جزيرة الموتي : قصة قصيرة ــ عبدالله خليفة

 

كأنها محارةٌ‮ ‬متلألئةٌ‮ ‬وسط البحر‮ ‬،‮ ‬الأنوارُ‮ ‬ترتعشُ‮ ‬من بين أغصان الشجر‮ ‬،‮ ‬وحولها ظلماتٌ‮ ‬مطبقة‮ ‬،‮ ‬كأن كلَ‮ ‬كائناتِ‮ ‬الأراضي التحتية الشريرة تحدقُ‮ ‬بها‮ ‬،‮ ‬ويمكنهُ‮ ‬أن يسمعَ‮ ‬أصواتها البشعة‮ ‬،‮ ‬وهو يسوقُ‮ ‬سيارته في دربِها الحجري المرصوف‮.‬

الليلُ‮ ‬شديدُ‮ ‬الهدوء في هذا البحر‮ ‬،‮ ‬والأبنيةُ‮ ‬الشامخةُ‮ ‬المضاءةُ‮ ‬الزجاجيةُ‮ ‬المتواريةُ‮ ‬في‮ ‬غابةِ‮ ‬النخيل‮ ‬،‮ ‬والمسجدُ‮ ‬ذو المنارة العالية التي تصلُ‮ ‬لعناقيدِ‮ ‬السماء الخافتةِ‮ ‬التوهج‮ ‬،‮ ‬كلها تبعثُ‮ ‬الطمأنينةَ‮ ‬في روحه القلقة‮.‬

يقول خادمهُ‮ ‬ضاوي ؛‮ (‬هل تصدق يا سيدي هذه الخرافات؟ هذا رجلٌ‮ ‬خرف‮ ‬،‮ ‬أعطاك اللهُ‮ ‬طولَ‮ ‬العمر‮!).‬
هل كان يجب أن يعبثَ‮ ‬بهيبتهِ‮ ‬وسعادته الغامرة بالوقوف عند ذاك المسجد الرث؟‮!‬
كان يريدُ‮ ‬كعادتهِ‮ ‬أن ينزلَ‮ ‬ويحتفي بالناس‮ ‬،‮ ‬ليحتفي به الخلقُ‮ ‬وتظهرُ‮ ‬صورُهُ‮ ‬في اليوم التالي‮ ‬،‮ ‬وهو مغمورٌ‮ ‬برثاثِ‮ ‬البشر‮ ‬،‮ ‬يوزعُ‮ ‬النورَ‮ ‬والماءَ‮ ‬والهواءَ‮ ‬علي جهاتِ‮ ‬الأرض‮.‬
لكن العجوزَ‮ ‬أفسدَ‮ ‬فرحته‮ . ‬كان قد رأي هذا الكهلَ‮ ‬وهو صبي‮ ‬،‮ ‬في نفسِ‮ ‬هذه الخرابة‮ ‬،‮ ‬وبنفسِ‮ ‬هذه البساطة العجيبة‮ ‬،‮ ‬فتستندُ‮ ‬أمعاؤه الخاويةُ‮ ‬علي بضعِ‮ ‬نخلاتٍ‮ ‬ونبعٍ‮ ‬وبضعِ‮ ‬عنزات لا تزال تثغو في سمعهِ‮ ‬بعطنها الكريه‮.‬
وكلما كبرَ‮ ‬وفجّرَ‮ ‬الينابيع وأنشأ الأبنية الشامخة في الفضاء‮ ‬،‮ ‬وضربَ‮ ‬السفنَ‮ ‬الجديدة بزجاجاتِ‮ ‬النبيذ لتمخر البحار‮ ‬،‮ ‬وكلما افتتحَ‮ ‬المنازلَ‮ ‬الجديدة ودفنَ‮ ‬البحر وحوّلهُ‮ ‬إلي فنادق وحاناتٍ‮ ‬ومراقص وأسواق‮ ‬،‮ ‬ظهرتْ‮ ‬صورةُ‮ ‬ذلك الكهل لتعبثَ‮ ‬بنومهِ‮ ‬ويتفجرُ‮ ‬وجهُهُ‮ ‬بأخاديدهِ‮ ‬العميقةِ‮ ‬وبخرائطِ‮ ‬العروق الغريبة وبعينيهِ‮ ‬المغلقتين كأنهما كهفان خـُتما بالشمع الأسود‮.‬
ترجلَ‮ ‬من سيارتهِ‮ ‬بهدوءٍ‮ ‬فتدافعَ‮ ‬بضعةُ‮ ‬رجالٍ‮ ‬نحوه‮ ‬،‮ ‬وجاءتْ‮ ‬نسوةٌ‮ ‬في فساتين براقة‮ ‬،‮ ‬وجوههن كأنها أقمار‮ ‬،‮ ‬ضاحكات يشرحن القلب‮ ‬،‮ ‬وهو قد تركَ‮ ‬العباءةَ‮ ‬الصحراوية المعتمة‮ ‬،‮ ‬ولبسَ‮ ‬بدلةً‮ ‬ذات لون أزرق فاتح‮ ‬،‮ ‬وبدا كرجلٍ‮ ‬فتي خرجَ‮ ‬من‮ ‬غرفةِ‮ ‬المساج وتركَ‮ ‬فيها ثلاثين سنة تذوبُ‮ ‬بين الأملاح والعطور والأشباح‮.‬
يتقدم ووراءه ثلتهُ‮ ‬المحتفية‮ ‬،‮ ‬وكلما خطي بضعَ‮ ‬خطواتٍ‮ ‬بين الدهاليز والحجرات الواسعة والممرات ذات اللوحات والسجاجيد الفارسية الملأي برسوم الهوي وصيد الغزلان‮ ‬،‮ ‬جاء آخرون وانحنوا بتوقيرٍ‮ ‬شديد‮ ‬،‮ ‬ولكن فرحَهُ‮ ‬لا يزداد‮ ‬،‮ ‬تظلُ‮ ‬المخاوفُ‮ ‬قابعةً‮ ‬في أرضهِ‮ ‬النفسيةِ‮ ‬الغائرة‮ ‬،‮ ‬ومعها تماسيح‮ ‬،‮ ‬ووجه العجوز‮ ‬،‮ ‬قال له ضاحكاً‮ ‬؛‮ (‬رغم إنني لا أؤمنُ‮ ‬بهذه الرؤي الكاذبةِ‮ ‬لكنني أريدُ‮ ‬أن تقرأ طالعي يا رجل‮!). ‬أكان لا بد أن يعكرَ‮ ‬مزاجه بتلك المزحة؟ لقد فقعَ‮ ‬دملاً‮ ‬قديماً‮ ‬ويا للقيح الذي تفجرَّ‮ ‬منه‮!‬
يدخلُ‮ ‬القاعةَ‮ ‬الكبري‮ . ‬ما بال الأضواء تتراقصُ‮ ‬أمام عينيه ويسمعُ‮ ‬دويَّ‮ ‬الريح؟ كأن الهوي قد هوي‮ ‬،‮ ‬والأرضُ‮ ‬ترتجف‮ ‬،‮ ‬ ورغم أن السادة الكبارَ‮ ‬نهضوا من مقاعدهم عند الطاولات الخضراء ذوات الألوان القزحية المفرحة‮ ‬،‮ ‬وتسارعوا يحيونه وصاروا فرقةً‮ ‬تعزفُ‮ ‬لحناً‮ ‬ترحيبياً‮ ‬تقريضياً‮ ‬،‮ ‬إلا أنه أحسَّ‮ ‬برأسِ‮ ‬شوكةٍ‮ ‬فوق قلبه‮ .‬
أحاطوه وهو يقبضُ‮ ‬علي يدهِ‮ ‬بقوة‮ ‬،‮ ‬وظهرَ‮ ‬وجهُ‮ ‬العجوز مفتوح العينين‮ ‬،‮ ‬وفمه ذو الأسنان القليلة كأنهُ‮ ‬بحرٌ‮ ‬متلاطمُ‮ ‬الموج‮ ‬،‮ ‬به جبلان أبيضان‮ ‬،‮ ‬ومن هناك تتدفق كائناتُ‮ ‬القروش واللخم والحيتان وهي تأكل لحمه‮.‬
أسر لضاوي بكلمةٍ‮ ‬لكن الرجلَ‮ ‬لم يسمعه‮ ‬،‮ ‬ودوت في السماواتِ‮ ‬المحيطةِ‮ ‬بالجزيرة صرخاتُ‮ ‬الرعود‮ ‬،‮ ‬ومدَّ‮ ‬يديه ليتوجه القوم لطاولاتهم وقد عبسَّ‮ ‬وجههُ‮ ‬قليلاً‮ ‬،‮ ‬وتراجع الرجالُ‮ ‬والنسوةُ‮ ‬اللواتي يحطن بهم بسرعة البروق التي انهالتْ‮ ‬علي المباني مثل سياط الشياطين في جهنم تضربُ‮ ‬الوحوشَ‮ ‬لتدفع الأثقالَ‮ ‬والبشرَ‮ ‬المجلودين المحروقين‮.‬
صرخ صاحبُ‮ ‬الرؤي الأعمي ؛‮ (‬سوف يكونُ‮ ‬هذا اليوم آخر عمرك يا رجل‮!) ‬،‮ ‬لم تغظهُ‮ ‬وقاحتهُ‮ ‬فحسب وهذه المساواة‮ ‬الرهيبة التي افترضها بينهما‮ ‬،‮ ‬بل هذه الدعوة لموته وفنائه كأنه رب العالمين‮!‬
هذه الكلمةُ‮ ‬التي يكرهُها كرهاً‮ ‬لا حد له‮ ‬،‮ ‬كل لحظة يفكر بها‮ ‬،‮ ‬يملأ طائرته بالأدويةِ‮ ‬وبالأطباءِ‮ ‬والنساء والمغنين والمهرجين لكي تتواري‮ ‬،‮ ‬تلاحقهُ‮ ‬سيارةُ‮ ‬إسعافٍ‮ ‬دائمة‮ ‬،‮ ‬وكلما شعرَ‮ ‬أن بولَهُ‮ ‬يزدادُ‮ ‬دعا الطبيبَ‮ ‬المتجمدَ‮ ‬فيها لكي يقيسَ‮ ‬السكر‮ ‬،‮ ‬وكلما ارتجف قلبهُ‮ ‬خارجَ‮ ‬السلم الموسيقي هرعتْ‮ ‬إليه الأجهزة‮ ‬،‮ ‬ثلةُ‮ ‬الأطباءِ‮ ‬تظهرُ‮ ‬كلما تواري عن الناس‮ ‬،‮ ‬وتغيبُ‮ ‬ظهروا‮ ‬،‮ ‬وقد مدوا في جسدهِ‮ ‬أسلاكاً‮ ‬وخيوطاً‮ ‬ووضعوا آلاتٍ‮ ‬ومخارطاً‮ ‬وخرائط،‮ ‬يبدو للمشاهدين كأنه ممثلٌ‮ ‬مستمرٌ‮ ‬في أدوار البطل الأول وفتي الشاشة الأوحد ووراءَ‮ ‬عظامهِ‮ ‬غابةٌ‮ ‬من الورش‮.‬
الآن هذا الرجلُ‮ ‬الكهفُ‮ ‬مندوبُ‮ ‬السحرةِ‮ ‬والموتي يطعنهُ‮ ‬في صميمِ‮ ‬شبابهِ‮ ‬؛‮ (‬سوف تموت هذه الليلة‮!) ‬،‮ ‬تجمدَ‮ ‬مرتعباً‮ ‬،‮ ‬وصرخ ضاوي وآخرون علي المجنون الذي لم يرتعشْ‮ ‬ورفعَ‮ ‬هو ساقـَهُ‮ ‬ودفعهُ‮ ‬بحذائهِ‮ ‬دفعةً‮ ‬شديدةً‮ ‬فاختفي الرجلُ‮!‬
كان اختفاؤهُ‮ ‬أغربَ‮ ‬من نبؤتهِ‮!‬
عاد كبارُ‮ ‬القومِ‮ ‬إلي مقاعدِهم وهم مرهفون لشعيراتِ‮ ‬الوجه السامي‮ ‬،‮ ‬لم يحبْ‮ ‬كلمة مثل‮ (‬طويل العمر‮) ‬،‮ ‬وسواء زعل هؤلاء الناس أم فرحوا‮ ‬،‮ ‬فثمة شكة دبوس في صدره‮ ‬،‮ ‬وجلسَ‮ ‬علي مقعدٍ‮ ‬بضيق‮ ‬،‮ ‬وتدريجياً‮ ‬وببطءٍ‮ ‬متعبٍ‮ ‬عادَ‮ ‬جسمُهُ‮ ‬للهدوء الرباني‮ ‬،‮ ‬فتطلعَ‮ ‬للقوم وهم يقذفون الورقَ‮ ‬والكرات والنرد‮ ‬،‮ ‬ويتبادلون قطعاً‮ ‬بلاستيكية كثيرة ويتطلعون لدوائر تهتز وكرات كأنها كواكب‮ ‬ تـُضربُ‮ ‬وتزعقُ‮ ‬وتطلقُ‮ ‬النيرانَ‮ ‬في الصدور فتضحكُ‮ ‬الأفواهُ‮ ‬الواسعةُ‮ ‬والسجائرُ‮ ‬تتراقصُ‮ ‬في مغاراتهِا والضحكُ‮ ‬يتدفقُ‮ ‬يهزُ‮ ‬الكروشَ‮ ‬والأيدي الناعمة تترفق بالرؤوس والكؤوس‮ .‬
صعقةٌ‮ ‬أخري علي نوافذِ‮ ‬القاعةِ‮ ‬الشامخة‮ ‬،‮ ‬ضربةٌ‮ ‬مدويةٌ‮ ‬علي طبقاتِ‮ ‬السماءِ‮ ‬،‮ ‬وكأن قطعاً‮ ‬من النجومِ‮ ‬سقطتْ‮ ‬،‮ ‬فنبَّهَ‮ ‬ضاوياً‮ ‬لكي يري ما يحدثُ‮ ‬خارجاً‮ ‬،‮ ‬فذهبَ‮ ‬وعادَ‮ ‬وقال أن الجوَّ‮ ‬عاديٌّ‮ ‬،‮ ‬والقمرَ‮ ‬في مكانهِ‮ ‬المعتادِ‮ ‬لم يخرجْ‮ ‬عن القانون‮ ‬،‮ ‬والشجرُ‮ ‬يسبحُ‮ ‬بمجدِ‮ ‬الملكوتِ‮ ‬،‮ ‬والخرافُ‮ ‬ذُبحتْ‮ ‬وهي تـُشوي الآن علي أحسن ما يرام ولم تنزلْ‮ ‬عليها دمعةٌ‮ ‬واحدةٌ‮ ‬من السماء‮ ‬،‮ ‬فتساءلَ‮ ‬ما إذا كان الرجلُ‮ ‬الأعمي الساحرُ‮ ‬هو سببُ‮ ‬هذه الصواعق الغريبة؟ لقد بحثوا عنه طويلاً‮ ‬في مسجدهِ‮ ‬فلم يعثروا عليه‮ ‬،‮ ‬قلبوا بضعةَ‮ ‬مواعين‮ ‬،‮ ‬واطلقوا سراحَ‮ ‬ثلاثَ‮ ‬حمامات‮ ‬،‮ ‬وفتشوا الغنمَ‮ ‬اللواتي رحن يبكين بشكلٍ‮ ‬حزين‮ ‬،‮ ‬ثم اكتشفوا نفقاً‮ ‬ضيقاً‮ ‬يمتدُ‮ ‬داخل الأرض‮ ‬،‮ ‬ولم تفلحْ‮ ‬مصابيحُهم في التوغلِ‮ ‬للأعماق التي راحتْ‮ ‬تطلقُ‮ ‬أصواتاً‮ ‬أفزعتْ‮ ‬الخدم‮.‬
فكرَ‮ ‬بالديناميت والقذائف‮ ‬،‮ ‬وأمرَ‮ ‬أن يُجلبَ‮ ‬الرجلُ‮ ‬من باطنِ‮ ‬الأرض منذ الفجر‮ ‬،‮ ‬وسوف يكونُ‮ ‬تسليته الرائعة لبضعةِ‮ ‬أيام‮ ‬،‮ ‬وتساءلَ‮ ‬بحرقةٍ‮ : ‬هل يعرفُ‮ ‬هذا الأعمي التافهُ‮ ‬معادلةَ‮ ‬الخلود؟‮!‬
ضربةٌ‮ ‬مدويةٌ‮ ‬أخري شرختْ‮ ‬جداراً‮ ‬،‮ ‬رأي الجمعُ‮ ‬المبهورُ‮ ‬لوحةً‮ ‬علي الجدار لرجلٍ‮ ‬عملاقٍ‮ ‬ممـَّدٍ‮ ‬ومفتتٍ‮ ‬إلي أجزاءٍ‮ ‬وهو يتكلمُ‮ ‬إليهم‮ ‬،‮ ‬فتطلعوا إليه وصفقوا ظانين إنه مشهدٌ‮ ‬سينمائيٌّ‮ ‬أُعدَّ‮ ‬لهم‮ ‬،‮ ‬لكنه هو هز رأسَهُ‮ ‬نافياً‮ ‬مرتعباً‮.‬
الرجلُ‮ ‬في الجدار يُصدرُ‮ ‬كلاماً‮ ‬حقيقياً‮ ‬لكن برنين وتضخم مبهمين‮ ‬،‮ ‬رأسهُ‮ ‬تنفصلُ‮ ‬عن صدرهِ،‮ ‬وتقفزُ‮ ‬في الفراغ‮ ‬،‮ ‬وتستديرُ‮ ‬تغني بضجيجٍ‮ ‬معدني ممزقٍ‮ ‬للطبلاتِ‮ ‬،‮ ‬يداهُ‮ ‬الطويلتان تحركان ماءً‮ ‬كثيفاً‮ ‬ملتهباً‮ ‬تـُشوي فيه رؤوسا ذات عيونٍ‮ ‬كبيرةٍ‮ ‬مخيفة‮ .‬
نهضَ‮ ‬وأحاطهُ‮ ‬الخدمُ‮ ‬بأجهزتهِم الكثيرة‮ ‬،‮ ‬وبحثوا في شاشاتِهم التي كانتْ‮ ‬بيضاءَ‮ ‬مشوشةً‮ ‬بخطوطٍ‮ ‬سوداء كأنها أسهمٌ‮ ‬متجهة دوماً‮ ‬لجهةٍ‮ ‬فارغة‮ ‬،‮ ‬فراحوا يحركون الأزرةَ‮ ‬ويتكلمون في أجهزةِ‮ ‬الهواتفِ‮ ‬دون أن يردَ‮ ‬عليهم أحد‮ .‬
فجأة انطفأتْ‮ ‬الأنوارُ‮ ‬والمكيفات‮ . ‬سادَ‮ ‬ظلامٌ‮ ‬مهيب‮ ‬،‮ ‬وتفجرتْ‮ ‬صيحاتُ‮ ‬النسوةِ‮ ‬في بادئ الأمر ثم صيحاتُ‮ ‬المثليين فالرجالُ‮ ‬الأشداء‮.‬
الرجلُ‮ ‬في الجدار‮ ‬،‮ ‬الرجلُ‮ ‬الممزَّق‮ ‬،‮ ‬ركـّبَ‮ ‬رأسَهُ‮ ‬بين كتفيه‮ ‬،‮ ‬وبان بوضوحٍ‮ ‬أشد‮ ‬،‮ ‬فعرفَ‮ ‬أنه الكهلُ‮ ‬الأعمي‮ ‬،‮ ‬لكنه هنا لبسَ‮ ‬نظارةً‮ ‬سوداء وغدا شاباً‮ ‬مليحاً‮ ‬يقودُ‮ ‬فرقةً‮ ‬موسيقيةً‮ ‬متواريةً‮ ‬مجنونةَ‮ ‬العزفِ‮ ‬ويهزُ‮ ‬عصاه لها‮.‬
ضربةٌ‮ ‬عنيفةٌ‮ ‬أخري علي الحائط فتصدعتْ‮ ‬النوافذ القوية المشروخة وتساقط زجاجُها مثل أسهم نارية‮ ‬،‮ ‬تدفقتْ‮ ‬في كلِ‮ ‬الجهات وهي تلتحمُ‮ ‬بأشياءٍ‮ ‬وأجسادٍ‮ ‬صارخة‮ .‬
ثم اندفعتْ‮ ‬كتلٌ‮ ‬سوداء مثل خِرجٍ‮ ‬مبلولة بذلك الماء الثقيل‮ ‬،‮ ‬أو مثل كرات معتمة‮ ‬،‮ ‬مغطاة بطبقةٍ‮ ‬من الحراشف‮ ‬،‮ ‬وتساقطتْ‮ ‬بقوة‮ ‬،‮ ‬فذعرتْ‮ ‬النساءُ‮ ‬ذعراً‮ ‬شديداً‮ ‬وهن يمسكن تلك الكائنات الغريبة اللزجة‮ ‬،‮ ‬وحدثَ‮ ‬تصادمٌ‮ ‬وعراك‮ ‬،‮ ‬وصعدتْ‮ ‬تلك الكائناتُ‮ ‬الطاولات الكبيرة وراحتْ‮ ‬تأكلُ‮ ‬الورقَ‮ ‬والكرات البلاستيكية والفواكه والخضراوات بنهمٍ‮ ‬،‮ ‬واتضحتْ‮ ‬بعضَ‮ ‬الشيء مع الانغمارِ‮ ‬في العتمة‮ . ‬رأي هياكلَ‮ ‬عظميةً‮ ‬،‮ ‬هياكلٌ‮ ‬بشريةٌ‮ ‬مرسومةٌ‮ ‬بعظامٍ‮ ‬وحشائش بحرية‮ ‬،‮ ‬هي شديدةُ‮ ‬النهمِ‮ ‬لأي شيءٍ‮ ‬يُؤكل‮ ‬،‮ ‬حتي باروكات النساء التهمتها بنشوة‮ ‬،‮ ‬واحاطتْ‮ ‬به جماعةُ‮ ‬الخدم وهم يرفعون رشاشاتهم ويأخذونه للخارج ببطء رزين وحزين‮.‬
تطلعَ‮ ‬في ضاوي بقسوةٍ‮ ‬وضربهُ‮ ‬كفاً‮ ‬علي وجهه‮ ‬،‮ ‬كان هو‮ ‬ الذي اختارَ‮ ‬له هذه الجزيرة‮ ‬،‮ ‬صرخَ‮: (‬ما هذا ؟ ما هذا ؟‮) ‬،‮ ‬التقدم نحو باب الخروج لم يكن سهلاً‮ ‬،‮ (‬كيف ورطتني مع أهل الأرض السفلي يا أحمق‮ !) ‬،‮ ‬رد ضاوي ؛‮ (‬يا سيدي ليست هذه الجزيرة لأهلِ‮ ‬الأرضِ‮ ‬السفلي للأسف‮ !) ‬،‮ ‬اندفع جسمٌ‮ ‬مضيءٌ‮ ‬قربهم‮ ‬،‮ ‬مَرقَ‮ ‬كرصاصةٍ‮ ‬،‮ ‬أطلقَ‮ ‬عليه خادمٌ‮ ‬زخةً‮ ‬من رشاشه فتناثرتْ‮ ‬أجزاؤه عظاماً‮ ‬مكسورة وورقاً‮ ‬يابساً‮ ‬وحشائش وسائلاً‮ ‬أخضر ذا رائحة كريهة وثمة قضيب صديء هو الباقي بعد إنزياح وذوبان الهلاميات الحارة‮.‬
اتسعتْ‮ ‬عيناه وجاءتهُ‮ ‬قوةٌ‮ ‬خفيةٌ‮ ‬عظيمةٌ‮ ‬في روحهِ‮ ‬؛‮ (‬من هؤلاء يا كلب؟‮!) ‬،‮ ‬رد الآخرُ‮ ‬بأسي‮ : (‬إنهم الموتي‮ . ‬السجناء الموتي يا طويل العمر‮ !) .‬
منذ أن كان صبياً‮ ‬يري القواربَ‮ ‬تحملُ‮ ‬السجناءَ‮ ‬لما وراء الماء‮ . ‬نظراتـُهم الحزينةُ‮ ‬،‮ ‬وجهوُهُم المتخشبةُ‮ ‬،‮ ‬تلك الصباحاتُ‮ ‬المغسولةُ‮ ‬بالطلِ‮ ‬الحار‮ ‬،‮ ‬الأغلالُ‮ ‬المخيفةُ‮ ‬،‮ ‬كلُ‮ ‬هذا كان يجعلهُ‮ ‬يظن أنهم يُدفنونَ‮ ‬هناك‮ ‬،‮ ‬أو يُلقون في اليم‮ . ‬لم يكن أحدٌ‮ ‬يظهر بعد ذلك منهم‮. ‬كانت جحافل تختفي وراء ذلك الشجر السحري‮.‬
وحين امتدتْ‮ ‬أملاكهُ‮ ‬إلي كلِ‮ ‬مكان‮ ‬،‮ ‬ومات أبوه تاركاً‮ ‬له مُلكاً‮ ‬عريضاً‮ ‬،‮ ‬هجمَ‮ ‬ثلاثةُ‮ ‬سجناء هاربون ولاذوا بقصره‮ ‬،‮ ‬وآذوه كثيراً‮ . ‬كسروا رجولته‮ .‬
ومهما كانت عشيقاتهُ‮ ‬أو خسائرهُ‮ ‬في القمار‮ ‬،‮ ‬أو مشكلاته مع المستخدمين وطمعهم‮ ‬،‮ ‬فقد كانت هذه الجزيرة حلماً‮ ‬تطلعَ‮ ‬إلي إمتلاكه‮ ‬،‮ ‬وظل السجناءُ‮ ‬هناك‮ ‬،‮ ‬ظلوا كصخورِها‮ ‬،‮ ‬كالأشجارِ‮ ‬العملاقة التي ميزتها عن الجزر الفارغة‮ ‬،‮ ‬والجزر التي استولت عليها السلاحفُ‮ ‬والسراطاناتُ‮ ‬والقار‮ ‬،‮ ‬وحين قدمها له ضاوي في إحدى الصفقات المشبوهة‮ ‬،‮ ‬جاء ورأي إن الحشائشَ‮ ‬والنخيلَ‮ ‬والشواطئَ‮ ‬صارتْ‮ ‬قبوراً‮ . ‬وظلتُ‮ ‬جولاتهُ‮ ‬ودهسه للقبور لا تشفي‮ ‬غليله‮ . ‬وحذرهُ‮ ‬أحدُ‮ ‬الشيوخ المباركين أن يغيرَ‮ ‬شيئاً‮ ‬من معالم جزيرة الموتي‮ ‬،‮ ‬وقال له إن الجزيرةَ‮ ‬إستقبلتْ‮ ‬جثثَ‮ ‬السحرةِ‮ ‬علي مدي ألف عام‮ ‬،‮ ‬وأن كلَ‮ ‬محارةٍ‮ ‬،‮ ‬وغارٍ‮ ‬،‮ ‬وكلَ‮ ‬كهفٍ‮ ‬يحملُ‮ ‬أرواحاً‮ ‬سكنتْ‮ ‬بهدوء‮ ‬،‮ ‬وظلتْ‮ ‬تعيشُ‮ ‬علي أجسادِ‮ ‬السجناء بأطمئنان‮.‬
وكان دائماً‮ ‬يضحكُ‮ ‬علي تلك السذاجات وهو يأتي محاطاً‮ ‬بباقةٍ‮ ‬من الحسناوات‮ ‬،‮ ‬ويصرخُ‮ ‬في سكراتهِ‮ ‬الجموحةِ‮ ‬خاصة بعد الألعاب والصفقات الرابحة ؛‮ (‬اظهروا يا سادة يا كرام‮ ‬،‮ ‬إنني الكريم ابن الكرام‮ ‬،‮ ‬اتحداكم بقوة‮ !).‬
وضجَّ‮ ‬رعدٌ‮ ‬فارغٌ‮ ‬فجأةً‮ ‬وانهمر حصي علي السيارات‮ ‬،‮ ‬والهاربون يندفعون ويصطدمون بالحديد والزجاج والهياكل العظمية‮ ‬،‮ ‬يرون أشياءهم الحديديةَ‮ ‬ممزقة‮ ‬،‮ ‬لا تكاد تتحرك‮ ‬،‮ ‬وحين تتحرك تضربُ‮ ‬تلك الأجسام ذات الجماجم الغريبة التي تحملُ‮ ‬كشافات فوقها‮ ‬،‮ ‬وتدهسُها‮ ‬،‮ ‬ولكن سيولاً‮ ‬منها تظهرُ‮ ‬من كل جهة‮ . ‬من التراب‮ ‬،‮ ‬من لحاءِ‮ ‬الشجر‮ ‬،‮ ‬من الكهوفِ‮ ‬التي كتبَ‮ ‬فيها السجناءُ‮ ‬،‮ ‬من التلال ذات الأصداء والبروق‮ .‬
أغلب الهجمات كانت تتجه نحوه‮ ‬،‮ ‬طوابيرٌ‮ ‬تطيرُ‮ ‬نحوه بحماسٍ‮ ‬غيرِ‮ ‬معقولٍ‮ ‬،‮ ‬جماعاتٌ‮ ‬منها تنزلُ‮ ‬من السماء التي تحولت نجومها إلي قصاصاتٍ‮ ‬وذراتٍ‮ ‬من الورق والنور‮ ‬،‮ ‬ومن البحر كان التدفق الأعظم‮.‬
الرصاصُ‮ ‬المنهمرُ‮ ‬نفد‮ ‬،‮ ‬وتمكنتْ‮ ‬تلك الأجسام من جر خدمه إلي الغيران والكهوف وهم يصرخون‮ ‬،‮ ‬لكنه قذف السيارة في الظلمات الجسدية العشبية القضيبية وهي تتساقطُ‮ ‬عليه وتكَّون طبقةً‮ ‬من الرغوةِ‮ ‬الخضراء وتكسرُ‮ ‬الزجاجَ‮ ‬وتنفذُ‮ ‬إليه وتغرقهُ‮ ‬في مستنقع‮.‬

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من تقنيات القصة القصيرة عند القاص البحريني عبدالله خليفة (المكان في مجموعة سهرة أنموذجاً)

رواية «الأقلف» محاولة لتشكيل عالم مختلف