الضمير : قصة قصيرة ــ لـ عبدالله خليفة

 


كلُ تلك الطيوف كانتْ تطاردهُ ، هو واحدٌ من الناسِ يخطئ ويصيب ، تحسنتْ أحوالهُ الآن بعد أن كان مغموراً ، في القرية يلبسُ الثيابَ الوسخة ، يبحثُ عن عمل ، سنواتٌ بلا رزق، تغاضى عن تسللِ أختهِ للمدينة ، تسلقَ جدراناً وسرق ، فتحَ حسابات ، انغمرَ بالصلواتِ والحشود ، الصرخاتُ في الليلِ تطارده ، والراكضون وراءَهُ بكلابِهم يعجزون عنه ، تيَّبسَ وجههُ من إدعاءِ الفضيلة ، يصغي بحبٍ واهتمامٍ للشيخ ، يسألهُ وهو يختلي بهِ ، ويرددُ كلماتهِ دائماً والشيخُ معجبٌ به !

كان يتساءل : الشيخُ يسألُ عنه إذا غاب ، وحين يجيء ينشرحُ وجههُ ، والشيخُ يرسلهُ في مهماتٍ خطرةٍ ويغدو موضعَ سرهِ ، وهو ذو التاريخِ السري المريبِ فكيف لا يعرفهُ ؟ ! يلمحُ الشيخُ عبد الباسط بإنه متصلٌ برموزِ السماء ؟ فلماذا لا يطبقُ قبضتهُ على عنقه ؟ أهو سرٌ من السماءِ أن تعطيهِ فرصاً لكي يتوب ؟

قفزَ في إحدى الليالي بيتاً متواضعاً لم يكن ثمة حسٌ فيه ، عتمةٌ شديدةٌ في الدروبِ إليه ، وفي المنزلِ كان ثمة ضوءٌ شحيح . راقبَ منزلَ العجوز طويلاً ، عرفَ بسفرِ أهله ، ويدرك كم هو العجوز بخيل وجامع للأموال ، ويكرهُ البنوكَ ومحرماتِها . سمعَ ثمة أصوات خافتة ، طلَّ بحذرٍ شديدٍ فرأى العجوز منبطحاً وثمة رجل يعطيه ظهرَهُ يدلكهُ ويقرأُ عليه . تراجعَ لغرفة أخرى وحفر وأخرج ثروة . راح ينشفُ عرقَهُ ووضعَ الخرقةَ الثقيلةَ الثمينة على كتفه وأراد أن يخرج ، فوجد رجلاً أمامه ! الرجلُ لم يصرخْ وينادي كالعادة لتتكهربَ أسلاكُ الأرضِ والسماء في إرتجافات متشنجة تـُخرجُ كلَ عفاريتِ الأزقة ، بل أرادَ أن يتنحى جانباً ويتركه يمر ، لكنه ظن أنه يريد الهجوم عليه فأخرج سكينَهُ بسرعةِ ومضٍ وطعنهُ !

تدلى وجههُ قربه في همسةِ ألمٍ مكتومةٍ لكن حادة . فعرفَ فيه شخص سامي الترابي ! فأزاحه وتركه يسقط ويتلوى على الأرض .

في اليوم التالي كانت الشرطةُ تدقُ البابَ بقوة ، وتسحبهُ للمركز حيث استلمه ضابطٌ كبيرٌ وسأله :

- ماذا يقول لك الشيخ عبدالباسط في جلساتكما الأخيرة ؟

هدأ تشنجه ، إنه دفن المسروقات في عمق الأرض ، في حقلٍ مهجور ، في ظلمةِ الليل ، وفي كلِ لحظةٍ كان يخاف أن يُطرق البابُ ويُنتزع من فراشهِ ليحفر ويستخرج الأشياء والنقود ويُجرجر للفضيحة . قال بقوة :

- نبحث شؤون الناس كالعادة يا حضرة النقيب .

- تبحثون شؤون الناس أم توزعون المجموعات للقيام بأعمالكم المزعزعة للأمن والهدوء؟!

كانت الدروبُ تشتعل ، وجمهورٌ كثيفٌ يرفعُ الشمسَ على الأزقة ، وهو يقفُ بقرب الشيخ الذي يدوي صوته ، ويرى في الجمهور الغفير سامي الترابي لا يزال حياً ، ولم يتذكره كثيراً ، بل جاءَ في ومضاتٍ أُنتزعت من راحتهِ ومن وحشتهِ ، في ذلك الخلاء من حبِ الحياةِ وبناءِ البيت والزواج بامرأة أخرى ، في تلك الارتجافاتِ الحادةِ التي تَختمُ بالشمعِ الأسود لحظات البهجة ، وفي هذه الجَمعةِ الهائلةِ الصاخبة من البشر ومن هتافاتِ العدالة ، كانت عيناهُ ترتجفان وتبتعدان عن مركز الدائرة ، حيث يقف سامي منزوعَ الثيابِ وفي صدرهِ سكينٌ غائصةٌ حتى الأشرطة الخضراء المُغلِفة للقلب .

تأملْ يا سيدي هذه الروحَ الغادرةَ ، حيث الدخانُ يقتلُ الأطفالَ ، والرصاصُ المطاطيُّ يتسللُ لبطونِ النساء ، والشيخُ يسمعهُ ويمسكُ يدَهُ وهما يدخلان الزنزانات ، ويتوارى الأخوةُ من فضائِهما ، ويتركون لهما الأسرةَ والحجرَ والغذاء ، وتأتيهِ ضرباتُ الأكفِ الغليظة على وجهه ، ويُتركُ في الظلام بضع ساعات والنملُ يأكلُ قدميه ويذكرهُ بالثروةِ المدفونةِ والمأمنةِ في بنوكِ الكفار ، فيغدو مُسجلةً من اللحمِ والأسى قرب الشيخ ، ويرتفعان في الكهوف والصخب البشري وفي الخيوط المهترئة للنسيج الفاعل ، وصورتهُ تملأ الشوارعَ والفاكسات الصاخبة من وراء البحار ، وصوتهُ يُنقل في فضائياتِ الرعبِ السماويةِ بقربِ الأئمة الصالحين ، ولم يستطعْ أن يعبئ الشيخَ عبدالباسط بالشكوك من سامي الترابي ، الذي يظهرُ في حشودِهم ، ويسكرُ ، ويطالعُ كتباً مدنسة ، والشيخُ فتحَ كتبَ التفاسير والفأل والفتاوى ، ولم يجدْ عقرباً يتسلل إلى عينيه .

تتقلبُ به الحياة ، لم يتوقعْ أن يقفَ بديلاً عن الشيخ عبدالباسط أمام الجمهور الحاشد ، الشيخُ تردتْ صحتهُ لكن ما زال عقلهُ يعمل ، ويجثم في بيته ، يرسلُ الحمامَ الزاجلَ للسماء ، وتعتني بصحتهِ صبيةٌ جميلاتٌ ، ووقفَ في قبةِ البرلمان وظهرَ في التلفزيون الذي كان يطاردهُ بإعلاناتهِ ، ووجه أصبعهُ نحو سامي ، وصرخ : (يجب قتل هذا الرجل !) .

الاجتماعاتُ كثيرةٌ ، والأخوةُ يؤشرون نحو خرائط عديدة ، والأراضي تنتقلُ ، والأسواقُ تُهدمُ فيها منازلُ فقراءٍ رثين وذوي سلوك خطر ، وتُفتح جمعياتٌ عديدةٌ في الريفِ لصنع التمائم وصيد الشياطين ، والنقيبُ الذي صار لواءً يتسلمُ نفسَ التقارير بأسلوبهِ الركيك ، ويجتمعُ مراتٍ نادرةً بالشيخ عبدالباسط يهمسُ في أذنهِ عن سامي ، والشيخ يمشي في نومه ، أو يتسلل لمخادعِ الصبية ، ويتساءل بذهولٍ ومكرٍ: (من هو سامي هذا الذي تريد زعزعة الجماعة بإدخاله في القيادة؟) .

صورةُ المنزلِ المعتم ، والسكينُ التي تغوصُ في ورقِ الإيمان ، دعتهُ لتشكيلِ لجنةٍ من أنقى وأصفى قوى الجماعة ، وكان طرحُ مسألة سامي على بساط البحث العام مسألةً مخيفة.

الوجوهُ التي تجمعتْ حول طاولة السر لم تُذهلْ من هذا . رغم أن سامي لم يجد أصحاباً كثيرين في الجماعة ، سوى امرأة تهذي في الدروب والحارات وتصنعُ حلوى سحريةً للأطفال ، وثلاثةَ رجالٍ لا زالوا محبوسين في عهد الحرية الذي أُعلن على الملأ ، ورجلاً في جزيرة نائية ينشرُ أوراقاً ، رغم ذلك فإن الأفواهَ المجتمعةَ كلها بصمت على تقرير الموت .

طالعهم بذهول . كان يتوقعُ عواصفَ من خط الأستواء ، ركّبَ أجهزةَ تنصتٍ ، وبحثَ في شاشة كبيرة ذات مستويات مشهدية متعددة لتدفق أموالهم ومشروعاتهم، ومراسلاتهم للجبال ، والجن المؤمن ، إلا أنه لم يجدْ ما يُريب ، رغم الأرقام الأسطورية التي صارت مثل تلال اللحى وفضائيات الضفادع وصناديق الخير.

 توجهتْ ثلةٌ مدججةٌ إلى منزل سامي .

الخريطة التي أُعطيت لها كانت مضللة . تعبتْ في العثور على تلك العشة الريفية التي سكن فيها سامي . أشار الحرسُ الجمهوري لها بأنه يسكنُ على سطح عمارة . بينما الجيشُ وجهها نحو كهفٍ بحري لعب دوراً مميزاً في كشف قوارب التهريب . الحرسُ الوطني وكتائبُ السجون ومعسكراتُ الأخلاق الحميدة وإعادة التربية توافقت على وجودِ منزلهِ في الجبل الأسود حيث لا تزال شراراتُ الحروبِ الأهليةِ باقيةً في الحقولِ المحروقة . لكن كتائبَ الشيخ عبدالباسط ومدارس التحفيظ وحرس الشريعة بعد قيامِها باستخاراتٍ عديدة حددت الجهة الصحيحة لعشة سامي .

قامت الثلةُ بحرقِها لكن جثةَ المغدورِ لم يُعثر عليها .

29/3/2014

ـــــــــــــــــــ 

10 - إنهم يهزون الأرض! «قصص» دار نينوى للدراسات والنشر 2017.

«القصص: رسالةٌ من بـينِ الأظافر - الأسود - عاليةٌ - جلسةٌ سادسةٌ للألمِ - غيابٌ - عودةٌ للمهاجرِ - دائرةُ السعفِ - الضمير - المحارب الذي لم يحارب - الموتُ حُبـَأً - إنهم يهزون الأرض! - حـُلمٌ في الغسق - رحلة الرماد - أعلامٌ على الماء - گبگب الخليج الأخير - المنتمي إلى جبريل - البق - رغيفُ العسلِ والجمر - عوليس أو إدريس - المفازة - قضايا هاشم المختار - أنشودة الصقر - غليانُ المياه».


تعليقات