حادثة تحت المطر - قمرٌ ولصوص وشحاذون - مقامة التلفزيون - موتٌ في سوق مزدحمٍ - نهاياتُ أغسطس - المغني والأميرة».

9 - أنطولوجيا الحمير «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: انطولوجيا الحمير - عمران - على أجنحة الرماد - خيمةٌ في الجوار - ناشرٌ ومنشورٌ- شهوة الأرض - إغلاقُ المتحفِ لدواعي الإصلاح - طائرٌ في الدخان - الحيُّ والميت - الأعزلُ في الشركِ - الرادود - تحقيقٌ - المطرُ يموتُ متسولاً - بدون ساقين - عودة الشيخ لرباه - بيت الرماد - صلاةُ الجائع - في غابات الريف - الحية - العـَلـَم - دموعُ البقرة - في الثلاجة - مقامات الشيخ معيوف».

10 - إنهم يهزون الأرض! «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: رسالةٌ من بـينِ الأظافر - الأسود - عاليةٌ - جلسةٌ سادسةٌ للألمِ - غيابٌ - عودةٌ للمهاجرِ - دائرةُ السعفِ - الضمير - المحارب الذي لم يحارب - الموتُ حُبـَأً - إنهم يهزون الأرض! - حـُلمٌ في الغسق - رحلة الرماد - أعلامٌ على الماء - گبگب الخليج الأخير - المنتمي إلى جبريل - البق - رغيفُ العسلِ والجمر - عوليس أو إدريس - المفازة - قضايا هاشم المختار - أنشودة الصقر - غليانُ المياه».

11 - ضوء المعتزلة «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: ضوء المعتزلة - جزرُ الأقمار السوداء - سيرة شهاب - معصومة وجلنار- سارق الأطفال - شظايا - الترابيون».

12 - باب البحر «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2020.

«القصص: وراء البحر.. - كل شيء ليس على ما يرام - قمرٌ فوق دمشق - الحب هو الحب - شجرة في بيت الجيران - المذبحة - إجازة نصف يوم - حادث - البائع والكلب - ماذا تبغين ايتها الكآبة؟ - إمرأة الربان - إذا أردتَ أن تكونَ حماراً - اللوحة الأخيرة - شاعرُ الصراف الآلي - البيت - حوت - أطروحةٌ - ملكة الشاشة - الغولة - وسواسٌ - مقامة المسرح - إعدام مؤلف - يقظة غريبة».


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من تقنيات القصة القصيرة عند القاص البحريني عبدالله خليفة (المكان في مجموعة سهرة أنموذجاً)

رواية «الأقلف» محاولة لتشكيل عالم مختلف