جزيرة الموتي : قصة قصيرة ــ عبدالله خليفة

كأنها محارةٌ متلألئةٌ وسط البحر ، الأنوارُ ترتعشُ من بين أغصان الشجر ، وحولها ظلماتٌ مطبقة ، كأن كلَ كائناتِ الأراضي التحتية الشريرة تحدقُ بها ، ويمكنهُ أن يسمعَ أصواتها البشعة ، وهو يسوقُ سيارته في دربِها الحجري المرصوف.
الليلُ شديدُ الهدوء في هذا البحر ، والأبنيةُ الشامخةُ المضاءةُ الزجاجيةُ المتواريةُ في غابةِ النخيل ، والمسجدُ ذو المنارة العالية التي تصلُ لعناقيدِ السماء الخافتةِ التوهج ، كلها تبعثُ الطمأنينةَ في روحه القلقة.
يقول خادمهُ ضاوي ؛ (هل تصدق يا سيدي هذه الخرافات؟ هذا رجلٌ خرف ، أعطاك اللهُ طولَ العمر!).
هل كان يجب أن يعبثَ بهيبتهِ وسعادته الغامرة بالوقوف عند ذاك المسجد الرث؟!
كان يريدُ كعادتهِ أن ينزلَ ويحتفي بالناس ، ليحتفي به الخلقُ وتظهرُ صورُهُ في اليوم التالي ، وهو مغمورٌ برثاثِ البشر ، يوزعُ النورَ والماءَ والهواءَ علي جهاتِ الأرض.
لكن العجوزَ أفسدَ فرحته . كان قد رأي هذا الكهلَ وهو صبي ، في نفسِ هذه الخرابة ، وبنفسِ هذه البساطة العجيبة ، فتستندُ أمعاؤه الخاويةُ علي بضعِ نخلاتٍ ونبعٍ وبضعِ عنزات لا تزال تثغو في سمعهِ بعطنها الكريه.
وكلما كبرَ وفجّرَ الينابيع وأنشأ الأبنية الشامخة في الفضاء ، وضربَ السفنَ الجديدة بزجاجاتِ النبيذ لتمخر البحار ، وكلما افتتحَ المنازلَ الجديدة ودفنَ البحر وحوّلهُ إلي فنادق وحاناتٍ ومراقص وأسواق ، ظهرتْ صورةُ ذلك الكهل لتعبثَ بنومهِ ويتفجرُ وجهُهُ بأخاديدهِ العميقةِ وبخرائطِ العروق الغريبة وبعينيهِ المغلقتين كأنهما كهفان خـُتما بالشمع الأسود.
ترجلَ من سيارتهِ بهدوءٍ فتدافعَ بضعةُ رجالٍ نحوه ، وجاءتْ نسوةٌ في فساتين براقة ، وجوههن كأنها أقمار ، ضاحكات يشرحن القلب ، وهو قد تركَ العباءةَ الصحراوية المعتمة ، ولبسَ بدلةً ذات لون أزرق فاتح ، وبدا كرجلٍ فتي خرجَ من غرفةِ المساج وتركَ فيها ثلاثين سنة تذوبُ بين الأملاح والعطور والأشباح.
يتقدم ووراءه ثلتهُ المحتفية ، وكلما خطي بضعَ خطواتٍ بين الدهاليز والحجرات الواسعة والممرات ذات اللوحات والسجاجيد الفارسية الملأي برسوم الهوي وصيد الغزلان ، جاء آخرون وانحنوا بتوقيرٍ شديد ، ولكن فرحَهُ لا يزداد ، تظلُ المخاوفُ قابعةً في أرضهِ النفسيةِ الغائرة ، ومعها تماسيح ، ووجه العجوز ، قال له ضاحكاً ؛ (رغم إنني لا أؤمنُ بهذه الرؤي الكاذبةِ لكنني أريدُ أن تقرأ طالعي يا رجل!). أكان لا بد أن يعكرَ مزاجه بتلك المزحة؟ لقد فقعَ دملاً قديماً ويا للقيح الذي تفجرَّ منه!
يدخلُ القاعةَ الكبري . ما بال الأضواء تتراقصُ أمام عينيه ويسمعُ دويَّ الريح؟ كأن الهوي قد هوي ، والأرضُ ترتجف ، ورغم أن السادة الكبارَ نهضوا من مقاعدهم عند الطاولات الخضراء ذوات الألوان القزحية المفرحة ، وتسارعوا يحيونه وصاروا فرقةً تعزفُ لحناً ترحيبياً تقريضياً ، إلا أنه أحسَّ برأسِ شوكةٍ فوق قلبه .
أحاطوه وهو يقبضُ علي يدهِ بقوة ، وظهرَ وجهُ العجوز مفتوح العينين ، وفمه ذو الأسنان القليلة كأنهُ بحرٌ متلاطمُ الموج ، به جبلان أبيضان ، ومن هناك تتدفق كائناتُ القروش واللخم والحيتان وهي تأكل لحمه.
أسر لضاوي بكلمةٍ لكن الرجلَ لم يسمعه ، ودوت في السماواتِ المحيطةِ بالجزيرة صرخاتُ الرعود ، ومدَّ يديه ليتوجه القوم لطاولاتهم وقد عبسَّ وجههُ قليلاً ، وتراجع الرجالُ والنسوةُ اللواتي يحطن بهم بسرعة البروق التي انهالتْ علي المباني مثل سياط الشياطين في جهنم تضربُ الوحوشَ لتدفع الأثقالَ والبشرَ المجلودين المحروقين.
صرخ صاحبُ الرؤي الأعمي ؛ (سوف يكونُ هذا اليوم آخر عمرك يا رجل!) ، لم تغظهُ وقاحتهُ فحسب وهذه المساواة الرهيبة التي افترضها بينهما ، بل هذه الدعوة لموته وفنائه كأنه رب العالمين!
هذه الكلمةُ التي يكرهُها كرهاً لا حد له ، كل لحظة يفكر بها ، يملأ طائرته بالأدويةِ وبالأطباءِ والنساء والمغنين والمهرجين لكي تتواري ، تلاحقهُ سيارةُ إسعافٍ دائمة ، وكلما شعرَ أن بولَهُ يزدادُ دعا الطبيبَ المتجمدَ فيها لكي يقيسَ السكر ، وكلما ارتجف قلبهُ خارجَ السلم الموسيقي هرعتْ إليه الأجهزة ، ثلةُ الأطباءِ تظهرُ كلما تواري عن الناس ، وتغيبُ ظهروا ، وقد مدوا في جسدهِ أسلاكاً وخيوطاً ووضعوا آلاتٍ ومخارطاً وخرائط، يبدو للمشاهدين كأنه ممثلٌ مستمرٌ في أدوار البطل الأول وفتي الشاشة الأوحد ووراءَ عظامهِ غابةٌ من الورش.
الآن هذا الرجلُ الكهفُ مندوبُ السحرةِ والموتي يطعنهُ في صميمِ شبابهِ ؛ (سوف تموت هذه الليلة!) ، تجمدَ مرتعباً ، وصرخ ضاوي وآخرون علي المجنون الذي لم يرتعشْ ورفعَ هو ساقـَهُ ودفعهُ بحذائهِ دفعةً شديدةً فاختفي الرجلُ!
كان اختفاؤهُ أغربَ من نبؤتهِ!
عاد كبارُ القومِ إلي مقاعدِهم وهم مرهفون لشعيراتِ الوجه السامي ، لم يحبْ كلمة مثل (طويل العمر) ، وسواء زعل هؤلاء الناس أم فرحوا ، فثمة شكة دبوس في صدره ، وجلسَ علي مقعدٍ بضيق ، وتدريجياً وببطءٍ متعبٍ عادَ جسمُهُ للهدوء الرباني ، فتطلعَ للقوم وهم يقذفون الورقَ والكرات والنرد ، ويتبادلون قطعاً بلاستيكية كثيرة ويتطلعون لدوائر تهتز وكرات كأنها كواكب تـُضربُ وتزعقُ وتطلقُ النيرانَ في الصدور فتضحكُ الأفواهُ الواسعةُ والسجائرُ تتراقصُ في مغاراتهِا والضحكُ يتدفقُ يهزُ الكروشَ والأيدي الناعمة تترفق بالرؤوس والكؤوس .
صعقةٌ أخري علي نوافذِ القاعةِ الشامخة ، ضربةٌ مدويةٌ علي طبقاتِ السماءِ ، وكأن قطعاً من النجومِ سقطتْ ، فنبَّهَ ضاوياً لكي يري ما يحدثُ خارجاً ، فذهبَ وعادَ وقال أن الجوَّ عاديٌّ ، والقمرَ في مكانهِ المعتادِ لم يخرجْ عن القانون ، والشجرُ يسبحُ بمجدِ الملكوتِ ، والخرافُ ذُبحتْ وهي تـُشوي الآن علي أحسن ما يرام ولم تنزلْ عليها دمعةٌ واحدةٌ من السماء ، فتساءلَ ما إذا كان الرجلُ الأعمي الساحرُ هو سببُ هذه الصواعق الغريبة؟ لقد بحثوا عنه طويلاً في مسجدهِ فلم يعثروا عليه ، قلبوا بضعةَ مواعين ، واطلقوا سراحَ ثلاثَ حمامات ، وفتشوا الغنمَ اللواتي رحن يبكين بشكلٍ حزين ، ثم اكتشفوا نفقاً ضيقاً يمتدُ داخل الأرض ، ولم تفلحْ مصابيحُهم في التوغلِ للأعماق التي راحتْ تطلقُ أصواتاً أفزعتْ الخدم.
فكرَ بالديناميت والقذائف ، وأمرَ أن يُجلبَ الرجلُ من باطنِ الأرض منذ الفجر ، وسوف يكونُ تسليته الرائعة لبضعةِ أيام ، وتساءلَ بحرقةٍ : هل يعرفُ هذا الأعمي التافهُ معادلةَ الخلود؟!
ضربةٌ مدويةٌ أخري شرختْ جداراً ، رأي الجمعُ المبهورُ لوحةً علي الجدار لرجلٍ عملاقٍ ممـَّدٍ ومفتتٍ إلي أجزاءٍ وهو يتكلمُ إليهم ، فتطلعوا إليه وصفقوا ظانين إنه مشهدٌ سينمائيٌّ أُعدَّ لهم ، لكنه هو هز رأسَهُ نافياً مرتعباً.
الرجلُ في الجدار يُصدرُ كلاماً حقيقياً لكن برنين وتضخم مبهمين ، رأسهُ تنفصلُ عن صدرهِ، وتقفزُ في الفراغ ، وتستديرُ تغني بضجيجٍ معدني ممزقٍ للطبلاتِ ، يداهُ الطويلتان تحركان ماءً كثيفاً ملتهباً تـُشوي فيه رؤوسا ذات عيونٍ كبيرةٍ مخيفة .
نهضَ وأحاطهُ الخدمُ بأجهزتهِم الكثيرة ، وبحثوا في شاشاتِهم التي كانتْ بيضاءَ مشوشةً بخطوطٍ سوداء كأنها أسهمٌ متجهة دوماً لجهةٍ فارغة ، فراحوا يحركون الأزرةَ ويتكلمون في أجهزةِ الهواتفِ دون أن يردَ عليهم أحد .
فجأة انطفأتْ الأنوارُ والمكيفات . سادَ ظلامٌ مهيب ، وتفجرتْ صيحاتُ النسوةِ في بادئ الأمر ثم صيحاتُ المثليين فالرجالُ الأشداء.
الرجلُ في الجدار ، الرجلُ الممزَّق ، ركـّبَ رأسَهُ بين كتفيه ، وبان بوضوحٍ أشد ، فعرفَ أنه الكهلُ الأعمي ، لكنه هنا لبسَ نظارةً سوداء وغدا شاباً مليحاً يقودُ فرقةً موسيقيةً متواريةً مجنونةَ العزفِ ويهزُ عصاه لها.
ضربةٌ عنيفةٌ أخري علي الحائط فتصدعتْ النوافذ القوية المشروخة وتساقط زجاجُها مثل أسهم نارية ، تدفقتْ في كلِ الجهات وهي تلتحمُ بأشياءٍ وأجسادٍ صارخة .
ثم اندفعتْ كتلٌ سوداء مثل خِرجٍ مبلولة بذلك الماء الثقيل ، أو مثل كرات معتمة ، مغطاة بطبقةٍ من الحراشف ، وتساقطتْ بقوة ، فذعرتْ النساءُ ذعراً شديداً وهن يمسكن تلك الكائنات الغريبة اللزجة ، وحدثَ تصادمٌ وعراك ، وصعدتْ تلك الكائناتُ الطاولات الكبيرة وراحتْ تأكلُ الورقَ والكرات البلاستيكية والفواكه والخضراوات بنهمٍ ، واتضحتْ بعضَ الشيء مع الانغمارِ في العتمة . رأي هياكلَ عظميةً ، هياكلٌ بشريةٌ مرسومةٌ بعظامٍ وحشائش بحرية ، هي شديدةُ النهمِ لأي شيءٍ يُؤكل ، حتي باروكات النساء التهمتها بنشوة ، واحاطتْ به جماعةُ الخدم وهم يرفعون رشاشاتهم ويأخذونه للخارج ببطء رزين وحزين.
تطلعَ في ضاوي بقسوةٍ وضربهُ كفاً علي وجهه ، كان هو الذي اختارَ له هذه الجزيرة ، صرخَ: (ما هذا ؟ ما هذا ؟) ، التقدم نحو باب الخروج لم يكن سهلاً ، (كيف ورطتني مع أهل الأرض السفلي يا أحمق !) ، رد ضاوي ؛ (يا سيدي ليست هذه الجزيرة لأهلِ الأرضِ السفلي للأسف !) ، اندفع جسمٌ مضيءٌ قربهم ، مَرقَ كرصاصةٍ ، أطلقَ عليه خادمٌ زخةً من رشاشه فتناثرتْ أجزاؤه عظاماً مكسورة وورقاً يابساً وحشائش وسائلاً أخضر ذا رائحة كريهة وثمة قضيب صديء هو الباقي بعد إنزياح وذوبان الهلاميات الحارة.
اتسعتْ عيناه وجاءتهُ قوةٌ خفيةٌ عظيمةٌ في روحهِ ؛ (من هؤلاء يا كلب؟!) ، رد الآخرُ بأسي : (إنهم الموتي . السجناء الموتي يا طويل العمر !) .
منذ أن كان صبياً يري القواربَ تحملُ السجناءَ لما وراء الماء . نظراتـُهم الحزينةُ ، وجهوُهُم المتخشبةُ ، تلك الصباحاتُ المغسولةُ بالطلِ الحار ، الأغلالُ المخيفةُ ، كلُ هذا كان يجعلهُ يظن أنهم يُدفنونَ هناك ، أو يُلقون في اليم . لم يكن أحدٌ يظهر بعد ذلك منهم. كانت جحافل تختفي وراء ذلك الشجر السحري.
وحين امتدتْ أملاكهُ إلي كلِ مكان ، ومات أبوه تاركاً له مُلكاً عريضاً ، هجمَ ثلاثةُ سجناء هاربون ولاذوا بقصره ، وآذوه كثيراً . كسروا رجولته .
ومهما كانت عشيقاتهُ أو خسائرهُ في القمار ، أو مشكلاته مع المستخدمين وطمعهم ، فقد كانت هذه الجزيرة حلماً تطلعَ إلي إمتلاكه ، وظل السجناءُ هناك ، ظلوا كصخورِها ، كالأشجارِ العملاقة التي ميزتها عن الجزر الفارغة ، والجزر التي استولت عليها السلاحفُ والسراطاناتُ والقار ، وحين قدمها له ضاوي في إحدى الصفقات المشبوهة ، جاء ورأي إن الحشائشَ والنخيلَ والشواطئَ صارتْ قبوراً . وظلتُ جولاتهُ ودهسه للقبور لا تشفي غليله . وحذرهُ أحدُ الشيوخ المباركين أن يغيرَ شيئاً من معالم جزيرة الموتي ، وقال له إن الجزيرةَ إستقبلتْ جثثَ السحرةِ علي مدي ألف عام ، وأن كلَ محارةٍ ، وغارٍ ، وكلَ كهفٍ يحملُ أرواحاً سكنتْ بهدوء ، وظلتْ تعيشُ علي أجسادِ السجناء بأطمئنان.
وكان دائماً يضحكُ علي تلك السذاجات وهو يأتي محاطاً بباقةٍ من الحسناوات ، ويصرخُ في سكراتهِ الجموحةِ خاصة بعد الألعاب والصفقات الرابحة ؛ (اظهروا يا سادة يا كرام ، إنني الكريم ابن الكرام ، اتحداكم بقوة !).
وضجَّ رعدٌ فارغٌ فجأةً وانهمر حصي علي السيارات ، والهاربون يندفعون ويصطدمون بالحديد والزجاج والهياكل العظمية ، يرون أشياءهم الحديديةَ ممزقة ، لا تكاد تتحرك ، وحين تتحرك تضربُ تلك الأجسام ذات الجماجم الغريبة التي تحملُ كشافات فوقها ، وتدهسُها ، ولكن سيولاً منها تظهرُ من كل جهة . من التراب ، من لحاءِ الشجر ، من الكهوفِ التي كتبَ فيها السجناءُ ، من التلال ذات الأصداء والبروق .
أغلب الهجمات كانت تتجه نحوه ، طوابيرٌ تطيرُ نحوه بحماسٍ غيرِ معقولٍ ، جماعاتٌ منها تنزلُ من السماء التي تحولت نجومها إلي قصاصاتٍ وذراتٍ من الورق والنور ، ومن البحر كان التدفق الأعظم.
الرصاصُ المنهمرُ نفد ، وتمكنتْ تلك الأجسام من جر خدمه إلي الغيران والكهوف وهم يصرخون ، لكنه قذف السيارة في الظلمات الجسدية العشبية القضيبية وهي تتساقطُ عليه وتكَّون طبقةً من الرغوةِ الخضراء وتكسرُ الزجاجَ وتنفذُ إليه وتغرقهُ في مستنقع.
تعليقات