أعلامٌ على المـــــــــــاء : قصة قصيرة ــ لـ عبدالله خليفة

 

أعلامٌ على الماء

يمشي بخطواتٍ ثابتة منضبطة، الربان القصير السمين، بدلتُهُ العسكرية زاهيةٌ ملونة، يحدقُ في الأفق بثقةٍ وكبرياء، يستعرضُ ثلةً من البحارة الواقفة بثبات، وألوانُ وجوهِها السوداء والسمراء والبيضاء تجعلُهُ يهتزُ قليلاً، لكنه لا يركز عليها بل يتطلع للألبسة الناصعة والأحذية المرآوية النقية. 

يتدفقُ بكلماتٍ لا تخرجُ منه، يهزُّ الغيومَ والطيور والنوارس العابرةَ الهاربة من الحر الشديد.

فجأة إرتعشتْ صاريةُ العلمِ حين وقف نورسٌ عليها.

تمعنَّ الربانُ بكرهٍ شديد في الطائرِ الأعجف الذي راح يهتز ويُخرجُ فضلاته. بدا ريشه قذراً.

صوبَ مسدسه نحوه.

إنطلقتْ الرصاصةُ بقوة شديدة، ودوى الصوت، حتى أهتزت سراويل البحارة.

لم يتحرك الطائر.

فجأة دوت إنفجاراتٌ مروعةٌ بعيدة هزتْ المياهَ وهرب الطائرُ مسرعاً.

إنبطحَ الربانُ وأشار للجنود فتساقطوا وأحدثوا ضجة، فهزَّ يده مؤنباً غاضباً.

زحف نحو الحافة، إقترب من الماء المترجرج، وسمعَ دوياً آخر، وعمَّ الاضطرابُ البحر، فتقلقلَّ بشدة، وضربَتْ رأسُهُ الحافة، وشعر بألم لكنه لم يتأوه.

تناول المنظارَ من على صدره، إنحنى أكثر، رفع رأسه ببطءٍ شديد، راح يبحث عن النقط السوداء البعيدة، الخضمُ يرتفع، وثمة خشبٌ متناثرٌ وملابس ممزقة وغربان ميتة وزبد كثيف متطاير على مرأى المياه.

بدأت عيناه تلتقطان صورةً متكسرةً لسفن، تتجمعُ في جهة، تنتفضُ بقوة وتطلق سحباً سوداء وكرات حمراء، وترتد بعنف، وتثير الموج، القذائف تصل إليهم، وتهتز السفينة، وتضربها موجاتٌ عاتية، ويمطرهم البحر بلعابه، وتتساقط أسماكٌ صغيرة تضطرب على الخشب وتجري باحثة عن هواء.

يغتسل بملوحة كريهة، والمنظار يبتل، ويشاركه البحرُ في النظر، ويبحث عن تلك النقاط التي حُجبتْ بجبال الموج، ويرى نقطاً أخرى تغوص، الصواري متكسرة وساقطة، وكأنه يسمع دويها على الحديد والرجال، يتمعن بقوة، ينبطح بكلِ أجزائهِ على الخشب والماء، يرى المياهَ البعيدة تستوي والعلم الأصفر المرفرف يغوص في القعر، ويندفع للجانب الآخر، يرى العلم الأسود ما زال، يبدو ملتفاً على نفسه، أو جامداً.

يرتعشُّ من البرد، مصوباً عينه على الراية المرفوعة فوق سفينته؛ إنها راية صفراء!

عينه الأخرى على البحر والموج ودخان المعركة وشبح السفن الغارقة وتأتيه صرخات الربابنة من تحت الماء بفقاعات هائلة تتفجرُ في أذنه!

يقفز وأسماك صغيرة وبقع مياه وفقاعات تتطاير من سرواله، يصرخ في أسماع البحارة:

- غيروا العلم يا أوغاد! أما ترون دولتنا قد إنتصرت، لماذا تضعون علم الأعداء على سفينتنا؟

البحارة يتطلعون لبعضهم البعض، تحتك أصابعهم عبر موجات خوف ودهشة، تتبدى سحنات وجوههم في لون ترابي واحد، سيقانهم تظهر فجأة فوق السلم، خط أفعواني جلدي  يصعد بحركة لولبية سريعة أطلقت الكثير من الهواء الحاد.

الموج يضطرب ثانية، السفينة تتأرجح بقوة، الربان يسقط على جنبه، وتكاد تدخل ضلوعه نجمات بحر يابسة، نفقت من الخوف.

وصل المقدم للسارية، أنزل علماً، وناوله بحارٌ علماً آخر، ويده ترتعش، والسفينة تهتز، وراح المقدم يرفع العلم الأسود والطاووس داخله، في دائرة بيضاء، كانه ينفض ريشه ويطير في السماء.

السفينة تقتربُ منهم، تهز الموج، تمر عليهم، تقف لحظة، وثمة مجموعة من المدافع مصوبة.

ركد الماء، طالع الربان الجسم الهائل، بعين، وبالأخرى السارية، فوجد العلم الجديد يرفرف.

السفينة تحركت ببطء وجاءتهم دوائر ماء كبيرة ثقيلة.

لكن فجأة بانت عدة سفن صغيرة على الأفق.

طالع الربان الخيط الأسود المتقطع، الصاعد مع خضم المياه، وراح الخط يقترب والسفينة ذات العلم الأسود تستدير له، وتقف محمحمة في الماء.

هدأ البحر والكون.

بحث الربان عن منظاره فوجده متدلياً حول رقبته، رفعه ببطء وحدق في خط السفن البعيد وبحث بصعوبة عن الراية، فوجد واحدة، وذهل!

كانت رايةً خضراء ناصعة!

رفس بقدميه، وتحرك ظهره، وصاح بالمقدم، الذي هرول إليه وإنبطح قربه، وحدق معه.

ودوت الانفجاراتُ في الفضاء، وتناثرتْ مياهاً، وسقطت أشياء فوقهم، لم يعد يرى الربانُ رأس المقدم الذي أمتلأ بعشب وأسماك صغيرة قلقة.

حدق بقوة وهتف:

- هل لدينا راية خضراء؟

قال المقدم وهو يزيح البقايا بعنف:

- لا!

- أفعل أي شيء، خذ تلك الخرقة الملوثة القريبة للون الأخضر وأجعلها رايةً!

- لا يا سيدي لدي قماش أفضل رغم قدمه وبهوته.

- ما هو؟ أي قماش أخضر تجده هنا؟

- البساط الأخضر الذي نلعب عليه لعبة الورق.

- إذن ماذا تنتظر؟ أرفعه وجعله يرفرف زاهياً في الأعالي!

ــــــــــــــــــــــ

10 - إنهم يهزون الأرض! «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: رسالةٌ من بـينِ الأظافر - الأسود - عاليةٌ - جلسةٌ سادسةٌ للألمِ - غيابٌ - عودةٌ للمهاجرِ - دائرةُ السعفِ - الضمير - المحارب الذي لم يحارب - الموتُ حُبـَأً - إنهم يهزون الأرض! - حـُلمٌ في الغسق - رحلة الرماد - أعلامٌ على الماء - گبگب الخليج الأخير - المنتمي إلى جبريل - البق - رغيفُ العسلِ والجمر - عوليس أو إدريس - المفازة - قضايا هاشم المختار - أنشودة الصقر - غليانُ المياه».


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عبـــــــدالله خلـــــــيفة : أفق ــ فهرس العناوين لسنة 2014

الصورة : قصة قصيرة ــ لـ عبدالله خليفة